عرفت رضوي عاشور المبدعة والناقدة" الراحلة "وما أصعب التسليم بحقيقة الكلمة الأخيرة، واقتربت منها إلي حدّ كبير، خلال أكثر من مشهد، وأكثر من مشاركة، في أكثر من زمن ومن سياق. ومع ذلك، أشعر بأسف أظنه لن ينقضي لأنني لم أبذل جهدا كافيا كي أعرفها أكثر مما عرفتها، وكي أقترب منها أكثر مما اقتربت. التقيتها، مشاركا ومشاركة، بندوة ثقافية في زمن بعيد. أذكر أنها تحدثت عن عالم إبراهيم أصلان حديثا صافيا ومتدفقا وعميقا يليق بكتابته. وعرفتها، طالبا وأستاذة - رغم أن الأعوام التي تفصل بيننا، في عمرينا، ليست طويلة، ولكنّني متأخر دائما - عندما تكرّمت هي بالمشاركة، مع أساتذتي، في مناقشة رسالتي التي قدمتها للجامعة، وكانت مناقشتها وملاحظاتها لي مهذبة وعميقة ورفيعة الشأن. وفيما بعد جاورتها، مشاركا ومشاركة، في مناقشة رسالة أخري لطالب من طلاب جامعة القاهرة. وعرفتها، تقريبا كصديق وصديقة، خلال لقاءات كثيرة جمعتنا معا في حضرة المبدعة الراحلة، كبيرة القيمة، الدكتورة لطيفة الزيات. ورأيت فيهما معا شيئا كثيرا مما يتمني كل إنسان وكل إنسانة التحلي به من صفات. وعرفتها عبر استجابات جميلة شهدتها من طالبات وطلاب ناقشت معهن ومعهم روايتها "قطعة من أوروبا"، ضمن موضوع قمت بتدريسه عن تمثلات مدينة القاهرة في الرواية المصرية، وسعدت بآراء وردود أفعال هؤلاء الطالبات والطلاب، وانطباعاتهن وانطباعاتهم الغنية عن هذه الرواية. وأشعر الآن بقدر من الأسي لأنني لم أخبر الدكتورة رضوي بهذه الآراء والانطباعات وردود الأفعال، ولعلها كانت ستسعد بها كما سعدت أنا. وعرفتها طبعا، قارئا وكاتبة مبدعة، مع أعمالها التي نعرفها جميعا، سواء في النقد الأدبي ومن ذلك كتابها "الطريق إلي الخيمة الأخري" عن غسان كنفاني، و"التابع ينهض" عن الرواية في غرب أفريقيا)، أو في إبداعها الروائي والقصصي (ومن ذلك "حجر دافئ"، و"خديجة وسوسن"، و"سراج"، و"ثلاثية غرناطة" و"أطياف"، و"قطعة من أوروبا"، و"الطنطورية"، و"رأيت النخل" و"تقارير السيدة راء"..إلخ، أو في كتابها المبكر "الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا". وكتبت عن بعض هذه الأعمال كتابة يتيمة محدودة، للأسف، وغير كافية أبدا؛ كانت مدخلا من مداخل "قاموس الأدب العربي" الذي حرره الدكتور حمدي السكوت. أشرت في هذا المدخل إلي ما أشرت، ومن ذلك أن كتابات رضوي عاشور المتنوعة يتصل فيها عالمها الذي يزاوج بين الاهتمام بما هو فردي وما هو عام، ويربط بين الوقائع الكبري والصغري في حيوات شخصيات قصصية وروائية، من جهة، وما يوازيها من وقائع كبري وصغري في فترات تاريخية محددة، مرجعية و أحيانا "تاريخية"، من جهة أخري. كما قد ينهض جزء من تناول هذا العالم علي منحي شبه توثيقي، ينطلق من حقائق متعارفة ليعيد رؤيتها من زاوية جديدة، أو ليبلور عنها وحولها "حقيقته" الخاصة، أي الحقيقة كما تستخلصها وتراها رضوي عاشور. وأشرت أيضا إلي أنه، في عالم رضوي عاشور، تتجاور تجارب متعددة، تقترن بجوانب شتي، متخيلة وغير متخيلة، وتتحقق معالم مغامرة سردية خاصة؛ تفيد في جانب منها من التاريخ ودراساته ولكنها أيضا تحلق بعيدا عنهما. وأعمال رضوي عاشور التي تجّد عالمها هذا تترامي في مجال رحب، يشمل نصوصا تجوب، بحرّية، مساحات ممتدة في