يجيب أحدهم :"طبعاً لا.. هادخل الفيلم الأمريكي"، فيما يرد آخر:" وليه لأ.. التغيير ضروري"، أما الإجابة القاطعة والصادمة فكانت :" سينما إيه.. خلينا في أكل العيش"، ردود حاسمة ومتباينة علي السؤال: " هل ترغب في مشاهدة سينما أخري غير الأمريكية؟ هل يمكن أن تقطع تذكرة لتشاهد فيلماً أوروبياً؟ .. الإجابات كلها أكدت أن المهمة فعلاً صعبة علي ماريان خوري مؤسسة بانوراما الفيلم الأوروبي ورفاقها من الشركاء والقائمين علي البانوراما، وإن استحقت المواصلة خصوصاً أنه في كل دورة يظهر برهان جديد علي أن النجاح ممكن وأن الأفكار يمكن أن تأتيها لحظة تأثير وتنقلب رأساً علي عقب. وعلي كل فإن الذين بحثوا عن البديل السينمائي، وجدوا ضالتهم المنشودة في بانوراما الفيلم الأوروبي التي تنظمها شركة "أفلام مصر العالمية" بدعم من المفوضية الأوروبية وترأسها مؤسستها المنتجة والمخرجة ماريان خوري، 7 دورات في سنوات عشر من السينما المغايرة للمصرية والأمريكية، فيما ظلت البانوراما تثابر علي تقديم نماذج متنوّعة من سينما مختلفة، في محاولة دءوبة لتكون محطة سينمائية سنوية تجذب مشاهدين يرغبون في التجديد وفي اكتشاف مساحات فنية وأمزجة إبداعية غير المعتادة، وهي عملياً نجحت في تدرجها أن تؤسس لجمهور يزيد عدده عاماً بعد الآخر، مع قدرتها علي خلق مناخ ثقافي مختلف، وهذا ما تابعه الجمهور في الدورة السابعة والتي استمرت فعالياتها من 19 إلي 29 نوفمبر الفائت، عبر 44 فيلما 23 فيلماً طويلاً، 10 أفلام قصيرة، 14 فيلماً وثائقياً مثلت 15 دولة، من بينها إسبانيا وفرنسا وهولندا وتركيا واليونان وبريطانيا، فيما تم تسليط الضوء علي السينما الوثائقية السويسرية . أفلام استلت موضوعاتها من واقعها ومجتمعها وقدمت تجارب إنسانية وفنية تشير إلي انعطاف واضح سواء علي مستوي الإطار الشكلي أو مضمون الموضوعات والحكايات، بدأت بفيلم الافتتاح الإيطالي / الفرنسي "رأس مال إنساني" لمخرجه باولو فيرزي والحاصل علي العديد من الجوائز الدولية في العام 2014، الذي غاص في متاهة العيش الجماعي وتحديات المقامرة بالوقوف علي الخطوط الواهية بين الواقع والأحلام، تلك الخطوط التي تصنع الحد الفاصل الذي يرسم شكل الحياة الجديدة، وذلك من خلال عائلتين ترتبطان بنفس الهوس: المال. عائلة "برناسكيس" وعائلة سمسار العقارات المفلس "دينو روبللي" اللذين يعيشان مع عائلتيهما بالقرب من بحيرة كومو في إيطاليا، ويعقدان صفقة محفوفة بالمخاطر، فيقع حادث عشية عيد الميلاد المجيد يغير أقدارهم جميعاً، وإذا بدا الفيلم كأنه يقدم تشريحاً خاصاً لعلاقات متنوعة تخضع لقوانين رأسمالية محفوفة بالأوجاع الإنسانية والشجون البشرية، فإنه أيضاً قدم صورة جمالية آسرة. وعلي مدي أكثر من ثلاث ساعات قدم المخرج التركي نوري بيلجي جيلان فيلمه "نعاس الشتاء" الحاصل علي السعفة الذهبية وجائزة الفيبرسي في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي الدولي، والمرشح أيضاً لجائزة الأوسكار 2015، و"نعاس الشتاء" هو رهان آخر علي حيوية السينما من خلال سرد بصري مشغول بالجمال وكتابة بنفس مختلف تفتح نافذة نتعرف منها علي ما يجري في عالم آخر، ونتماهي مع قوة النص المكتوب وموضوعه وأسلوب مخرج تمكن من إدارة شخصياته وأحداث فيلمه المشحون بمضامين كبيرة لقصص تدور في شتاء الأناضول.. "أيدن" ممثل قديم يدير فندقاً صغيراً مع أخته وزوجته الشابة في وسط الأناضول، لم يسقط الفيلم في فخ الاستسهال. الأجواء الباردة تحول الفندق في شتاء ثلجي ليس إلي مأوي من البرد فقط ولكنه أيضاً يصبح أشبه بالسجن، ويقابل هذا الضغط عواصف عائلية تحول الأحداث إلي ملحمة حميمية ينقلها جيلان بأدواته السينمائية حتي يشعر المتفرج كأنه جزء منها متأرجحاً بين سكونها وصخبها ومزاج القلق والغضب بخلاف مسائل وقضايا الروحانيات وتماسها مع