يحدث أن يستيقظ النائم من حلمه، ليعبُر بسلاسة إلي الواقع. لم يكن ذلك الانتقال يوماً بالصادم أو المثير للاستغراب، وكأنه اعتراف إنساني بديهي بانتفاء المسافة بين عالمين لا يجمعهما سوي الحالم/ المستيقظ. العكس بالضبط، لو تحقق، هل سيواجَه بالتسليم نفسه؟ ماذا لو "استيقظ" شخص من الواقع (إن جاز التعبير)، ليجد نفسه يعبر إلي الحلم؟ هذا بالضبط ما تبني عليه المجموعة القصصية "من داخل غرفة زرقاء"، لمحمود دسوقي (الكتب خان، القاهرة)، فرضيتها الفنية. تكاد نصوص المجموعة التسع تكون تزييفاً محكماً للواقع، تنطلق منه لتحّوله في النهاية إلي نمط آخر، يطفو فوق العالم الواعي، محققاً "صورة" للعالم قبل تحميضه، قابلة للفرجة لكنها غير قابلة للتداول، حلم كابوسي تطفو فيه الشخصيات بين عالمين. الباب كفكرة في النصوص التسعة، ثمة دائماً ذلك الباب: باب يفصل بين عالمين يستحيل أن يلتقيا: الواقع/ الحلم، الحقيقة/ الخيال، الظاهر/ الباطن. يبدو الباب للوهلة الأولي محكم الإغلاق، لكنه، بإزاحة خفيفة، ينفتح ليصل بينهما بسلاسة غير متوقعة، ناقلاً الذوات من عالم واقعي أليف، بل وغارق في عاديته ورتابته، عالم التفاصيل اليومية في أشد أطوارها مألوفية وهشاشة، لعالم آخر مختلف تماماً، حلمي كابوسي، عبثي، عصي علي التصديق. "الباب": إنه بطل مطلق في واحدة من القصص. يحاول شخص ما فتح باب، من بين حفنة أبواب متطابقة تطوقه، يبدو كل منها قابلاً لأن يكون الباب الصحيح. ينجح الشخص بمفتاحه في تحقيق "التكة الأولي" لكنه يفشل في الثانية. مع محاولاته تختفي بقية الأبواب ويجد نفسه في التيه، بلا اختيار. في جميع القصص سنشهد المفارقة بين فعلي "الدخول" و"الخروج"، لا قصة تخلو من باب، سواء أكان باب شقة أو سيارة، ملهي ليلي أو عيادة في مستشفي. لا ذات في هذه القصص إلا وتعبر باباً، تعود منه، إن عادت، ذاتاً أخري. جميع النصوص تشهد هذه اللعبة: حيث ينقض "الوهم" علي "الواقع" ويمثل به، وبحيث تتسع المسافة بين طرف كل قصة ونهايتها، لينهض في الأخير واقع ثالث: واقع افتراضي هو مزيج من الواقع والحلم. إنها لعبة هذه المجموعة: الإيهام العميق بالواقع "الحرفي" ثم الانقضاض عليه في لحظة، ودون مقدمات. المسافة رغم ذلك واهية بين العالمين، تذوب ببطء، وبسلاسة، ليتحول "الوعد" بحكاية واقعية نابعة من أشد التفاصيل يومية ومألوفية، إلي مفاجآت متتالية لا يمكن للواقع فيها أن يكون أكثر من حلم. الوجه والقناع ينهض الحدث في نصوص "من داخل غرفة زرقاء" دائماً علي التقاطع بين ذاتين. كأننا، مرة بعد أخري، أمام مواجهة مكتومة، تنتهي بكل من طرفيها وقد أعاد تعريف نفسه في ظل الآخر. علاقة "مرآوية" لا تكل النصوص من اختبارها، وتنتهي، في الغالب، بتبادل الأدوار. دائماً المواقف السردية عابرة. مواقف خليقة "الصدفة"، فلا وجود لتاريخ يجمع الشخصيات ولا مبرر لاجتماعها علي شرف حدث سوي ما تمليه حتمية "هنا والآن". بدءاً من أولي قصص المجموعة "ميريت أصفر"، وحتي النص الأخير "حَب شباب" تتحقق مواجهات لاهثة، تنتهي بالذوات وهي تعيد اكتشاف نفسها، كما لو كانت فاقدة للذاكرة، للماهية بالأحري، بحيث تكفي مفارقة هشة لتضعها وجهاً لوجه أمام حقيقتها. في "ميريت أصفر" تنهض علاقة غير متوقعة بين السارد وبين بائع في كشك سجائر. بين شك السارد في أن يكون البائع "صبحي" هو صديق طفولته القديم وضيقه من عدم قدرة الآخر علي تذكره، تتغير في لحظات لاهثة فكرته، هو، عن حقيقة ذاته. علاقة تنتهي بالسارد وهو يكتشف أنه شخص آخر غير الذي عاش عمره يظنه: "أخذت نفساً قوياً وحاولت أن أحبسه في رئتي مدة طويلة لأقضي علي الشك بداخلي، فلو وجدتني متذوقاً ومتلذذاً بطعم السيجارة، فهذا يعني أنني معتاد عليها ولو لم أستطعمها فسيكون صبحي هو المخطئ وسأعود له جرياً أقفز منتصراً...