في تعريف المدن. المدن مثل النساء؛ منها شاهقة الجمال تأخذك لأول وهلة، ومنها التي لا تمنحك نفسها بسهولة ولا تفلت من محبتها أبدا، أدهشتني مدن ولفظتني مدن، لكنها المدينة الوحيدة التي أحبتني بظهر الغيب وأحببتها؛ إنها العريش: صحراء تتخايل بغموضها كبدوية تتبرقع ببرقعها، البحر يلحس كف السماء؛ كحمل وديع في يوم صيفيّ، النخيل يتطاول في طموح الجمال، والشمس القوية التي تعطي بلا مانع. إن الطبيعة هنا شاهقة الجمال وباهرة؛ كأنها للتو خرجت من جنة عدن. الفقد والاكتشاف. نفقد صخب الشوارع. نجلس في مقاعدنا نتسمع الأصوات، نري في نسائنا ما خفي عنا في زحمة الأيام، نري جمال أطفالنا، كتبنا التي نحلم أن ننتهي منها قبل الموت، شرفاتنا التي تطل علي ما لم نكن نري، الاستراحة في ملابسنا المنزلية، موسيقانا التي تتردد في الفضاء وحيدة. في الحظر نتوجس من حرب نراقبها ولم تكن حربنا؛ لكننا نكره الظلام والخرافة؛ والمطر الأسود الذي يلوث أيامنا. نمشي نهارا صوب مفاجأة الحياة، ننظر للبحر جهة الوادي، ننظر للسماء فوق البحر ساجية وزاهية كما كانت. نزرع في أطفالنا شهوة الحياة، الحياة الخضراء؛ بلا ندم ولا هواجس. نطل علي شرفات جيراننا ونهتف: صباح الخير. الخير الذي ينمو كفسيلة. نخاف، نعم نخاف، ونمضي في الحياة بشعلة تحت الرصاص، نقول للحرب: تعالي، هنا ظلام اقتلعيه، هنا خوف احرقيه. نفقد الشوارع ولا نفقد شهوة الحياة. الخامسة مساء. إنها الخامسة. الرصاص يلعلع في الأنحاء والشوارع، جلسنا في بيوتنا ننظر من شرفاتنا إلي العالم، العجيب أننا نكتشف جمالا تحت أيدينا لم نلتفت إليه من قبل: قطط تسرح في الشوارع بلا خوف ولا رادع، الشجيرات في المساء أجمل، الغيم المارق في السماء الرمادية، طفل يتعثر بدراجته الهوائية وبعناد يقوم ويكمل طريقه، المئذنة الشامخة للمسجد القريب، حوارات الجارات الصاخبة في الشرفات المجاورة.. إنها الخامسة؛ ونحن نبحث عما يلهي أرواحنا عن الوقت الطويل. أتخيل الفردوس علي شكل مكتبة! أحيا هنا، لا شيء محدد، مشاعر متضاربة تتدرج من الرمادي إلي الأسود. في الحصار تشعر أولا بالملل والضيق؛ ثم تشعر بالبهجة لتغيير عاداتك واكتشاف الجديد بالبيت: المكتبة التي تراكم الغبار عليها، الكتب الجميلة أرواح تنام في الصخب، وردة "رويدا" الورقية التي أهدتني إياها، أعمدة الإنارة ليلا وضوؤها الفاتن، الشجرة التي تلمع تحت المطر، ضوضاء الأولاد، صورتي في المرآة والشعيرات البيض. لكن الدهشة فترت وأصبح المدهش عادة، مللنا الحياة تحت الحصار، لا مقاهي، لا أصدقاء نتبادل سويا الأحاديث والنكات، حتي الاتصالات غير متاحة، فجأة تجد كتابا في يدك تقلب صفحاته سهوا ومللا؛ ثم إذا أنت غارق في حياة تفور بين يديك، المشاعر المتأججة ل "زوربا"، صخبه وردود أفعاله، البحر الثائر، الميناء والسفن المتأرجحة تحت الأمواج، الأفكار التي تتداعي كقطع الدومينو.. أنا ممتن للكتب العظيمة والكتّاب الكبار؛ أمثال "كازنتزاكي" هذا الذي أضاء الأيام الكزّه والظلام الذي يريد أن يجتاح حياتنا، لن تفني الحياة أبدا وفيها كتب قيمة. أنا أردد مع بورخيس: أتخيل الفردوس علي شكل مكتبة.