علاقتي بالمبدع الراحل محمد ناجي بها الكثير من الخيوط المتشابكة التي جمعتنا فيها الحياة، كنا معا مجندين في القوات المسلحة بالجيش الثالث الميداني في بداية السبعينيات، أنا كنت في إحدي كتائب الدفاع الجوي بمنطقة جنيفة، فيما كان هو في أحد مواقع الجيش الثالث أيضا بمنطقة الجفرة، ولأسباب لا أعلمها تم نقله فيما بعد إلي الجيش الثاني الميداني بالقرب من مدينة الإسماعيلية. في تلك الفترة كان هناك عدد كبير من المبدعين متفرقين بين القوات المسلحة الرابضين بالقرب من قناة السويس في زمن كنا نعرف فيه متي نبدأ خدمتنا العسكرية ولكن لا يعلم أحد متي تنتهي، فوطدنا أنفسنا علي أن تلك حياتنا، وفي تلك الفترة كانت هناك أسماء لامعة من مبدعي السبعينيات في جميع المجالات، كنت أعرف بعضهم بشكل شخصي مثل الراحلين الشاعر أحمد الحوتي والقاص مسعد قاسم عليوة، والسينمائي أسامة الكرداوي، وبالطبع محمد ناجي. شارك كلانا في حرب أكتوبر، وظللنا لفترة طويلة لا نلتقي بعدها نظرا لتفرقنا بعد انتهاء الحرب حتي جمعنا الشعر من جديد، ثم أضافت تقاطعات حياتنا لتلك العلاقة خيطا آخر وهو العمل في مجال الصحافة، فقد كان محمد ناجي يعمل في وكالة أنباء الشرق الأوسط، فيما بدأت أنا خطواتي الصحفية الأولي بمجلة الشباب التي كان يشرف علي قسمها الثقافي في ذلك الوقت الشاعر سيد حجاب، ثم انتقلت إلي الكتابة في الصفحات الثقافية بجريدة "المساء" وقت كان يشرف عليها الراحل العظيم عبد الفتاح الجمل، والذي عرفت من خلاله عددا كبيرا من المبدعين مثل محمد المخزنجي ومحمود الورداني وكاتب الأطفال أحمد زحام، وغيرهم. في فترة انغماسنا في الكتابة الشعرية أضيف إلي علاقتي مع محمد ناجي خيط آخر وهو الأدب الاسباني، حتي قبل أن يخطر علي بالي أنني سوف أرحل إلي اسبانيا وأتعلم لغتها، لذلك يمكنني القول إن علاقة محمد ناجي مع إسبانيا علاقة عشق قديم، وكلما التقينا في ذلك الوقت كنا نتناقش في ما نقرؤه من الآداب العالمية التي كانت متاحة لنا خلال تلك الفترة من خلال العراق، فقد حلت في تلك الفترة المطبوعات العراقية محل مطبوعات مصر. في الوقت الذي توقفت فيه معظم المجلات المصرية أو أغلقت في أوجهنا باعتبارنا مارقين علي الفكر الساداتي ومرحلة الانفتاح كان طريقنا إلي القارئ يمر عبر المجلات التي تصدر في بيروت وبغداد: "الآداب" و"الطليعة الأدبية" و"آفاق". وربما كان محمد ناجي أكثر تعلقا مني بما يقرؤه مترجما عن اللغة الإسبانية، سواء من الشعر أو المسرح وبشكل خاص كتابات فيدريكو جارثيا لوركا الذي كانت شهرته في ذلك الوقت تغطي علي الكثير من مبدعي الشعر العالمي، إضافة إلي ولع بعض المسرحيين بأعماله كتعبير عن التمرد ضد تلك الفترة القبيحة سياسيا. عندما حلت لعنة "كامب ديفيد" علي الثقافة والمثقفين في مصر بحث كل منا عن مكان يستطيع أن يحقق فيه جزءا من أحلامه، واستحوذت منطقة الخليج علي الجزء الأكبر من الهجرة الثقافية المصرية، فرحل إليها عدد كبير للعمل في وسائل إعلامها، وكان منهم محمد ناجي الذي شارك في إنشاء وكالة أنباء الإمارات "وام" في أبو ظبي، وعمل أيضا في تليفزيون أبو ظبي في خطواته الأولي، وعمل لفترة في البحرين أيضا. فضلت أنا الذهاب باتجاه