زفرت الدخان من أنفي متلذذاً. هو صبحي وأنا أدخن النوع الأزرق". اللعبة نفسها تتكرر في قصة "البار"، لكن علبة السجائر كتكئة تتحول هذه المرة لكأس "سكرودرايفر"، ف"علاء"، الزبون، يدخل في علاقة مباشرة، دون تمهيد، مع "البار مان"، تنتهي باعترافه له بقتله لزوجته. بعد قليل من الحكي يبدأ البار مان، منفعلاً، في إكمال القصة، يصدق تخمينه مرة بعد أخري، لينتهي النص باكتشافنا أن "الزبون" كان يسرد للبار مان قصة الأخير. وفي "وحدة" يقدم النص علاقة متقاطعة بين القهوجي/ سمير والناقد الأدبي الذي يُشار له بالأستاذ. مواجهة أخري مكتومة، يلخصها " كوب شاي"، ينضم لعلبة السجائر ولكأس السكرودرايفر، يبصق فيه القهوجي قبل أن يقدمه للأستاذ. وبمونتاج متقاطع تتحرك القصة بين عالمي الشخصيتين، كل في عالمه المغلق/ بيته، لنكتشف في النهاية أن كلا منهما، علي اختلاف الطبقة والثقافة، ليس إلا وجهاً للآخر، يلتقيان، بالرغبة نفسها، بالعجز نفسه (طبقياً لدي القهوجي، وجسدياً عند الأستاذ) علي شرف أنثي يستحيل الاجتماع بها. "تكتا كالون"، ذلك النص الحلمي، يشهد تقاطع البطل غير المسمي مع أنثاه، عبر فكرة الباب. الأنثي في الأخير تتحول إلي صورة من الباب الموصد، بينما تتري في وعي البطل أثناء محاولته إدارة الباب في الكالون، عبر مشهد جنسي وحشي يتحول فيه فردوس اللذة إلي بركة من الدماء. تُجسد قصتا "سلمي في مدينة الزجاج" و"ملل الرغبة"، (وفي كليهما يتحقق السرد بضمير المتكلم)، الآخر كأنثي، عابرة، في علاقة مبتسرة متوترة لا تكتمل. "سلمي" المقيمة في دبي تترك السارد محبطاً يبحث عن "مكان رخيص للمساج مع محاولات إغواء رخيصة تنتهي بخمسين درهماً مقابل جنس يدوي يكسر العظام"، والعاهرة غير المسماة تترك السارد المحبط في سيارته يحرك مؤشر الراديو "بحثاً عن التشويش بين المحطات". لا تختلف السيارة المحاصرة بالزجاج كثيراً عن المدينة المحاصرة بالزجاج. لا تختلف "سلمي" الهاربة من حبيب قديم والخائفة من خطيب جديد، عن العاهرة الهاربة من زوجها بطفلين لا ينتميان له، والسارد، في المرتين، يعمل كمتلقي للمحكيات. يري وجهه في وجهيهما: يدخن نفس تبغ الحبيب القديم (أيكون هو نفسه في صيغة جديدة؟)، ويوصل العاهرة لسيارة جديدة (كأنه صار قوّادها في اللاوعي). التقاطع نفسه سنجده في "حب الشباب". يكتشف السارد الذي يشتري علاجاً لحب الشباب في وجهه بوجود آثار بثور قديمة علي وجه الصيدلي. كأن من يملك الدواء هو الحاضر الذي يواجه ماضيه. إنه الوجه وهو يواجه قِناعه، إن أردنا تجريد "اللعبة" لقانونها العميق. في كل مرة يزيح صاحب الوجه القناع من فوق وجه نده ليضعه علي وجهه هو. العالم السردي واللغة تتحقق القصة في "من داخل غرفة زرقاء"، كمشهد واحد علي الأغلب، دائماً مشهد واحد متصل، يشهد موقفاً سردياً مركزياً وبالتالي فالزمن السردي قد يكون لحظات، ولا يتجاوز بحال عدة دقائق. مدي ضيق تقطعه القصص، مرةً بعد أخري، بأقل عدد من الكلمات، هو نفسه المسافة بين ظاهر العالم الآمن وباطنه الجحيمي. زمن يتحقق بين توقف شخص أمام "كشك" والحصول علي علبة السجائر، بين دخول سريع لشخص إلي ملهي وخروجه منه، بين دخول شخص عيادة طبيب وخروجه منها، بين التقاط شخص لعاهرة في الطريق ومغادرتها سيارته، بين انطلاق مباراة