»طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاف« إحدي ذخائر التراث، فريدة القيمة، وقد لقيت حفاوة كبيرة منذ نشرها المستشرق الروسي بتروف للمرة الأولي سنة 1914، فعني بها كثير من المستشرقين والأساتذة الذين قاموا علي ترجمتها ونشرها، وكتبوا عنها مقدمات قيمة لكل هذه التراجم، وقد ظهرت لها ترجمتان بالإنجليزية، كما ترجمت إلي أربع لغات أخري. وقد أحس من أتيحت له قراءتها باختلافها عن غيرها من كتب التراث التي عنيت بالحب وشغلت به، إذ إن كاتبها لم يعمد إلي النقل عن غيره أو التخفي وراء ستر الأقدمين وروايات مشاهير المحبين، كما لم يقدم كتاباً يستهدف الوعظ، بل جرؤ علي دراسة الحب الحديث عنه مباشرة، وحاول تعريف أصوله، وتحليل مظاهره، ونفوس المحبين ودوافعهم، كما تحدث عن نفسه في صراحة العالم الحق الذي يبحث عن الحقيقة، فيستخدم نفسه ومن حوله لملاحظاته، ويستخلص من كل ذلك نتائج هي أقرب إلي النظريات النفسية، غير أنه رغم الإحساس بقيمتها الفريدة، ومع ما كتب ونقل عنها ودرس بعض جوانبها، فإن أحداً لم يفرغ إلي دراستها دراسة متكاملة تحللها وتقدر موقعها من تراثنا العربي. وعندما وجهني أستاذي الكبير الدكتور عبدالعزيز الأهواني إلي دراسة الطوق، وقرأته للمرة الأولي، شاركت غيري في تقدير ما انفردت به هذه الرسالة من مدخل فريد ونظرة مباشرة.. غير أن قيمتها الحقيقية لم تتكشف لي إلا بعد التعمق فيها، حيث تكشفت عن نظرة ثاقبة توصلت إلي سبق في فهم النفس البشرية أيدته معرفتنا الحديثة بعلم النفس، وأظهرت أصالة كاتب الطوق وقيمة رسالته التي خفيت طوال هذه القرون، فلو أن الكتَّاب والعلماء استكملوا ما بدأه ابن حزم في هذه الرسالة لتقدم مولد علم النفس عن موعده، كما كنا قد اكتسبنا نظرة أوسع ومعرفة أعمق بالمجتمعات السابقة لم تتحها لنا كل المجلدات الكبيرة التي خلفتها لنا هذه العصور. ولما كان بحثنا هذا مقدماً في إطار البحوث الجامعية الأكاديمية فقد لفت نظرنا أن ابن حزن قسم التآليف المستحقة للذكر التي لا يؤلف عاقل عالم إلا في أحدها إلي سبعة أقسام: شيء يخترعه لم يسبق إليه شيء ناقص يتمه شيء مستغلق يشرحه شيء طويل يختصره دون إخلال شيء متفرق يجمعه شيء مختلط يرتبه شيء أخطأ فيه صاحبه يصلحه وأضاف أن المؤلفين يتفاضلون في هذه الحدود بقدر استيعابهم ما قصدوا أو تقصيرهم عنه.. وأما من أخذ تأليف غيره فأعاده علي وجهه، وقدّم وأخّر دون تحسين قائم، هذه أفعال أهل الجهل والغفلة ولا يستحق الالتفات، فكأنه يحدد مستوي التأليف الأكاديمي الذي تشترطه الجامعات الحديثة، فلا يرتضي التكرار، ولا يقبل الاعتراف بكتابة لا تضيف جديداً إلي المعرفة البشرية، وإذا نظرنا إلي كتاباته في ضوء هذه المقاييس الراقية الطموحة نجده علي غزارة إنتاجه لم يخرج عنها والتزم بها، فجاءت كل كتاباته من التآليف التي ينطبق عليها قوله إنها مستحقه للذكر، وإذا نظرنا إلي الطوق نجده قد عمد فيه إلي الحب يشرح مستغلقه، ويرتب مختلطه، ويسبق إلي النظرة النفسية الحديثة إليه. أما بحثنا هذا فإننا نرجو أن نكون قد بلغنا به بعض مراتب ابن حزم التي قدمنا، فإننا حاولنا فيه شرح الطوق، واعتمدنا علي دراسة النص نفسه لمحاولة فهمه فهماً دقيقاً، واستخراج ما يمكن من مفاهيم ابن حزم، ولاستشفاف مركبات شخصيته وتحليلها تحليلاً حديثاً، ثم استهدفنا بعد ذلك استكشاف صورة المجتمع الذي نبع منه، وأخيراً حاولنا وضع الطوق في الإطار الثقافي والحضاري للتراث العربي الخاص بموضوع الحب، وإبراز ما لهذه الرسالة الفريدة من سمات لافتة، وبذلك نكون قد جمعنا بين شيء مستغلق وشرحناه، وشيء متفرق جمعناه. ولا يسعنا في ختام هذه المقدمة سوي أن نشيد بفضل الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الأهواني الذي فتح أمامنا آفاق الأدب الأندلسي الرحبة، ووجهنا إلي اختيار هذا الموضوع الخصب الشيق، ثم عاوننا علي إتمام بحثنا بكل ما لديه من علم رفيع وثقافة واسعة، ولعلنا قد أرضيناه بهذا العمل المتواضع، والله الموفق. مايو 1971