الغرب فكان سفري إلي أسبانيا بهدف دراسة اللغة الأسبانية، لكن مهنة الصحافة ظلت تطاردني فعملت مراسلا لعدد من الصحف العربية المهاجرة التي انتشرت في بريطانياوفرنسا. خلال وجودي في إسبانيا استمرت العلاقة الشخصية مع محمد ناجي، ولكن اتصالاته التليفونية والرسائل المتبادلة بيننا لم نكن نتطرق فيها إلي الشعر، فلا أنا كنت أسأله عن آخر ما كتب ولا هو طلب قصائدي للنشر لأن وكالة الأنباء ليست مكانا لنشر الكتابات الإبداعية. شجعني البعض علي العودة إلي مصر بعد حصولي علي درجة الدكتوراه عام 1994، وإن كان من شجعوني علي ذلك تخلوا عن وعودهم، وتلك حكاية أخري، كان محمد ناجي قد عاد إلي مصر أيضا بعد غزو العراق للكويت، والتقينا من جديد، إلا أن المفاجأة أنه في الوقت الذي ركزت فيه أنا نشاطي في الترجمة من اللغة الإسبانية علي حساب الشعر كان هو قد اتجه إلي الرواية أيضا علي حساب الشعر الذي كان متميزا فيه. طلب مني أن أعمل معه في ديسك صحيفة "العالم اليوم" الاقتصادية التي كان يعمل مديرا لتحريرها، فكانت أحاديثنا بعد العمل لا تتناول العمل الصحافي علي الإطلاق، بل كانت لها علاقة بالثقافة وهمومنا كمثقفين في مرحلة تاريخية بالغة الرداءة، نحن أبناء جيل بدأ وعيه علي هزيمة 1967، وعاني حتي يحقق نصر أكتوبر 73، وكُتب عليه أن يعاني أكثر وهو يري النصر الذي دفع ثمنه دما وعرقا يسلمه نظام السادات ومبارك من بعده للعدو، النصر الذي أعاد الكرامة بدلا من أن يكون الدافع لبدء مرحلة منيرة من تاريخ مصر قدموه هدية للعدو في "كامب ديفيد"، بل واعتبروا أن من صنعوا هذا النصر أعداء وخونة للوطن، وحاصرونا حتي لم يعد أمامنا سوي أن نهجر هذا الوطن ليتسلمه تجار الانفتاح وينهبه تجار التدين. لم يشعر أحد بمن صنعوا نصر أكتوبر عندما عادوا إلي الوطن بعد أن أنهكتهم الغربة، ومعظم من عاد وجد نفسه يشارك الشعب المصري في فقره وأمراضه وإحباطه، ومن هؤلاء محمد ناجي الذي هاجمه فيروس الكبد وأنهك جسده حتي تحول إلي سرطان بسبب فساد الطب والأطباء. ظل محمد ناجي يعاني وأنا كنت أعاني أيضا، لكن مرضه كان معلوما، أما أنا فلم أكن أعرف شيئا عن مرضي لأن من لجأت إليهم لتشخيص مرضي خدعوني كما خدعوا محمد ناجي وغيره من المصريين، كان تشخيص مرضي خاطئا، وعلاجه كان يزيد من آلامي أكثر من علاجها، لكني كنت أحاول أن أعيش مرضي وحدي، ببساطة لأنني لم أكن مريضا بمرض انتشر بين المصريين بل بمرض خفي لا تراه العين ولا تكشف عنه تحليلات الدم. فانغمست مع محمد ناجي وعدد كبير من أصدقائه ونحن نبحث عن طريقة لإنقاذه، ورغم أني لم أكن منذ البداية مع عملية "زرع كبد" جديد إلا أنني شاركت في صمت لأنني كنت أعرف عذاباته التي كان يتغلب عليها بعشقه للحياة وتطلعه لاستكمال مشروعه الأدبي. لم أكن أحدثه عن معاناتي المرضية لأنني شخصيا كنت أري أنها عادية في مصر، لأن التشخيص حسب الأطباء كان "الكوليسترول والضغط"، وبعد أن حدد محمد ناجي موعد سفره إلي فرنسا فاجأته بأنني علي سفر إلي إسبانيا لمعرفة حقيقة مرضي لأنني كنت متشككا في تشخيص الأطباء في مصر. وبعد سفري بيومين فاجأني التشخيص الإسباني للمرض: "ورم في الدماغ بحجم البرتقالة" ولا بد من إجراء جراحة عاجلة لأن