وصفه هنري ميللر بأنه "سيد الأدب البريطاني"، ويضعه النقاد في مرتبة جيمس جويس ومارسيل بروست، باعتبارهم الثلاثة آباء التجديد الأدبي الذي كان من سمات القرن العشرين، ولد داريل عام 1912 بالهند، وتلقي دراسته في "كانتربري" بإنجلترا، وعاش مع أسرته زمنا ً بجزيرة "كورفو" اليونانية، إلي أن شغل منصب مدير المجلس البريطاني بأثينا والأرجنتين. وفي رواية "جوستين" وهي أهم أجزاء الرباعية نري الأحداث من خلال عيني روائي إنجليزي، عاش زمنا ً بالإسكندرية، يدعي دارلي، ويخيم علي الرواية شبح الشاعر اليوناني العجوز كفافي، بل يورد الكاتب أبياتا ً من شعره هنا وهناك، وعند داريل أن "الإنسان ليس إلا امتدادا ً لروح المكان"... وماذا يكون المكان في الإسكندرية إن لم يكن هذين القطبين المتقابلين: البحر والصحراء ؟ كانت الإسكندرية هي مكان أحداث رباعية داريل، وبالرغم من أنه كان أكثر اهتماما ً بشخصيات الروايات، إلا أن المدينة ذ معالم وحياة ذ تبرز في مواضع كثيرة... بل إن هذه الشخصيات ما كان لها أن تحيا سوي في الإسكندرية.. فحياتهم وحكاياتهم الغرامية شكلتها الإسكندرية... ويذهب د.ج انرايت في كتابه "العالم الأكاديمي" إلي أن الإسكندرية هي البطل الحقيقي لروايات داريل... و"إسكندرية" داريل.. هي رؤية مركبة في المكان والزمان، ومن الأجناس المختلطة، والثقافات المتباينة.. وداريل الذي عاش بالإسكندرية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، وجد أن ذكرياته مع مدينتنا غير كافية في رباعيته الشهيرة فقام باستكمالها في سنواته الأخيرة، في روايته التي دارت معظم أحداثها بين الإسكندرية وافينيون في خمسة أجزاء بعنوان "خماسية افينيون" ! روح المكان في أكتوبر عام 1977 عاد داريل إلي الإسكندرية عد غياب دام نحو ربع قرن، مصطحباً طاقماً من ال"بي. بي. سي" لإعداد فيلم عن الإسكندرية بعنوان "روح المكان".. اقام داريل في فندق "سيسل" الذي اعتاد النزول به، وعادت إليه ذكري جلساته القديمة في بهو الفندق، والمرآة الضخمة العتيقة تعكس صورا ً عادت بذاكرته إلي عام 1941 حين فر إلي الإسكندرية برفقة زوجته "نانسي" وهو في التاسعة والعشرين من عمره هاربا ً من اجتياح الألمان لليونان.. متذكرا ً أيضا ً ما كتبه لصديقه "هنري ميللر": "إلي أحدث عواصم القلب "عاصمة الذكريات" المحملة بأطياف نساء الإسكندرية أجملهمن الطبع وأكثرهن إثارة للمتاعب في الملاعب" ! لكن الذكريات الوحيدة التي باتت تسكنه في هذه اللحظات هي صورة الأماكن القديمة بعد أن فقد الأصدقاء وتلاشت علاقات الحب القديمة، وما كان ليعود إلي الإسكندرية لولا إقناع ال"بي. بي. سي" حيث اصطحبت طاقم العمل في أرجاء المدينة، محاولا ً التقاط جذور إقامته السابقة، وحيث بدت له الشوارع بلا صوت أوروح ! ... وتجول في الأحياء العتيقة باحثا ً عن ظلال أصدقائه القدامي بدلا ً من تركيز الكاميرا علي بقايا