متي يعامل النقاد شعر العامية باعتباره جنسًا أدبيا؟ يمثل شعر أسامة البنا وجها من وجوه النص الأدبي المعاصر من حيث مواجهته الجمالية والثقافية لما يجري علي أرض الواقع المعقد، ولعل من اللافت أن يتصدي نصٌّ (يجعل العامية المصرية وسيلته) لهذا القدر من التعقيد والتشابك والتقنيات التي يبدو من بعيد أنها متنافرة مع شعر العامية الذي وُجِد ليكون شفهيًّا جماهيريًّا معتنيا بالإيقاع ومعتمدًا عليه ومعتدًا به.. ويمكن رؤية ذلك بوضوح في دواوين البنا ونصوصه التي لما يحوها ديوان بعدُ. أسامة البنا شاعر مصري يعيش بين الأقصر وأسوان، وقد صدر له "لا هناك ولا.." 2000، و " ما تسميهاش مريم" 2008، و"الحقايق تتشاف ف العتمة" 2012، وآخرها ديوانه "حارس الصحراء الضرير" الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. "حارس الصحراء الضرير" ثلاث مفردات تكون العنوان، تربطها علاقة احتياج؛ فالأولي تحتاج إلي الثانية لتخصيص معناها (تركيب إضافي) ، وبوجود الثانية صارت الأولي معرفة لكنها بحاجة إلي صفة تبين ماهيتها، لكن حاصل الجمع الناتج يضعنا بالأساس أمام ضدية ما وضعته القواعد النحوية المهيمنة أساسًا لها فعلاقة الأولي بالثانية فائدتها: "التعريف" وعلاقة الأولي بالثالثة فائدتها: " توضيح المنعوت لأنها معرفة، فقولك: جاءَني زيدٌ، وإن كان معرفة لكنه يشمل كلَّ من اسمه زيد، وبقولك: جاءَني زيدٌ الشجاعُ، قد أوضحتَ أن الذي جاءك لا يشمل إلا مَن كانَ شجاعا ممن اسمُه زيدٌ، ولذلك قالوا: التخصيص يقلل الاشتراك في النكرات، والتوضيح يرفع الاشتراك في المعارف". فما ينتج من معني هنا مخالف تمامًا فالكلمة الأولي "حارس" تم سلبها أولا بالإضافة "الصحراء" فمن يحرس لا بد له من مكان محدد له أول وآخر وهذا يتناقض مع الصحراء إذ التيه والهلاك وترامي الأطراف حتي لقد سماها العرب: "بيداء" لأنها تبيد من يحاول اختراقها جاهلا بدروبها ففي مقاييس اللغة: "الباء والياء والدال أصلٌ [واحدٌ]، وهو أن يُودِيَ الشيءُ. يقال بادَ الشيءُ بَيْداً وبُيُوداً، إذا أَوْدَي. والبَيْداءُ المفازة من هذا أيضاً". و "مفازة" لفوز من يخرج منها. ثم تأتي "الضرير" قاضية علي ماهية الحارس الذي يعتمد علي قدراته وحواسه فائقة التركيز.. نحن إذن أمام حارس مهزوم قبل أن يحدث شيء. اللافت في العنوان أكثر هو كونه تناصًّا معبرًا عن الثقافة المصرية الممتدة في الزمان والمكان فالحارس رمز من رموز الحضارة الفرعونية، فيما تأتي ال "الصحراء" رمزًا للحضارة العربية، علي حين تأتي "الضرير" رمزا للحضارات الإغريقية واليونانية فغالبا ما كان العراف ضريرًا. الديوان كاملاً يسير علي الخطي ذاتها؛ لعب مع التقنيات الجمالية وأهمها التناص والمعادل الموضوعي، مع الحفاظ علي ما يخص الشعر بوصفه جنسًا له ملامحه