ولدت الكاتبة الفرنسية مارجريت يورسنار في 1903 وعاشت في الولاياتالمتحدة وحصلت علي جنسيتها ثم توفيت في1987 تعتبر يورسنار أول امرأة فرنسية تحصل علي عضوية الأكاديمية الفرنسية عام 1980، وتعتبر روايتها "مذكرات هادريان" من أهم مائة كتاب في التاريخ الإنساني في كثير من القوائم الأدبية المرموقة. وهي كاتبة غزيرة الإنتاج، كتبت الرواية والقصة والشعر، كما مارست الترجمة والنقد، ومن بين أعمالها المشهورة "الهاوية". هنا حوار متخيل أجرته الكاتبة الجزائرية الفرنسية أسيا جبار، التي ودعت عالمنا منذ شهور قليلة، مع الكاتبة مارجريت يورسنار، وذلك بالأكاديمية الملكية للغة الفرنسية ببلجيكا عام 2007 ، وقد نشرته مجلة ليترر الفرنسية.أتذكر أنني بمناسبة حفل تسلمي لجائزة مارجريت يورسنار عن مجموعتي "وهران، لسان ميت"، والذي نظمته جامعة هارفارد، في بوسطن، سلّمت نفسي أمام الجمهور لتمرين من "الحوار المتخيل مع مارجريت يورسنار". واتتني فكرة "الحوار المتخيل" عندما علمت أن مارجريت يورسنار، المترجمة الشابة لرواية "أمواج" لفيرجينيا وولف، كانت قد قابلت آنئذ في لندن أختها الكبري الإنجليزية. وعندما تتحدث يورسنار عن هذه المقابلة، نكون مستعدات، نحن الكاتبات المشتغلات في نهاية القرن العشرين، لأن نقشعر متأثرات بفكرة المقابلة وجها لوجه- منذ ستين عاما- بين هاتين السيدتين الرائعتين الإستثنائيتين، اللتين كان يفصل بينهما حينئذ ما يقرب من ثلاثين عامًا. وفي هذه الحالة، يبدو لي، في الحقيقة، أنه لم يقل أي شيء بالفعل في تلك المقابلة: فبكل تأكيد، لم تكن السيدة يورسنار سوي مجرد مترجمة في نظر فيرجينيا وولف التي تناولت كل الجزء الأخير من حياتها، وهو بالتأكيد الأكثر عرضة للانجراح. بدا اللقاء شكلي محض، سمحت فيرجينيا، علي ما يبدو، للشابة الفرنسية، بالحرية التامة من أجل الترجمة. إذن لم يكن هناك حوار فعلي: لم يمر تيار بين سيدتي القلب والحساسية. ليس هناك حتي تبادل لأحاديث أدبية، لأنه من دون شك ما كانت يورسنار لتجرؤ أن تذكر كتاباتها الأولي كمؤلفة أمام "السيدة العظيمة" للآداب الإنجليزية. في الحقيقة، لابد أن ذلك كان في مرحلة العد التنازلي، فالسيدة الأكبر عمرًا، والأكثر شهرة، هي بالأساس، كانت الأكثر قلقا وهي تلج شيئا فشيئا إلي الكروب التي ستمنحها السبب وستقودها إلي الانتحار (رأيت هذا البيت وهذه الحديقة خاصة النهر الذي غرقت فيه، بالحجارة التي ملأت بها جيوبها). وكانت إذن الأصغر، المبتدئة تقريبا، التي تجلس أمام فيرجينيا، تبدو متصلبة من الخجل واللياقة، وعلي الأرجح كانت حينئذ الأقوي، فلقد أُحبطت فقط في البداية حيث لم تظهر فيرجينيا وولفاسوي ترحيبا لطيفا اتجاه المترجمة الفرنسية. ما كان هناك أبدا محادثة فعلية -من الفعل الحواري، من الأسئلة، من الملاحظات، من الشكوك المتقاطعة- كهذه الديالوجات التي يمكن تبادلها في بعض الأحيان بين الكاتبات من مختلف اللغات، مختلف البلدان، علي الأقل، خلال هذه العقود الأخيرة. لماذا إذن رسمت لهذه المقابلة المجوفة بين السيدة يورسنار وفيرجينيا (وسوف ترون بالفعل أنه، حتي بالنسبة لنا اليوم، تظل يورسنار "السيدة يورسنار" والعظيمة، المقلقة، فيرجينيا وولف أصبحت في كثير الأحيان بالنسبة لأخواتها اليوم" فيرجينيا")؟ لقد تأخرت في أن أقول لنفسي إن المقابلات الواقعية بين الكتاب الذين يفصل بينهم عشرون أو ثلاثون عاما تكون في الأغلب الأعم رسمية. هكذا أشعر بالأسي لأني لم أقابل قط أنا، المجهولة الاسم في قاعة ندوات-، من قريب أو من بعيد، السيدة يورسنار. يبقي إذن التوافق، التمرين الأدبي علي "الحوار المتخيل". السيدة يورسنار، أود أن أقول بداية أمام الرائعتين اللتين شكلتا شهرتك العالمية، مذكرات هادريان والهاوية ( لقد كتبت الاثنتين في الولاياتالمتحدة ويفصلهما، قد يلزم أن نذكر ذلك، 17 عاما من العمل)، وأنني احتفظت بهما في مكتباتي علي الرغم من ترحالاتي الكثيرة من بلد لبلد (والآن من قارة لأخري) أنا القارئة والكاتبة التي لم تقتحم نوع "الرواية التاريخية" إلا في الجزء الثاني من حياتها، إذن أمام هذين العملين المزدحمين بالشخصيات، الأحداث، الأفكار، دائما أبدأ بالنهاية، أي بملاحظات المؤلف. حيث إنني أشكرك علي ما تفيضين به، في وقت إصدار الكتاب، "كامرأة في مطبخها" أو كصيدلانية، أو أيضا ككيميائية، مفصلة خلطاتك، وصفاتك، فلنقل بكل بساطة مصادرك. للوهلة الأولي، أحري بي أن أُحيي الصنايعي علي أمانته الموسوسة والدقيقة: فلنتذكر، بالنسبة لكتاب يدور في الأزمنة القديمة، المراجع المتبحرة، التذكارات الأدبية، صور وتماثيل الفن القديم، الرسومات، النقوش الغائرة... بينما بالنسبة ل زينون (المفترض ميلاده في 1510 ) تذكرين لنا أنه كان معاصرا للجراح العظيم أمبرواز باريه، ل جوردانو برونو الذي مات بالنار (زينون، سينتحر) حيث العديد من حلقات حياته قد أُعيرت من حياة إيراسم( بخصوص الميلاد غير الشرعي)، وأن تدخلا جراحيا قد "ضرب بقوة"، كما تقولين، حول الحكاية التي قالها عن أمبرواز باريه في مذكراته، وأن العديد من جمل الحوار التي يتدخل فيها زينون هي، كما تعترفين، من ليوناردو دافنشي، بخصوص الوصفات الكيميائية باللغة اللاتينية كنت قد أخذتها عن أعمال فقهاء العلم الضالعين في الكيمياء حيث زودتنا بالمراجع. في المجمل، سيدة يورسنار، تقلبين الخرائط، تبسطين أسرار ملكوتك.. تذكرين علي وجه التحديد بما يكفي من الفخر بأنك صنعت من المزيف( زينون المتخيل)، بواسطة قطع مبعثرة من واقع موجود، مقروء أو مشاهد، وأن كيمياء الكتابة تلك يٌحدثها نبض الحياة، الكائن الحي يشرق تحت أعيننا. تتركين لنا الحكم علي ذلك. وكما أشرت في نهاية هادريان( "مفكرة ملاحظاتك" كانت قد دونت بعد ست أو سبع سنوات من الطبعة الأصلية 1951):"ثمة قدم في المعرفة الواسعة وأُخري في السحر، أو بدقة أكثر، ودون