القصور التي اكتست جدرانها بنبات "البوجيفيليا" مثل تلك التي كان "نسيم" و"جوستين" يقيمان بها حفلاتهما، بينما الصدأ قد علا أبوابها، وتشهد نافوراتها الرخامية وتماثيلها المحطمة علي مجدها الزائل ! وخلال رحلة استعادة الذكريات.. ومن خلال البحث عن مقر إقامته "كفافي".. تجول طاقم التصوير بين منازل متهالكة خلف شارع "التقويم" إلي أن وصلوا إلي البيت المنشود والذي يحمل طابعا ً أوروبيا ً بشارع "شرم الشيخ" والذي كان يعرف بشارع "ليبيسيوس".. في الطابق الثاني عاش كفافي آخر خمس وعشرين سنة من حياته وهي فترة نضجه الشعري.. وفيها ارتبط بصداقة وطيدة مع "فورستر".. اتجه داريل شرقا ً متبعا ً نفس طريقه القديم "شارع فؤاد" والذي أصبح "طريق الحرية" إلي أن وصل إلي مقهي "بسترودس" حيث بدأت علاقته ب"ايف" سنة 1943، فكتب: "في هذه اللحظة شعرت أنني مأخوذاً بذكري ايف، حتي يمكن القول أن نفسي لم تعد ملكي.. كان إحساسا ً حقيقيا ً" ! ثم قاد داريل طاقم العمل إلي المنزل رقم 63 بشارع الحرية، مرورا ً بمجموعة جميلة من المباني، حيث تعرف علي امرأة كان لها دور في حياته خلال إقامته بالمدينة وأثناء انشغاله في روايته "جوستين" تلك المرأة كانت زوجته الثانية "كلودفينسدون" التي كان يردد دائما ً أنها أفضل زوجاته !.. وهي سليلة إحدي أعرق عائلات الإسكندرية، ومن خلال "كلود" وجولاتهما بالمدينة، تسلل داريل إلي عالم إعادة الإكتشاف، فقد ساعدته علي إعادة كتابه "المدينة" و.. حياته..! كانت كلود مصدر إلهام لكتاباته واكتمال رباعيته.. فإذا كانت "ايف" قد جسدت كثيرا ً من "جوستين".. فإن "كيليا" مثلت كثيرا ً من "كلود" وإليها كان الإهداء "الملاك الحارس" ! كان "بيتر آدم" رئيس طاقم ال"بي. بي. سي" قد طلب من داريل العثور علي المنزل الذي عاش به خلال الحرب العالمية الثانية.. وبعد مشقه، وجدوا أنفسهم في حي "محرم بك" وحيث المنزل رقم 17 بشارع المأمون.. عندها تحول داريل إلي حالة غريبة من النشوة والسعادة.. كان كمن وجد أخيرا ً كل السنين التي مضت من حياته !.. قال داريل: "إنه بالتأكيد أغرب شعور أن أجد نفسي بعد نحوأربعين عاما ً، في تلك الحديقة التي يملكها إيطالي عجوز، وذلك البرج الصغير الذي أصلحته علي سطح المنزل وقد حفرت عليه "زنزانة بروسبير" وبعض الأشعار الجميلة للحصول علي مشهد شخصي طبيعي، عامين ونصفاً من العظمة والبهاء وحياة وردية أيام الحرب بالإسكندرية.. لقد كانت فترة ثرية بالكتابة" !.. وبعث داريل إلي صديقه "آلان توماس" بكارت بوستال يحمل صورة فندق "سيسل" كتب عليه: "ادهشني كثيرا ً التغييرات الطفيفة التي حدثت هنا، إن مدينة كفافي القديمة مازالت تحتفظ بسحرها الرائع القديم" ! وفي تقديمه للطبعة الجديدة من كتاب فورستر عام 1982 كتب لورانس داريل: "إن الطريقة المثلي لرؤية هذه المدينة، هي أن تتجول فيها في هدوء وبلا هدف" ياله من اكتشاف حقيقي