الخاصة، والحفاظ علي نوعه العامي من خلال استبعاد المفردات الصعبة والغريبة. الحارس العاجز للامحدودية المهمة ولقصوره يوجد في كل نص تقريبًا؛ فالنصوص في قصرها أقرب إلي "الإبيجراما" فكأننا بإزاء شاهدِ قبر أو وصية أخيرة لمحتضر، لا ينتظر من ذريته العاجزة مجدًا ولا ثأرًا.. وهي أيضًا استجابة لروح العصر المعتمدة علي القصر بما تشجعه وسائل الإعلام الاجتماعي للتدوين المصغر؛ الفيس بوك وتويتر.. وهي محاولة لاستنساخ الرباعيات الشعرية وإن تخلت عن البحر والقافية. وتسير عناوين القصائد علي القاعدة ذاتها؛ تناص تراثي يتماس موضوعه مع ما يجري في الواقع بلغة قريبة من المتلقي قارئًا كان أم مستمعًا فنري: " زامر الحي - المطففين - اللاحال - خصومة ع البصيرة - الغنايم و الغواية - الخُسر - الجنة الجبرية - ضل الإمامة..." وتبدو قصيدة "راعي الغنم" نموذجَا مثاليَّا للولوج إلي الديوان عبرها: "قولي للريح تنتظرني| أعد غنماتي.. وأعلَّمها| وأسميها بأسماء البلاد| وأقرا تعاويذ الرعاة قبل الميلاد| وأعد زاد للريح| وقطَّاع الطريق| تنتظر أحفظ ملامح كل ما (ملكت يدايا)| والسبايا| وأسرَّح الزوجات علي الأربع جهات| وأني مطرح ما تحطي يا ريح ح احط| من زمن قالع ارادتي حتة حتة| واللي فاضل مني جتة| عارفة إمتي تبتدي قصص الغرام| وإمتي تحنيط الأحبة" إن العنوان بداية يحيلنا إلي التراث العربي حيث راعي الغنم الذي صار نبيا مقاوما لجاهلية قومه، من هنا فإنه من المنطقي شيوع المفردات ذات الحمولة الثقافية والخصوصية العربيتين "ريح قطاع الطرق ملكت يداي السبايا الأربع" لكن النص في الوقت ذاته لا يتخلي عن مصريته القديمة " تعاويذ تحنيط" فيما يأتي اهتمام النص بالنغم عبر القوافي القصيرة: "البلاد = الميلاد.. يدايا = السبايا.. حتة = جتة" مع تقارب الأسطر الأربعة الأخيرة مع الموال الرباعي الأعرج: " من زمن قالع ارادتي حتة حتة| واللي فاضل مني جتة| عارفة إمتي تبتدي قصص الغرام| وإمتي تحنيط الأحبة" هنا يبدو الاعتراف بالهزيمة واضحًا للغاية؛ فالريح التي سخرها الله للنبي سليمان لينتقل بها هو جيشه صارت وسيلة للهروب من مكان لم يعد صالحًا للحياة إلي مكان سوف يكون غير صالح بعدها بمدة تطول أو تقصر، ولطول عهد القائل بالإتاحة والرحيل فإنه قد أعد لكل شيء عدته لكنه لم يحسب حساب الريح التي هبطت فجأة. لا يفكر القائل في المقاومة ولا في الحفاظ علي ما امتلك، فقط يفكر في أن تمهله الريح ليعد ويُعلِّم ويحفظ في ذاكرته ويُسرح.. كل هذا الاستعداد للفقد ولا نية للمقاومة؛ لأنه ببساطة يعترف بأن الزمن أخذ منه إرادته، وما تبقي منه جثة تعرف دورها المرسوم بدقة.. "راعي الغنم" حين يقرأ في سياق ملاحم الإغريق فإننا نجد بطلاً يعرف قدره: الهزيمة، ونتيجة لهذا الاعتراف فهو يفر، وإن قُرئ في سياق الهجرة