عرفت كتابته قبل أن أتعرف إليه. منذ قرأت رواية "الافندي" ثم استكملت مشروعه الأدبي الخاص، بدءا من أسطورية واستدعاء التراث مع الاسقاط السياسي والاجتماعي في "خافية قمر" و"لحن الصباح" و"مقامات عربية"، و"العايقة بنت الزين" مرورا بتعرية الطبقي الوسطي والنخبة المثقفة في "الافندي" و رجل أبله.. امراة تافهه"، و"ليلة سفر". كتابته تشبهه؛ تقرأ الواقع رغم تحليقها مع الخيال، ملامح شخوصه أسطورية وأقدامهم ثابتة علي الأرض، محمد ناجي يشبه لغته الراقية التي تنتقي من العامية ما أصله فصحي، ويشكل من الفصحي لغة متفردة تخص عالمه، منذ أول حوار أجريته معه عام 2009 في مقر عمله بجريدة العالم اليوم وحتي آخر لقاء بيننا في مقر نقابة الصحفيين قبل سفره بلا عودة، سنوات معدودة، لم أقابله خلالها سوي عدة مرات ولكن ظلت بيننا رسائل إليكترونية طوال فترة علاجه، ومثلما ضاع الحوار الأول الذي أجريته معه مع توقف جريدة البديل وضياع أرشيفها، لم استطع إجراء حوار أخير معه قبل موته. لم ينبئني حدسي باقترابه من النهاية، وكنت أشعر أنه سيعود من رحلته العلاجية هذه المرة بعد أن فشلت عمليته الأولي، منتصرا علي الموت، كان في لقائنا الأخير بصحبة الكاتبة سهام بيومي والكاتب الطاهر شرقاوي أكثر حيوية كأنه محارب يثق في نصره، فانتقلت إلي حالته، ولم أتعجل الأمر، لكن حوار ودي دار بيننا أثناء لقائنا في نقابة الصحفيين، بعد عودته الأخيرة من باريس تفرع الحديث بين ذكريات بدايات مرضه والكفاح من أجل علاجه علي نفقة الدولة، ورفضه فكرة العلاج علي نفقة أي دولة أخري سوي بلده، ثم نشأته وحياته بين القرية والمدينة، حبه للأحجار الكريمة، وبداية نشره بعد سن الأربعين، وهواجسه بخصوص الثورة وفساد النخبة، وأعماله الروائية الأخيرة التي لم تر النور بعد، حوار لم يسجل ولم يكتب استحضره من الذاكرة، لأنه يحمل في طياته الكثير من ملامح ناجي الروائية والإنسانية. من القرية إلي الحارة كان ناجي في اللقاء الأخير نابضا بالحياة، وبدت روحه المرحة وهو يتحدث عن علاقته الوثيقة بأصحاب المحال الخاصة بالفضة والاحجار الكريمة في الحسين، وتتجلي معرفته بهذا المجال في رواية "الافندي". كانت عيناه تلمعان وهو يحكي عن أول مرة جاء فيها إلي القاهرة وأقام في الجمالية أثناء دراسته الجامعية، ورحلته اليومية إلي جامعة القاهرة حيث كان يدرس، وأسرار معرفته بكل دهاليز مصر القديمة وصداقته بأصحاب المحال، وملأت تلك الذكريات اللقاء بالحياة واتفقنا علي زيارة المنطقة وشراء بعض الأحجار من أصدقائه هناك. كان يتحدث بانطلاق ومحبة وإيمان بقدرته علي الانتصار علي المرض واستكمال الحياة، وانطلق في الحديث عن انتقاله من القرية إلي المدينة، وعلاقته بهما وهو أمر شديد الوضوح في أعماله، التي تنطلق الأسطورة فيها أحيانا من القرية مثل "خافية قمر" لتنتقل إلي المدينة بانتقال الطفل عبد الحارس مع عمه. وفي رواية "لحن الصباح" تختلط الأسطورة بالواقع في حارة قديمة، فعرف ناجي كيف يخرج الأساطير المختبأة في دهاليز الحواري والقري وكيف أنهم يتشابهان في أصولهما، حيث التراث الانساني الذي لا ينضب أبدا. الثورة والنخبة لم يكن الحديث عن مرضه يفسد عليه أيام وجوده في وطنه، بجوار