استعارة، في هذا السحر الوجداني الذي يستند علي الانتقال من الفكرة إلي داخل شخص ما." وبالكاد أبعد قليلا من ذلك، تضيفين( بالتناوب، طبقا لطريقتك الفريدة ، الشك مع سَكينة وثقة تلك التي تنهي عملها كما كان يجب أن تنهيه):" كل شيئ يهرب منا، كل شيئ حتي أنفسنا. حياة أبي مجهولة لي أكثر من حياة هادريان!" هذه الجملة التقريرية "كل شيئ يهرب منا" قد تدهشنا من امرأة مثلك والتي دون شك سرعان ما جمدتنا بتمكنها من الشخصية والأسلوب، وأعود لها هذه المرة لأقول لك إلي أي مدي ملاحظات المؤلف المصاحبة لهاتين الروايتين اللتين تدوران حول السلطة- روايتين سأعرفهما كروايات "أوروبية"، الأولي في غرب الإمبراطورية الرومانية، الأخري في القرن السادس عشر من الإنشقاقات الدينية والمنافسات الفرانكو أسبانية- جعلتني أشعر كم أن هذه الأعمال مشيدة من خلال رؤية واسعة للعالم وبإرادة حاكمة من امرأة، إلا أنها قد جازفت بعدم وجودها. نعم، أنت نفسك من قلت ذلك. بضحكة خفيفة، كما لو بشكل عابر. قصصت علينا، بشكل خاص، هاتين الحاشيتين الطويلتين، مصدر كتابتهما. لقد بعثت إلي الحياة امبراطورية هادريان. ابتكرتِ، فيما بعد ب 17 عاما، زينون، رجلي السلام معا، يتباحثان من أجل المحافظة عليه، مصرين علي التعافي، علي تجنب الاضطهاد، بأن يضعا نظرة شفافة علي اضطرابات عصرهما.. لكن يلزم لذلك شئ ما. هذه الشخصيات التي تسكنك منذ مرحلة شبابك، تسلمين إلي المصادفة الخارقة تقريبا ( وهناك ظل رواية، خلف كل رواية) ميلادهما النهائي. فلنتذكر أن هذا الكتاب الذي بعث الحياة في هادريان، تقولين إنك بدأتِ في تسطيره بين عامي 1924 و 1929 حينما كان عمرك بين العشرين والخامسة والعشرين. هذه الأعمال المهجورة استئنفت بين 1934 و1937 حينئذ جملة واحدة مما كتبتها في 34، وكانت أيضا مهجورة، ستبقي في النص الحالي. وهكذا تخليتِ عن المشروع من 1939 حتي 1948وتضيفين تعليقا كاشفا: "هوة يأس الكاتب الذي لا يكتب"، حينئذ تتدخل المعجزة: في ديسمبر 1948 تتلقين من سويسرا صندوقا مملوءاً بالأوراق القديمة من عشر سنوات. أثناء إحدي الأمسيات تخرجين، تقذفين، تحرقين، ثم خمس ورقات منسوخة كانت علي وشك التدمير تقريبا، تقرئين:"عزيزي مارك." تفكرين:"مارك؟ أي صديق، أي عاشق، أي قريب بعيد كان المقصود؟" لا تتذكرين أي مارك. تقرئين أيضا بعض السطور. المقصود مارك أوريل وهذه شذرة من مخطوط من عام 1939 الذي كنت قد اعتقدت أنه ضاع. في تلك الليلة تقرئين مجددًا ديون كاسيوس والتاريخ الأوغسطي. تلك الليلة، اتخذت القرار بالعودة إلي الإمبراطور.."