الإسلامية فإن ذلك لا بد مستدعٍ "الخروج" لعبدالصبور: "أخرج من مدينتي من موطني القديم| مطرحا أثقال عيشي الأليم| فيها، وتحت الثّوب قد حملت السّري| دفنته ببابها، ثمّ اشتملت بالسّماء والنّجوم" إن الوشيجة بين النصين ليست استدعاء الطرف التراثي فقط وإنما طريقة التعامل مع هذا الطرف؛ أهمها هو تحويل هذا الطرف من ايقونة دالة علي شيء بعينه إلي مكونٍ متحرك خادم للنص لا يقف عند ما أنتجته الدلالة الأولي الجامد، وهذا الأمر قد يصل حد عكس الدلالة كما جري في نص" مقابلة خاصة مع ابن نوح" لأمل دنقل. ويستثمر الشاعر إمكانات البلاغة العربية في قصيدته: " زامر الحي" وقد اختار هنا (التركيز) من علم المعاني "الاستفهام" ومن علم البيان الاستعارة ومن علم البديع المقابلة في أوسع تجلياتها بما يمكن أن تقترب من المفارقة: "ايه يخلَّي بيوت تجازف بالسكينة| تزق مطارحها لبعيد؟!| واللي طالل ع السكك ريحة شياط| كدليل واخدنا من إيدينا للمصير؟! لا لي عصاية باهش بيها ع الغنم| و لا لي غنم| حتي المآرب زي قارب| واندفن جوا الرمال كل ما دقت طبول المعركة| صرخت ضلوعي المنهكة ف حد السيوف| قالت: يا هدنة. آه يا شهوة سيف جريح| داخل ف عتمة يسد تاره| جوا داره (زامر الحي)..| اللي راشقه بين ضلوعه الربابه| قايم يهش في غربته| وخفافيش بتتداري ف عبه. في الحركة الأولي يبدو السؤال الاستنكاري داعيا إلي الصمت فإنها ستخسر سكينتها بحركتها (المجازِفة) والنهاية معروفة (ريحة شياط) أما الحركة الثانية فإن المخلص الفرد منزوع مما يُمكنِّه من الانتصار فلا دعم إلهي ولا طموح يحركه فقد صار يشبه قاربًا مدفونًا في الرمل. فيما تأتي الحركة الثالثة: معبرة عن الصراع بين الخارج: طبول المعركة. والداخل: ضلوعي المنهكة. الصارخة بعدم القدرة إلا علي نداء الهدنة. لذلك بنفض الناس عن زامر الحي، ونجد أنه لا يطرب لا لأنه لا كرامة لنبي في وطنه، وإنما لأنه آثر الانعزال والصمت والعتمة والخفافيش. بإيجاز يمكننا القول إن نصوص البنا تغامر إذ تختار التعامل مع التراث، وتزداد المغامرة حين لا يتوقف التعامل عند الاستدعاء بل حين يصل إلي إعادة البناء وفق رؤي الناص وموقعه من الحياة المعاصرة بما يجعل المتلقي بحاجة إلي إعادة التفكير أكثر من مرة وإلي استخدام ثقافته في فهمه أو يجعله يسلِّم بأنه أمام عالم جديد عليه أن يفهمه من خلال ما يجري حوله. يبدو كل نص وإن كان قائمًا بذاته جزءًا من الديوان الجامع؛ فثمة فكرة عامة كخيط يجمع الحبات، فأسامة البنا يصوغ بموهبة وصنعة ووعي معالجة أدبية بفنٍّ يبدو أنها نقيض ذلك، وهذا يدعونا إلي سؤال: ماذا توفر باحثون ونقاد للنظر في منجز شعر العامية المصري علي مدار تاريخه؟ والجواب: لوجدوا نصًّا أدبيًّا ولغة رائقة وقراءات معمقة.. لوجدوا شعرًا حقيقًا بالدرس والتلقي.