الأزمنة، ونصوصا أخري مختزلة، مكثفة ومركّزة، تلتقط لحظات خاطفة، فاصلة، تتقصي وتتعّق أبعادها. وأستطيع الآن أن أضيف إلي ما كتبت شيئا مما سوف أسعي فيما بعد إلي استكماله، حول ما يلوح دائما في كتابة رضوي عاشور، علي تعددها وتنوع عوالمها، من خيط متصل، مرتبط بنبرة جماعية عذبة، تتجسد بعبارات مستوقفة تطل، بين آن وآن، ، من ثنايا الصوت الواحد. تنغزل في هذه العبارات، بهذه النبرة، الذات التي تتكلم، ذات رضوي أو ذوات شخوصها، مع ذات إنسانية رحبة تشملنا جميعا، ولعلها ستشمل الناس جميعا، في غير زمن وفي غير أرض وفي غير بيت من بيوت اللغات. في هذه النبرة بعد من أبعاد التأمل، وفيها صدي من أصداء الحكمة، وفيها وجه من وجوه الحقيقة المراوغة دائما، العصية علي الوصول إليها في كل الأحيان، وفيها صيغة من صيغ السؤال الذي استكنّ وهدأ في هيئة إجابة، سوف تثور بدورها لتتحول إلي سؤال جديد، وفيها ما يتعالي علي الملابسات المتغيرة العابرة ليبلغ ما له صفة الرسوخ والبقاء. مع هذه المعرفة برضوي عاشور، والتي تظل معرفة محدودة طبعا، أشهد الآن علي تقصيري في بذل جهد لائق من أجل اقتراب أكبر منها ومن عالمها. لقد قنعت بحضورها علي البعد، هي وشخصيات أخري قليلة في هذا العالم. كان يكفيني أن أتذكر أنها "هنا"، وأنها تكتب وتبدع، وأنها تدافع عن القضايا النبيلة التي تدافع عنها دائما.. كان هذا كافيا كي أطمئن بها، وأطمئن عليها. مع مراحل مرضها، وتفاقمه، كنت أبحث، عبر مسافة مخجلة، عن أية أخبار حول صحتها، لائذا بكل حيلي وكل تحايلاتي التي لا تخلو من أنانية، والتي كررتها مع كل المرضي المقربين والمقربات إليّ. كنت أوقن دائما، في حالات المرض، أنني لا أستطيع أن أكون فّالا ومتفائلا، ولا أن أحافظ علي ملامحي مبتسما أو محايدا. وكنت، لذلك، أحاول أن أجّبهن وأجنبهم معاناة آلامهن وآلامهم مرة أخري، منعكسة علي مرآتي، فأقنع بأن أتابع أخبارهن وأخبارهم من بعيد، وأن أطمئن عليهن وعليهم من بعيد. الآن، علي سبيل غير سبيل التأسي، أستطيع أن أستعيد عبارات لها، من أحد نصوصها المتأخرة، يطلّ بالنبرة العذبة ذاتها التي أشرت إليها: "الحياة في نهاية المطاف تغلب، وإن بدا غير ذلك. والبشر راشدون مهما ارتبكوا أو اضطربوا أو تعثرت خطواتهم. والنهايات ليست نهايات، لأنها تتشابك ببدايات جديدة ..". والآن أيضا، بات لزاما عليّ - ربما مثلما هو لزام علي كل من أحب رضوي عاشور، واحترمها، واستمتع بكتابتها، وتعلم منها، وامتلأ بحضورها النبيل، كما فعلت - التسليم بأنها قد "ذهبت إلي هناك".. وهذا هو التعبير المصري القديم جدا، الذي كان وظل يستخدم في مواجهة ذلك الوحش الغامض المسمي ب"الموت"، بصياغة طمحت إلي أن تحوّل فعل "الافتراس" الناهش إلي شيء أخفّ وطأة؛ إلي محض انتقال مكانيّ قد حدث في لحظة مخادعة من لحظات الزمن. ماذا أقول بعد؟ أقول - لائذا بشيء آخر، غير أنايتي، هذه المرّة -، مرتجيا تخفيف الألم الذي أتألمه ونتألمه: وما الذي يفرق، حقا، بين "هنا" و"هناك"؟ إن هي إلا "فركة كعب".. إن هي إلا محض مسافة يمكن قطعها أو اجتيازها ذهابا، كما يمكن قطعها أو اجتيازها إيابا.. لعل رضوي عاشور قد انتقلت إلي "هناك"، ولعلها لا تزال وسوف تظل باقية معنا "هنا"، ما دمنا نراها بكل هذا الحضور، وبكل هذا النبل.