قصيرة للباي ستيشن وانتهائها، وبين تجهيز وجبة سريعة والانتهاء منها. زمن قصير بين نقطتين قريبتين هو دائماً الزمن النصي. زمن يحتفي بالفكرتين اللتين أسلفتهما: الدخول والخروج، كتمثيل رمزي لفكرة البداية والنهاية. لكن هذا الزمن القصير يقدم كما لو كان رحلة طويلة، كونه يزخم بالتحولات. تستدعي وحدة المشهد وحدة المكان، فقلما تتحرك القصص بين مكانين، وحتي عندما يحدث ذلك "كما في قصة "وحدة"، يتم المزج بين شخصيتي "سمير" عامل المقهي و"الأستاذ"، بحيث يصبح المكانان أقرب لمكان واحد. الأماكن المغلقة تهيمن علي العالم، مقابل حضور خافت للأماكن المفتوحة. المكان دائماً شقة، بار، سيارة، عيادة طبيب. إنه ما يعمق شعورنا بأننا أمام شخصيات حبيسة تطمح في خروج. بدورها تقدم لغة السرد نفسها كلغة مشهدية محايدة، لا تحتفي بأي حمولات شعرية ولا تثقل نفسها بتأويل المشهد ولا تحليل العالم الباطني للشخصيات التي تتقاطع بداخله. لغة تقترب في أحيان كثيرة من لغة السيناريو الوصفية، حيث اللغة موظفة للعبور نحو فعل "الرؤية"، تاركةً العالم يتحقق أمام عدستها: "دفع علاء باب الملهي الليلي ووقف للحظة يتفحص المكان. لم يكن يبحث عن شخص بعينه. مجرد نظرة استطلاعية. الإضاءة خافتة. الموسيقي الصاخبة تهز المكان. السجائر تومض وتنطفئ. الدخان يملأ سقف الملهي. أكثر الكراسي معلق علي ظهرها سترات داكنة. عدد الذكور أكثر من الإناث. حك علاء أنغه متوجهاً إلي البار. علاء ثلاثيني. وسيم. لا يرتدي نظارات. ملابسه كلاسيكية رمادية. اتخذ علاء مقعداً في مواجهة البار مان وأخرج سيجارة أشعلها في هدوء وتلذذ...". كأن السارد، حتي عندما يتولي السرد بالضمير الأول، ليس طرفاً. كأنه، بالأحري، يراقب نفسه بالقدر ذاته الذي يراقب به "الآخر". بلغة كهذه يتعمق الشعور بانفصام شخصيات الغرفة الزرقاء، فجميعها تبدو كما لو كانت تتعرف إلي "ماهياتها" لأول مرة، بعد سبات طويل من الاستسلام لهويات زائفة. لكن هذه اللغة الباردة ظاهرياً تنجح، أيضاً، في الوصول بالتوتر إلي أقصي نقطة، ذلك أنها تفسح المساحة كاملةً، علي وجه التقريب، ليقدم المشهد نفسه. تشعر أن اللغة تجتهد كي تقدم المشهد في سيولته علي طريقة العناية المشهدية، تدعمها عناية أخري بلغة الحوار. سبع قصص من تسع يحضر فيها "حوار مباشر حر" علي ألسنة الشخصيات، دون أي تدخل من السارد ولا حتي بالفعل "قال" أو "قالت". عامية مقتصدة لا تزيُّد فيها، شديدة القدرة علي الإيهام بالواقع، تلعب دوراً محورياً في التقدم بالحدث. في قصة "البار"، يلعب الحوار دور البطولة المطلقة في الكشف عن "الحكاية الفعلية" الراقدة تحت قشرة "الحكاية الزائفة" التي تتولي اللغة السردية الإيهام بها. الأمر نفسه في قصص "ميريت أصفر"، "حب شباب"، "ملل الرغبة"، "سلمي في مدينة الزجاج" وغيرها. ليس الحوار هنا مجرد كلمات علي ألسنة الشخوص، بل وسيلة للوصول بالحدث السردي إلي ذروته دون تعليق مباشر من السارد. أيضاً تستفيد القصص ببراعة، علي مستوي البنية، من عنصر أصيل في أدبيات القصة البوليسية، هو المفارقة بين التأسيس والمفاجأة. المواقف يبدأها السارد من لحظتها الصفرية غير الواعدة بشيء، قبل أن نكتشف أنها معبأة بحدث استثنائي يقلب الركود الأوّلي رأساً علي عقب. أي غرفة زرقاء إذن تنفتح علي العالم في هذه المجموعة؟ لا وجود لذلك العنوان في الداخل، ولا وجود للغرفة. إنها أقرب لغرفة تحميض للعالم، لا تهيمن عليها الحمرة القانية هذه المرة، لكن زرقة شاحبة تلائم أشخاصاً قادمين من حلم، أو ذاهبين إليه.