حياتي في خطر شديد حتي إنني قلت له في اتصال هاتفي: "كنا نعتقد أنك المريض لأكتشف أن المريض هو أنا"، وكأن الخطر الذي يهدد حياتنا جاء ليكون خيطا جديدا يجمعنا معا. لذلك كان اتصاله بي شبه يومي للاطمئنان علي سير العلاج، مريض يطمئن علي مريض، حتي أجريت تلك الجراحة الخطرة لاستئصال الورم يوم 25 أغسطس 2011، فيما سافر هو إلي فرنسا لكنه ظل علي اتصال للاطمئنان علي صحتي عندما علم أنني في حاجة إلي فترة طويلة من العلاج الطبيعي لإصلاح ما أفسده الورم في الدماغ من آثار جانبية علي باقي أطراف الجسد. وبعد جراحة زراعة كبد جديد لمحمد ناجي ظل يعاني من أخطاء وقعت أثناء الجراحة، إضافة إلي معاناته من الخطأ الطبي كانت هناك بالطبع المعاناة النفسية وهي الأقسي لوجوده وحيدا في بلد غريب عليه يتحدث لغة غريبة لا يجيدها والبحث عن مصادر لتمويل العلاج الطويل الذي لم يكن في الحسبان. في فبراير 2013 ذهبت إلي باريس لزيارته، وبقيت هناك أسبوعا كاملا، كنت أذهب إليه كل مساء في الضاحية الباريسية التي كان يسكنها، وخلال تلك الفترة، رغم معاناته التي كنت أشعر بها، فقد كان حديثنا يتركز علي الكتابة ورأيه في ما تمر به مصر من أحداث، وكانت تجري بيننا الأحاديث وكأننا في بيته في مدينة نصر، ولم يكن ينقصنا سوي أن يدق علينا الباب أحد الأصدقاء ليشاركنا الحديث كما كان يحدث في أغلب الأحيان. كان متلهفا إلي زيارة مصر حتي تمت تلك الزيارة قبل شهرين تقريبا، عندما عاد جري بيننا اتصال هاتفي طويل استمر لأكثر من ساعتين، كان متفائلا جدا بقرب انتهاء علاجه، بل كان مهتما بنتائج علاجي أنا، لم يكن يقلقه سوي أن صاحب السكن الذي كان يقيم فيه وهو مصري استغل فرصة سفره إلي مصر واستولي علي كل متعلقاته ومن بينها جهاز الكمبيوتر الخاص به (أرجو أن يكون قد نجح في استعادة الكمبيوتر لأنه يحتوي علي كل ما كتبه خلال السنوات الثلاث الماضية)، كان آخر اتصال بيننا يوم الأحد 2 نوفمبر، أي قبيل رحيله بأسبوعين، تحدثنا من جديد عن زيارته لإسبانيا لأن غرامه بها كان قديما، وزاره مرتين فقط، الأولي كسائح خلال عمله في الإمارات والثانية عام 2000 للمشاركة في مؤتمر عن الرواية في مصر بجامعة أشبيلية، وكان الهدف أيضا ليبتعد قليلا عن باريس وما تمثله له من معاناة، وأخبرني أنه سوف يحدد موعد سفره إلي اسبانيا بعد انتهاء تحاليل مطلوبة للاطمئنان علي وضعه الصحي، وأخفي عني أنه بصدد إجراء عملية زرع كبد جديد بعد فشل الكبد الأول في مواجهة الفيروس. اتصل بي محمد ناجي عدة مرات قبيل دخوله غرفة العمليات بيوم أو يومين، وكان اتصاله في أوقات كان تليفوني فيها مغلقا، فقد اعتدت إغلاق التليفون عندما أكون مرهقا وفي حاجة إلي نوم أفتقده منذ إجراء جراحة استئصال الورم من الدماغ، لأنه بعد تلك الجراحة أصبح النوم المتواصل لا يزيد عندي علي ساعتين مهما كان الإرهاق الجسدي، ولاستجلاب النوم مرة أخري كنت أظل في السرير لأطول وقت ممكن، بعدها حاولت الاتصال بلا طائل، فقد كان بالمستشفي في طريقة إلي سرير ينام فيه ويستريح من عذاباته إلي الأبد. الآن لم يعد في حاجة إلي زيارة إسبانيا لأن "خافية قمر" و"لحن الصباح" تتحدثان اللغة الإسبانية باسمه، وتحققان عشقه القديم.