الدين، والقاعدة المفهومة في كيف يسهم المال بشكل كبير في إفساد البشر وأخلاقياتهم. نفس الأسلوب الضاغط في الكتابة حاضر أيضاً في الفيلم الدانماركي " الصيد" من إخراج توماس فنتربرج والحاصل أيضاً علي عدة جوائز دولية منها جائزة أفضل سيناريو في مسابقة الفيلم الأوربي في هذا العام، قصة اجتماعية بطلها "لوكاس" البالغ من العمر 40 عاما، الذي يبدأ حياة جديدة فيحظي بصديقة ووظيفة جديدة عقب طلاقه، ويبدأ في إعادة بناء علاقته مع ابنه المراهق ماركس، ولكن مسار الحياة يأخذ فجأة منحي آخر مع قرب احتفالات الكريسماس، وقد حاول الاشتغال علي البصري فبدت حرفيته في التنفيذ وظل النص المكتوب يضاهي بقوته. (فرانك) من الأفلام المبتكرة في هذه الدورة، فالفيلم الأيرلندي/ الانجليزي يأخذنا إلي عالم الكوميديا في أحداث غير تقليدية من إخراج لني أبراهامسن، لنري كيف يحاول فنان موسيقي مبتديء أن يشق لنفسه طريقاً، رغم أنه لا يمتلك الموهبة الكافية، فينضم إلي فريق البوب الطليعي بقيادة فرانك أحد عباقرة الموسيقي الذي يخفي نفسه برأس كبير وهمية. ومن كوميديا (فرانك) إلي (إيدا) الفيلم البولندي/ الدانماركي من إخراج بافل بافلكوسكي، الصادم في جمالياته ومناخه الإنساني، ولعل هذا ما رشحه للحصول علي جوائز مهمة في العام 2013 منها جوائز في تورنتو ولندن السينمائي وأفضل فيلم وإخراج وأفضل ممثلة في مسابقة الفيلم البولندي، وتدور أحداثه حول آنا"، وهي شابة مبتدئة في عالم الرهبنة في بولندا 1960، تكتشف "آنا" أثناء النذور سرا عائليا غامضا يعود إلي عصر النازي. بينما انتقل بنا الفيلم الألماني"الوطن الآخر" من إخراج إدجار رايتز إلي ملحمة اعتمدت أيضاً علي جماليات الصورة وهي تسرد حكايات بشر عاديين عانوا من المجاعة والفقر في منتصف القرن التاسع عشر في قري بألمانيا. رحلة أخري أكثر اتساعاً وإن كانت تعزف علي نفس الوتر الإنساني حملتنا إليها أجواء الفيلم الفرنسي الوثائقي "ملح الأرض" من إخراج فيم فندرس، جوليانو ريبرو سالجادو حيث يرصد الفيلم صورة وثائقية لسيرة للمصور الفوتوغرافي سباستياو سالجادو، الذي ظل يجوب القارات علي مدار 40 سنة، شاهداً علي أهم الأحداث التي حدثت في تاريخنا الحديث: صراعات دولية، مجاعات وهجرات. يبدأ المصور رحلته نحو اكتشاف الأرض البكر والحيوانات والنباتات البرية، كجزء من مشروع تصوير فوتوغرافي ضخم لجمال طبيعة كوكب الأرض. وفيما قدم الفيلم الفرنسي "ساحة بابل" صورة ثرية لصبية أيرلنديين، سنغاليين، برازيليين، مغاربة، صينيين ... أتوا إلي قاعة الاندماج في مدرسة باريسية للتعليم الثانوي، حيث تابعناهم بشغف في هذا الملتقي متعدد الثقافات ورأينا هذا الخليط من البراءة والحماس والاضطراب الداخلي في ذات الوقت لهؤلاء المراهقين وهم علي أعتاب حياة جديدة، جاء الفيلم السويسري "المأوي"، ركزت دورة هذا العام علي السينما الوثائقية السويسرية، من إخراج فرنان ملجار، فوضعنا أمام صورة سينمائية شديدة القسوة لوقائع شتاء في قلب مأوي طواريء لمن لا مسكن لهم في مدينة لوزان، في مدخل هذا المأوي كل ليلة نفس الطقوس التراجيدية التي تؤدي في الغالب إلي مواجهات عنيفة، فالمأوي وإن كان قادراً علي استضافة 100 شخص إلا أن 50 فقط من "المختارين" ليكون من حقهم عشاء ساخن وفراش. ومن الشاشة إلي الواقع، تبقي بانوراما الفيلم الأوروبي محاولة أخري لها ميزتها الخاطفة التي تتجاوز مجرد "الدندنة" والدق علي وتر التغيير وكسر "سم" الفيلم الأمريكي وغطرسته، إلي ملء مساحات الفراغ الفسيح والالتحام بعوالم أكثر حميمية وجمالاً وحرية، هذا غير الدور الذي تلعبه السينما، كما قال المتحدث باسم الاتحاد الأوربي في مصر راينهولد بريندر، معبراً عن رؤيته للدورة الأخيرة للبانوراما، مشيراً إلي أهمية السينما في التوحيد بين الشعوب، وتقريب الثقافات، وجعل الحوار أسهل.