رحلتِ إلي مدينة تاوس، في نيو مكسيكو!" في عربة قطار بين نيويورك وشيكاغو، تكتبين. اليوم التالي في محطة شيكاغو (القطار محتجز بسبب الجليد)، تكتبين. كذلك، في اكسبريس مدينة سانتافي، تضيفين : بالكاد أتذكر النهار المتأجج والليالي الصافية جدًا"، ثم في 26 ديسمبر 1950 أي بعد عامين بالضبط، في جزيرة مونت ديزيرت، تكتبين الصفحات الأخيرة عن موت هادريان والتي تنهينها بفكرته الأخيرة :" فلنحاول أن ندخل إلي الموت، والأعين مفتوحة" بالنسبة لرواية "الهاوية" تذكرينا أيضا أن مصدرها كان في حكاية من خمسين صفحة، معنونة طبقا لدورير، ونشرت عام 1934. هذا النص نفسه ليس سوي بقايا أنقذت مما أطلقت عليه "رواية فائقة الطموح"، كتبت بين عامي 1921 و 1925 . هنا، من جديد: الفتاة ذات الرؤية شديدة الاتساع يجب أن تؤكد أنه ليس لديها(ولن يكون لديها) وسائل التخيل، كنت سأتحدث عن "زياراتها". في 1955، أي بعد مرور 21 عامًا وبعد حكاية الخمسين صفحة، يبقي من الرواية الحلم عشر سنوات تقريبا. من المسودة الأولي الأصلية لم يبق، كما تقولين لنا، سوي بعض شذرات في الفصل المعنون ب"محادثة إلي إنسبروك". رواية الهاوية الحالية كانت بالأساس محررة بين عامي 1963 و1965 في مقابلة كنت سمحت بها فيما بعد، سوف تذكرين يوم أن انتهيت في منزلك في جزيرة مون ديزيرت من الرواية (عبر موت جديد للبطل، وهذه المرة موت بإرادة). تقولين بعد أن كررت ثلاثمائة مرة- وكأنك في حالة سكر- اسم زينون. "زينون هنا أخيرا!"، تعتقدين ذلك. استنفاذ أم انتصار؟ علي أي حال، هنا أيضا، بعد التخلي، العدول، الابتعاد، تستعدين المهمة وفي حركة أخيرة، طويلة وبطيئة، يوجد الكتاب أخيرًا. ربما كان يلزم، أعود لملاحظاتك حول مذكرات هادريان، هذا الحل الديمومي، هذا التصدع، هذا الظلام النفسي الذي كابده الكثير منا في هذا العصر، كل واحد علي طريقته، وفي أغلب الأحيان بطريقة أكثر تراجيدية وأكثر حسما مني، حتي تجبرني علي محاولة ملء ليس فقط المسافة التي تفصلني عن هادريان، بل وخاصة المسافة التي تفصلني عن ذاتي! نحن موجودون هناك! أُنير هنا مكانا حساسا، كنت سأقول قابل للجرح. لأنك قابلة للجرح، سيدة يورسنار، أو علي أي حال كنت كذلك. في مشقتك، وعلي طريقك للكتابة وعلي الرغم من كل أسفارك، لذاتك، حرياتك، ومداومتك العجيبة علي الحياة. أعود، في النهاية، إلي المواجهة المذكورة في البداية: أنت الفتاة المبطنة، البادية خجولة والتي تجلس أمام فيرجينيا وولف لتطلب السماح بالترجمة إلي الفرنسية! كان من السهل تخيل فيرجينيا وولف موجعة، مكتئبة، واهنة، لذلك تبدو الآن بعيدة. لك رسمت صورة صلبة بأسرع ما يمكن. الأكثر صلابة من بين الاثنتين. شابة، مختالة، وفقط محبطة بسبب عدم تبادل المحادثة، بسبب الاتفاق الذي لم يسمح بحوار حقيقي. لكنك اليوم بعد أن أصبحت ملاحقة من شبح كتابيك الرائعين، أكتشفك هشة، مرتابة، يائسة ثم، وبمعجزة، أخيرا تأخذين وثبتك، كما قلت ذلك تقريبا بشغف، لتفطني في النهاية، عبر الإبداع الرائع لمصطلح" أيام متأججة وصافية". مدام يورسنار، في ذلك ستبقين مثالا. بعد عشر سنوات من وفاتك وفي الأرض الأمريكية، فرنسيتك انتقلت هنا، سأوجز حياتك كحياة "جوالة" مرتفقة بحياة "ساكنة" . شاكرين الرواقية التي هي أنت.