ورائع، فبمجرد زوال الشعور بالغربة، يجد العقل بغيته في التعرف علي مدينة الأحلام الإسكندرية حيث ينمو ويتأكد هذا التعرف علي هذا الميناء الصغير الذي يطل علي البحر المتوسط، والذي يبدو مألوفا ً إلي حد ما حتي لمن لم يعرفه، إنها تلعب دورا ً غير مقصود كعاصمة ثانية لمصر وهي الراحة الوحيدة التي يجدها ساكن القاهرة ذ تلك المدينة الرابضة كعدسة حارقة بين صحاريها. إن الإسكندرية تطل علي بحر حالم، فأمواجه الهوميرية تتدافع وترتد، يحركها النسيم العليل من رودس وبحر إيجه، إن التنزه علي شاطيء الإسكندرية يشعرك علي الفور وكأنك تسير علي حافة الهاوية، ما السبب في ذلك ؟ إنه ليس فقط تلك المدينة الإغريقية الحزينة الماثلة أمامك، وإنما أيضا ً تلك الخلفية من الصحاري الممتدة إلي قلب أفريقيا إنها مكان الفراق الدرامي، والقرارات النهائية والأفكار الأخيرة، كل منا يشعر بنفسه، مندفعا ً إلي أبعد حد، إلي نهاية قدرته علي الإحتمال، وبالطبع، فإن مدينة الإسكندرية الكلاسيكية التي نتكلم عنها، ما هي إلا صدي تاريخي كيف كان ذلك ؟ لقد انزلقت المدينة الشهيرة المتألقة إلي النسيان بوصول عمرو بن العاص هو وفرسانه من العرب، وزحفت فوقها الكثبان الرملية وغطتها.. وتمطي ألف عام أويزيد من الصمت والإهمال، ما بين عمرو ونابليون... لقد كانت من إبداع الإنسان، ولدت من هوي الفتي الإسكندر الذي لم يعش ليراها وهي تتحقق في الواقع، ولكن جسده قد أحضر ليدفن في قلبها، كي يصبح إلهها الحارس ! في الرسالة التي بعث بها عمروإلي خليفته العربي، وذكر فيها غزوه لهذه المدينة كتب في إيجاز جميل "لقد استوليت علي مدينة كل ما يمكن أن أقول عنها، إنها تحوي 4000 قصر، 4000 طريق، 400 مسرح، 1200 محل للخضار، 40000 يهودي" لم يتبق من هذا الجمال الفائق أي أثر ليقوم بتحية فورستر عندما خطا أولي خطواته! لقد وصلت إلي هنا في ( 1941 ) بعد تحرير هذا الكتاب بثلاثة وعشرين عاما ً وبعد ثماني سنوات من موت الشاعر العظيم قسطنطين كفافيس الذي كان صديقا ً لفورستر. وياللعجب.. إني لا أستطيع أن أدرك أن شيئا ً ما قد تغير. فلقد كنت قادرا ً علي مدي سنتين أن أتجول بين صفحات هذا الكتاب، مستخدما ً إياه بالقداسة التي يستحقها، ومستعيرا ً الكثير من ومضات حكمته كي تتزايد ملاحظات الرواية التي كنت آمل أن أكتبها ذات يوم. كانت الإسكندرية تبدو لأغلب الناس كمكان باهت، به فقط طرق جيدة، وكثير من المطاعم الفرنسية التي تروق لهم، وهم يكررون دائما ً: "لا شيء هناك يمكن أن يري". وهذا أيضا ً كان حقيقيا ً، فعمود بومبي كان كارثة جمالية، ومكان جزيرة فاروس صار خارج نطاق المدينة، ومقبرة الإسكندر توارت تحت آلاف التخمينات، لكن المدينة ظلت لكثير من بحارتنا وكأنها إبنوستوس "ميناء العودة الآمنة" كما كانت في عهد هو ميروس. علي الشاطيء في 1915 كانت هناك مدينة صغيرة، يتقاسم مغانمها اليونانيون