نام مطمئنًا لأن للبيت بابًا ونوافذ، لكنه حين استيقظ لم يجد سوي جدران مصمتة، ترخي الظلام علي كل شيء، وسمع همسًا جليلًا: آن الأوان أن تفتح الأبواب والنوافذ المغلقة داخلك لتري ما غفلت عنه. رمي الممحاة في سلة المهملات، وقرر أن يترك نقائصه وعيوبه تفرد ذراعيها وتتمطأ كما يحلو لها. بعد سنين بات لديه تل من الأخطاء، فخلع نعليه واعتلاه حتي غاص أزعجه رنين لا ينقطع، فأغلق الهاتف، وواصل نومه. لكن جلبة عارمة أفزعته، فانتفض مفتوح العينين، فإذا بعشرين شخصًا يجثمون فوق سريره، في يد كل منهم هاتفه، يضغط أزراره ويقول في وجع: ظللته سحابة وحيدة تمشي علي مهل في صفحة السماء، واستمتع بزخات خفيفة أهدتها إليه في قيظ الصحراء. وجد نفسي يجري تحتها لتحميه من الشعاع الحارق، الذي صوب سهامه إلي قلب السحابة فمزقها قطعًا صغيرة متساوية، طارت كل منها بعيدة عن أختها، وانفسحت بينها مساحات وسيعة يغشيها الأزرق الناصع. رفع رأسه ليعرف تحت أي منها يجري، لكنه وجدها راحت تتشطي إلي ندف ضئيلة، لم تلبث أن ذابت وتركته نهبًا للصهد في العراء. صورة الطبق الضخم البراق المملوء بقطع متناسقة من اللحوم المطهية علي لوحة الإعلانات المنصوبة علي الطريق السريع خطفت أبصار راكبي السيارات الفارهة. بعضهم أخذ يتلمظ، وبعضهم سمع صفير بطنه، وآخرون امتلأت أنوفهم بروائح جاءتهم من قيعان الذاكرة. أما الفلاح الجالس فوق عربة نقل ضخمة محملة بقصب السكر آتية من قلب الصعيد فقد رآه كومة من الحشرات الضارة المتكالبة علي بقع دم مسفوح فوق قطعة رخام مهجورة في العراء، حتي إنه غطي رأسه وراح يهش يمينًا ويسارًا حتي يبعدها عنه، أطلق الحكم صافرة البداية، لكن اللصوص الذين تسللوا بين المتفرجين سرقوا كل الكرات المتواجدة في الملعب. كانت المبارة حاسمة ولا بد من أن تًلعب، فأغمض اللاعبون عيونهم وراحوا يجرون في اتجاهين متعارضين. سقط بعضهم متألمًا، وبعضهم نادي متلهفًا كي تصل إليه الكرة فيودعها المرمي الخالي، وآخرون رفعوا علامة النصر بالفوز المبين، بينما المدرجات تضج بتشجيع يرج الأرض، ويُجري السحاب. أوقفني السائق تحت الشجرة العالية وارفة الظلال لأستريح بعد يوم مضن. حملت أطنانًا من فواكه لذيذة لا أعرف طعمها. صدمت سيارة تقل أسرة سعيدة، ولم أتوقف لأودع موتاهم، وأضمد جراح مصابيهم الغارقين في الدم. أصابتني حمي للضغط المتواصل علي بدال الوقود. كلَّت عيناي من ظلمة الطريق. وخزت أقدامي حصوات مسنونة ومسامير صدئة. دهست كلبًا كان يزحف لتنجو بقاياه. تعبت من الدخان الأزرق الذي ينفثه المتحكم في مقودي. تألمت غير مرة من طعنات ماسورة الوقود في جرحي المزمن. وكان علي أن أنفض متاعبي عن رأسي وأنا أستعد لمغادرة الظلال إلي شمس الله الموقدة، التي تُغرق طريق يبدو أمامي بلا نهاية.وينجو كنت منعمًا باحتضان الماء العذب، وعلي رأسي نعناع يظلل طحالب تنام علي صدري. ظننت أن النعمة ستدوم، لكن أيدي خشنة اغتالت براءتي، وأتت بي إلي مكان بائس، ليضعني رجلًا بطينًا في منتصف الشارع ويحجز مكانًا لسيارته. رضيت بحياتي الجديدة، وتسليت بزعيق أبواق السيارات، وصراخ المارة، ونداءات الباعة الجائلين، متحملة العجلات التي تضغط علي جنبي أحيانًا. فجأة سمعت جلبة عارمة قادمة من عند سوق الحي، واقتحمتني قرقعة أقدام ولهاث وسباب، ثم وجدت كتلا صلبة تنهال علي جسدي، حتي انشطرت نصفين، وانقسم كل نصف إلي أربعة، وكل ربع إلي ثلاثة، حتي صرت قطعًا تتخاطفها الأيدي وتقذفها بينما تنوح النسوة، ويمشي الرجال منكسرين، رفرف النعش فوق الأكتاف المكدودة، وأطل رأس الراقد فيه، ثم أطلق ضحكة ارتعدت لها القلوب، وامتلأت العيون بدهشة مذهلة، وبعدها أخرج لسانه، وراح يصفع به وجوه السائرين، فيتساقط منه ديدان أسود، تكاثر حتي سد أمامهم الطريق. فتحتضن الدم. تمدد الطعام الشهي في عروقه، وهو واقف أمام المرآة يحشر جسمه في حلته باهظة الثمن، صدره ثقيل، وفمه مفتوح من فرط اللهاث. بان أمامه الكتاب الوحيد الذي اشتراه في عمره الطويل ولم يقرأه وعلي غلافه تراب معتق. تأكد من تكدس نقود في جيبه تكفي لسهرة ماجنة، ومد يده والتقط رابطة العنق الأنيقة ولفها، مغمض العينين. حين فتح مقلتيه وجد أمامه كائنًا غريب الملامح، مشدود علي رقبته حبل يتدلي معقودا علي قدميه المفرطحتين. من أفواهها الدقيقة الجائعة. هجرنا من نلح في طلب محبته.رأسه في السحاب.