قرأتُ له قبل أن ألتقيه في ندوة الرواية بمدينة فاس العامَ 1979. قرأت "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" و"الزيني بركات"، ولفت نظري شكل الكتابة ولغتها، المختلفان عن كتابة نجيب محفوظ. ولما كنتُ أحد منظمي ندوة اتحاد كتاب المغرب عن الرواية، فقد سعيتُ إلي اختيار روائيين ونقاد عرب، يتطلعون إلي التجديد، ويستكشفون أشكالا تبتعد عن "الواقعية" المتكلسة، وتستوحي التحولات العميقة في بنية المجتمعات العربية وعقليتها... ومن ثم اهتمامي بممثلي جيل الستينيات في مصر، لأنه جيل قطع أشواطا في تقليب التربة والجرأة والتجريب، كما اتضح ذلك من خلال الملف المميّز الذي أصدرته مجلة "الطليعة" آنئذٍ. ومن أهم ما أسفرت عنه ندوة فاس، ربط صداقات امتدت إلي اليوم مع الغيطاني وصنع الله إبراهيم. ما أثار انتباهي، عند تعرفي علي جمال، هو الوسط الشعبي الذي ينتمي إليه وعصاميته التي حمَتْهُ من تحذلق بعض الكُتاب الجامعيين وفقْر تجربتهم. أحسستُ أن معرفته بالحياة في تفاصيلها اليومية والتاريخية، هي وراء تلك النكهة التي تضفي علي نصوصه حيوية المعيش، وحضور الذاكرة عبر الكلمات التي تمتح من المعجم بقدر ما تستثمر عفوية الكلام الدارج. وخلال لقاءاتنا علي امتداد ثلاثين سنة، تبيّن لي أن ذاكرة الغيطاني مذهلة وتستحق التحليل كمُكوّن أساس في كتاباته... حكايات المؤسسة وَالخبيئة، أو استقرار التدهور: علي رغم أنني قرأت معظم روايات الصديق الغيطاني، فإنني أود أن أتوقف في هذه المناسبة، عند روايته التي استأثرت باهتمامي أكثر من بقية نصوصه، وهي "حكايات المؤسسة" بجزءيْها (1997+ 2002). ليس موضوع الرواية هو ما يلفت النظر، وإنما شكلها وأسلوبها. ذلك أن موضوع السلطة وعلاقتها بالدولة والسياسة وتحوُّلها إلي كابوس يطارد المواطنين بدلا من أن يصُون حريتهم، هو موضوع تناوله روائيون عرب قبل الغيطاني وبعده؛ إلا أن روايته تحتفظ بخصوصية فنية ودلالية تستدعي أن أشير إليها ولو في اختصار شديد. علي مستوي البناء، تتقمّص " بناية المؤسسة" وظيفة استعارية ذات بُعديْنِ متلازميْن:المكان الضخم، المتاهي، والرمز الدلالي المتصل بفكرة التأسيس وتحديد مرجعية القيم والتفاعل مع الزمن. ومن ثمّ تكون المؤسسة أساسا للسلطة في معناها السياسي العميق. والكاتب لا يحدد مهمة لهذه المؤسسة، وإنما يترك طبيعتها ووظيفتها مبهمتيْن ليُضفيَ عليها ترميزات تجعلها مقترنة بفضاء حساس يشمل الدولة وأجهزة السلطة ومجال الاقتصاد والسلوك... من هنا، تكون المؤسسة مثل البشر، تخضع لمسار النشأة وعنفوان الشباب، ولقانون الانحدار ومخاطر التلاشي. علي هذا النحو، تنطلق الرواية مع مؤسس مُلهَم اشتري أرضا وشيّد بناية ضخمة وجلب موظفين وخبراء، ورسّخ تقاليد وطقوسا، فاحتلت المؤسسة موضعا جوهريا في فضاء الدولة والمجتمع، وغدتْ أشبه بمجتمع مستقل داخل المجتمع العام. وبعد موت المؤسس، أخذت المؤسسة تبتعد عن مبادئ التفاني والشفافية، وتتجه إلي البيروقراطية وما تقتضيه من تعقيدات وتركيز للقرار في أيدي قلةٍ تأتمر بمديرٍ يحتل الطابق الثاني عشر من البناية، ويصدر أوامر فوقية لا أحد يناقشها، حتي أولائك الذين رافقوا المؤسس وشهدوا ميلاد المؤسسة. وهذه السيرورة المتدحرجة تقدمها الرواية من خلال نماذج بشرية لها تضاريسها وخصوصيتها( الجواهري،عطية بك، عبده النمرسي، الأزميرلي،البروفيسور، سهير الفيومي، هانم الدمياطية، رشيدة النمساوية، صفية الأبنوبي، زهرة بائعة الجلاديوس...). ذلك أن الشخصيات تحتل حيزا كبيرا من خلال محْكياتها ونوادرها ، وخاصة النساء اللائي أصبحن،مرغمات، أداة للمتعة الجنسية عند المدراء في مرحلة ازدهار المؤسسة واتساع نفوذها وسطوتها. بعضهنّ حظي باستحسان صاحب السلطة فترك لهن هامشا لتدبير شؤون محدودة في المؤسسة، ومَنْ قاومتْ تعرضت لانتقام شنيع.