والفرنسيون والإيطاليون وكثير من الأمم التجارية الأخري، ولكنها لوقورنت بسانت تروبيز ذلك المنتجع الفرنسي الصغير أوذ ببيروت تلك المدينةالشرقية فإنها سوف تتفوق عليهما، كانت بها مدارس جديدة بالإضافة إلي المدرسة اليونانية والمدرسة البريطانية العامة، وقدمت هذه المدارس الكثير من أجل التحدث باللغة الإنجليزية ببراعة في هذه المدينة. وإنه لعمل يدعوللألم، أن نستحضر قصة هذه المدينة حتي 1977م وهوتاريخ آخر زياراتي لها، فالكثير مما تركته فيها قد زال، والأجانب من طائفة رجال الأعمال يتزايدون واللغات الخمس التي كانت مستخدمة هنا بشكل طبيعي في المعاملات في الإسكندرية قد إختفت تماما ً وصار الميناء مجرد مقبرة بلا حياة،، وبلا حركة تنعشه، فغزل عبدالناصر الطويل للشيوعية قد أنتج أثره الحتمي المميت، والثورة الثقافية الصينية التي خلبت لب طالبات الجامعة سرعان ما خبا سحرها. فاتر الهمة، وبلا روح.. يذهب رجل الإعمال المعاصر اليوم لأداء مهامه دون أي حماس، والمقاهي مازالت تحمل أسماءها القديمة، باستوريدس، بودرو، لكنها بلا زبائن تجعلها تتلألأ بالضياء والموسيقي. كل الملصقات والإعلانات الأجنبية قد اختفت، فكل شيء هنا مكتوب بالعربية في زماننا هذا، إلا أن أفيشات الأفلام الأجنبية مكتوبة بعدة لغات، وبعناوين فرعية باللغة العربية، والأن فإن الرتابة المملة هي ما يسود في هذه المدينة. هناك في غرفتي القديمة المألوفة في فندق سيسل قضيت أسبوعا ً، لقد صارت الآن مجردة من كل أبهتها، يتردد داخلها صوت رياح الأتي من تحت الأبواب أومن خلال النوافذ. إنني رجل بلا جذور، سواء كان هذا بسبب أصولي الوراثية، أومن خلال تجاربي في الحياة وثقافتي الخاصة، وعندما جئت إلي هنا لم يكن هناك أبدا ً أي سبب لتوقع انتهاء الحرب، أو أنني سوف أغادر مصر يوما ً ما، إنه لمن حسن الحظ أنني كنت بلا جذور، بسبب أصولي الوراثية وبسبب تجاربي في الحياة وثقافتي الخاصة إنني فقط مجرد ساكن لمستعمرة. وإنه لمن الغريب أن فورستر ابن الأصول الإنجليزية الطيبة كان عليه أن يستجيب لغربته بهذا الشكل الإيجابي، واضعا ً لنفسه جذورا ً جديدة في هذه التربة الغربية، وإننا نحن الرابحون من هذا حقا ً ! كان كفافيس يسكن شقة صغيرة هنا ذات يوم، صارت الآن بنسيونا ً صغيرا ً من ذلك النوع الموصوف في كثير من روايات الشرق الأوسط، بنسيونا ً متواضعا ً بل ورثاً إلي حد ما، لكن كتبه وأثاثه تم إنقاذها وترتيبها في متحف صغير تم إنشاؤه لهذا الغرض في الطابق الأعلي من القنصلية اليونانية، ولكي يقوم المرء بزيارته، عليه أن يركب الترام الصغير القديم الذي يرتج يقرقع، وهو ممتليء بهؤلاء المزوغين المتعلقين علي جانبيه، والذين يختفون بمجرد رؤيتهم لوجه المفتش. كم هي رائعة تلك الحجرة الصغيرة الخاصة بكفافيس والتي تم إنشاؤها في مبني القنصلية الطلق الهواء، إنك هنا تستطيع أن تجلس علي ذات المكتب