لا رجل ولا امرأة يستطيعان مخالفة إرادة المدير...مع السنوات، تحولت المؤسسة إلي هيكل كبير مخيف، تسيّره آليات خفية، وتراتُبية تتدخل في تسطيرها المخابراتُ والأجهزة السيادية وذوو المصالح المالية؛ وبذلك أصبحت شبيهة بتلك الآلة- الغول(ليفياتان) التي تحدث عنها الفيلسوف هوبز في كتاب حمل نفس العنوان المأخوذ من أسطورة يونانية؛ أي تلك الحالة التي تغدو الدولة فيها مطلقة السلطة،تخرق جميع القوانين في سبيل بقائها من دون محاسبة أو عقاب... إلا أن الأهم في الرواية هو شكل السرد الذي يأتي في صيغة وقائع وأخبار عن حيوات وسلوك موظفي المؤسسة، وبخاصةٍ مديريها الغارقين في فتوحاتهم الشهوانية. يأتي السرد بضمير الغائب، متدفقا، مغرقا في الوصف والتفاصيل، مُكسراٌ "واقعية" المشاهد والمواقف بإدخال عناصر فانتاستيكية يمتزج فيها العجائبي باللامعقول، ويربط بين أجزائها مبدأ "الشيء بالشيء يُذكَر". وإذا أحس الكاتب أنه أسرف في التحليق والسرحان، لجأ إلي الجملة السحرية الموروثة:"وهذا ممّا يطول شرحُه"، فيفتح البابَ أمام القارئ ليبحث وحده عن شرح يُرضيه. وأعتقد أن من أسباب إيثاري لهذه الرواية- علاوة علي التخييل والشكل الإخباري،الوصفي- هو توفُّرها علي "نثرية" جدّ ملائمة لجنس الرواية، تنجح في تجسيد المتاهات والتحولات الاجتماعية(مثلا: وصف تعامل الموظفين مع الحاسوب والأنترنت ومع كل ما هو مستورد من الخارج، والتعاطي مع التلفزيون و أفلام البورنوغرافيا لتحريك الشهوة الغافية...)، وهي نفس اللغة المنسابة التي تحلل المشاعر والوساوس، وتنقل كلماتٍ يمكن التأريخ بها لمرحلة من القاموس السياسي الحديث في مصر، مثل ما تفوّهَ به الجواهري في وصف ما آلتْ إليه المؤسسة:" استقرار التدهور"...هذه "النثرية" في "حكايات المؤسسة" هي التي تحمي الكاتب من الوقوع تحت سطوة اللغة التراثية المسكوكة التي طغتْ عليه في نصوص أخري، مثل "التجليات"، حيث توارتْ لغة الذات الحميمة وراء لغةٍ مستعارة من معجم مغروس في تجريدية روحانية تبدو بعيدة عن ملموسية وتفاصيل القلق الذي يلفّ عصرنا؟ في نهاية التحليل، يجب القول بأن رمزية "حكايات المؤسسة" تتسع لتأويلاتٍ شتي، لأن موضوع الدولة والسلطة في مصر يتصل بعمق التاريخ الماضي وتجليات هذه الإشكالية في الحاضر. ومن ثم فإن الصفحات التي تتحدث عن سرقة "الخبيئة" المدفونة تحت أساسات البناية الشامخة، تلخص في نظري، جوهر المعضلة التي تعاني المحروسة منها منذ أكثر من نصف قرن:ذلك أن مَنْ يسعون إلي السلطة يسرقون حق الشعب ويُهملون روح المؤسسة ودعائم قوتها، فتصبح آيلة للسقوط :" بهدوءٍ عميق استمرّ البيروني متطلعا إلي الحفرةِ الدائرية، حتي إن هيئته أرجفتْ رجل الأمن المحترف وأرغمته علي الإصغاء. قال مستمرا، مُحدقا: إن ما يجهله الجميع،أن اختفاء تلك القلادة من موضعها، وانتهاك الممرات السبعة سيؤدي إلي لحظة مخيفة، لحظة تحلّ فيتطلع فيها من يتطلع إلي المؤسسة فلا يبصرها مع أنها ماثلة؛ ويتحرك من يقيمُ داخلها وفي أركانها فلا يبصر منها أصلا ولا ظلا مع أنها قائمة"( ص.339: حكايات الخبيئة). ما أشبه الليلة بالبارحة، عزيزنا جمال السبعيني، وكل سنة وأنت موفور العطاء.