الذي خط عليه تلك القصائد الشهيرة: إيثاكا، البرابرة، الأله يتخلي عن أنطونيو... أوقصيدة "المدينة" وهي تعتبر من أفضل هذه القصائد، بل هي تعتبر الأثر الحقيقي الذي أبدعه لمدينة الإسكندرية الحديثة، ويمكن أن تتصفح بعض كتبه وتحس أنه لم يكن يمتلك الكثير منها، وأنه كثيرا ً ما جلس علي هذه المقاعد والكراسي غير المريحة وهي من طراز بيزنطي حديث كانت تعتبره بيوت الطبقة المتوسطة "موضة" في هذه الفترة من الزمان. وإنه لمن سوء الحظ أن يكون التمثال النصفي الوحيد لهذا الشاعر غير جميل ولكنه وبشكل عام كان وسيلة للتعبير عن الإجلال والتوقير لهذا السكندري العظيم. وللمرة الثانية تنزلق الإسكندرية إلي النسيان.. يجب أن تغفروا لي هذا الاكتشاف، وهوأن المدينة الحالية تئن أمام تأثير المحن، خاصة عندما يفكر المرء في كنوز القاهرة، أوالنموالزراعي الهائل، أوفي الآثار القديمة التي تعطي صعيد مصر سمعته الرنانة ذ ربما علي مر الأيام تأتي الأحداث السعيدة مرة أخري، مجددة للينبوع السحري وجاعلة إياه مثيرة للذكريات ! جوستين وفي رحلة البحث عن واقع الإسكندرية في رباعية داريل.. ومحاولة تجميع ملامح صورة ل"مدينة مفقودة" !... من خلال ارتياده لمقاهي المدينة وباراتها وشوارعها وساحاتها، مساجدها وكنائسها ومعابدها، ومراسمها، موالدها الإسلامية والمسيحية.. أسواقها وكل صخب الحياة متعدد اللهجات والألوان !.. لم يكن كل ذلك سوي محطات لالتقاط الأنفاس والتزود بشحنات داخلية تنفث الروح والدفء في شخصيات رباعيته... "كان علي أن أحضر إلي هذا المكان حتي أعيد من جديد تشييد تلك المدينة في ذهني تشييدا ً كاملا ً، المناطق التي تخيم الكآبة عليها كما رآها الرجل الشيخ مليئة بحطام حياته الأسود، طنين عربات الترام وهي تنفض فوق قضبانها الحديدية تخترق ميدان "الأزاريطة" الملون بلون اليود. أوراق الذهب والفسفور والمغنسيوم. هنا كثيرا ً ما التقينا"!! وعندما كانت "جوستين" تشعل سيجارتها وتجلس فوق السرير وقد أمسكت كعبيها الدقيقتين بيديها، وهي تتلوفي بطء تلك الأبيات الرائعة للشاعر اليوناني الشيخ عن قصة حب.. وتلمس في رقة كل مقطع من شعر هذا المفكر اليوناني الساخر "بالقوة الغامضة لتلك المدينة وأجواءها المرهقة عندئذ أدرك أنها "ابنة حقيقية للإسكندرية" !.. وينسل من حفلات الإستقبال "الفخمة المملة" التي يقيمها "نسيم" لرجال الأعمال و"غاياتها السياسية الغامضة".. إلي المرسم والمكتبة حيث يجد سعادته الحقيقية، مثلما يجدها عندما يلقي "بومبال" في "محل منجميان البابليوني" الحلاق علي ناصية شارع "فؤاد الأول" و"النبي دانيال" ! ويجوس بنا خلال أماكن عديدة تتصل بحياة مدينتنا... من "نادي السماسرة" حيث يجلس سماسرة القطن يرشفون قهوتهم ويدخنون السيجار الفاخر.. إلي "نادي اليخت" برأس التين... مارا ً بعربات الحنطور التي اسماها "عربات الحب" !... والتي تتسكع صعودا ً وهبوطا ً علي شاطيء البحر ! ويهرع مع "ميلسيا" خلال متاهة الأزقة قرب "القنصلية البولندية" حيث تنتهي الحوانيت عند زرقة السماء "كنا نخطوإلي ليل الإسكندرية الأبيض كالحليب، المشع كالبحر، نخطونحونجمة الصباح التي ترقد خفاقة فوق سور المنتزه الأسود المخملي الذي تلامسه الريح والأمواج" ! ثم الحلم ب"جنة عدن" في الأحياء الفقيرة ب"المدينة البيضاء".. ومجتمعاتها الممزقة "كفروع الأشجار التي ينقصها الجذع" والتي لا تحمل أي شبه لتلك "الشوارع الجميلة التي أقامها ونسقها الأجانب"... شارع باب المندب، شارع أبوالدردار، مينا البصل، النزهة، حديقة الزهور و"ذكري بعض القبلات" !.. أومحطات الأتوبيس بأسمائها الغريبة مثل: سابا باشا، مظلوم، زيزينيا، باكوس، شوتز، جاناكليس.. "إن المدينة تصبح عالما ً عندما يحب المرء أحد سكانها" !. ومن لقائه الأول ب"جوستين" عندما شاهدها في إحدي المرايا المذهبة الإطار بمدخل فندق "سيسل" ملتقي الأثرياء ونجوم المجتمع... إلي قبلة الوداع الناعمة ب"محطة الإسكندرية الرئيسية" حيث الندي الثقيل كالموت، وضجة العجلات وهي تشق أرصفة الشوارع الموحلة الزلقة، وممرات من الظلام كالدموع في واجهة مسرح كئيبة !.. متذكرا ً خلال إحدي النزهات الطويلة في ضوء القمر أن "جوستين ومدينتها متشابهتان في أن لكل منهما نكهة قوية دون أن يكون لها شخصية حقيقية" !. وعندما وصله خطاب يعرض عليه عقدا ً لمدة عامين للعمل مدرسا ً بمدرسة كاثوليكية في الصعيد، أدرك أن موافقته ستغير كل شيء في حياته وتحرره" من شوارع المدينة التي تلاحقه حتي في الأحلام" !.. محددا ً موعدا ً يفصله عن المدينة التي وقعت له فيها أحداث كثيرة وخطيرة جعلته يسرع نحوالشيخوخة... ولفترة محدودة من الزمن ستنبض الحياة "ستتوهج نفس الشوارع والميادين في خيالي كما يتوهج الفراعنة في التاريخ"... ثم ذلك الإحساس "بإيقاعات الإسكندرية الذي ينتقل عبر الشوارع الحارة إلي الأجساد التي لا تستطيع أن تترجمها إلا إلي قبلات جائعة" ! وفي الطريق لزيارة "ميليسا" بالمستشفي. وحيث لم تبد المدينة أبدا ً جميلة مذهلة كما بدت في ذلك الصباح الناعم !.. متلقيا ً ريحا ً خفيفة قادمة من "الميناء" علي خده الخشن "كقبلة صديق قديم".. و"بدت الحوانيت علي طول شارع فؤاد ذ وقد اكتسبت كل بريق باريس" !.. ولا يستطيع داريل أن يتخلص من مجال جاذبية المدنية... "كان الحي يغط في الظلال البنفسجية، والليل الهابط يتقدم، سماء من قطيفة ترتجف، يقطعها أضواء آلاف اللمبات الكهربية شديدة التوهج، تجثم فوق شارع التتويج مثل قشرة مخملية، تعلوها، فقط، أطراف المآذن المضيئة التي تنهض فوق جذوعها الرشيقة غير المرئية، تبدوتتدلي معلقة في السماء، ترتعش قليلا ً في الغبشة كأنها توشك أن تمد قلانسها كالكوبرات، سرت في تكاسل عبر تلك الشوارع استعيد ذكراها ثانية، وأنهل إلي الأبد: ذكريات المدينة الكوزموبوليتانية"..!