عائلته وأصدقائه؛ قبل عودته إلي فرنسا لاستكمال علاجه، إثر فشل عملية زرع الكبد الكلي التي عاني لاجرائها خلال ثلاث سنوات أو يزيد. تحدث معي بأريحية عن أدق تفاصيل حالته الصحية ومسار علاجه ولم تتبدل سعادته بالصحبة، فقط أحوال الوطن هي التي كانت تزعجه، لم يسترح إلي تعبير "الثورة المهزومة" الذي استخدمه كثيرا في حديثي، كان يعتبر ما حدث مجرد بداية لثورة أكبر، ثورة اجتماعية في الأساس، بشائرها تبدو أمامه، وإن لم يخف توجسه من المسار الذي تسير إليه الأمور، واعتبر النخبة هي المسئولة، باعتبارها لم تقرأ الواقع بصورة سليمة، وانجرت وراء مصالحها الضيقة. النخبة التي كان موكل لها، أن تبلور أهداف الشعب لمسارات واضحة، وتفرض وجودها في الشارع. كانت النخبة مجالا لانتقاد ناجي من قبل الثورة، ويظهر ذلك جليا في رواية "الافندي" علي سبيل المثال، النخبة المثقفة التي فسدت فأفسدت هي استشراف مبكر لناجي، بدت الثورة مثل حقيقة له وبدا تعليقي "من الواضح أنه لا توجد في مصر نخبة بالمعني الذي تقصده" مثيرا للمرار فحرك رأسه بأسي قائلا: "يبدو أن ذلك صحيح." مثل بطل روائي تحمل بطل رواية "رجل أبله.. امرأة تافهة" أوجاعه حتي استنزف دمه وسقط، وهو ما تقاطع مع ناجي في حوار أجريته معه قبل بداية رحلة علاجه منذ أربع سنوات تقريبا، إنه شجن متسرب من تجربته الشخصية، استوحاه من ألمه الذي يعانيه منذ خمسة وعشرين عاما، حين أصيب بتليف الكبد، والذي تحول لتورم سرطاني، أزيل إلا أن حالته ساءت عام 2009 وكان لابد من إجراء عملية زرع كبد كلي، وعاني ناجي ووقف بجواره عدد كبير من المثقفين حتي استطاع الحصول علي علاج علي نفقة الدولة، رافضا التفكير في أي وسائل أخري لعلاجه، قائلا: "لا يمكن أن يظل المثقف مهملا في بلده، كل يوم يسقط كاتب أو مفكر، أو مترجم كبير بلا سند أو دعم من الدولة". والآن، بعد وفاته، مازال أصدقاؤه ومحبوه يسعون حتي تُحيي ذكراه نقابة الصحفيين، والمجلس الأعلي للثقافة، واتحاد الكتاب، وتقام فاعلية تخصه في معرض الكتاب القادم، خاصة بعد صدور الأعمال الكاملة له عن الهيئة العامة للكتاب مؤخرا. وإن كان بطل روايته واجه المرض بصمت حتي الموت، فإن ناجي فعل مثل بطل روايته أخذته الغيبوبة وهو بعيدا عن بلده. وصية أخيرة لم يتوقف ناجي عن الكتابة، استكمل مشروعه الخاص خلال علاجه في فرنسا، وأصدر ديوانه "تسابيح الغياب" ليعود إلي الشعر الذي بدأ به مساره الأدبي، قبل أن يتجه للرواية. صدرت أول رواية "خافية قمر" عام 1994 وكانت مسارا لاهتمام نقدي وفي نفس العام صدرت رواية "لحن الصباح"، وكانت فكرة الأجيال التي سيطرت علي النقاد آنذاك بظهور موجة جيل التسعينات، ظالمة له، فهو من مواليد أربعينات القرن الماضي وكتابته تختلف عن جيل التسعينات رغم صدور أعماله في تلك الفترة وهو ما علق عليه ناجي قائلا: "لا أهتم بفكرة الأجيال من الأساس ولم أراهن عليها، بدأت النشر بعد سن الأربعين ومازلت أجتهد". بدأ النشر ناضجا ولديه مشروع واضح المعالم لم يوقفه المرض عن اتمامه، وأثناء وجوده في فرنسا بدأ نشر فصول من روايته "قيس ولبني" التي صدرت مؤخرا، إلا أنه كتب أيضا روايتين الأولي بعنوان "سيد الغياب" والثانية بعنوان "سيدة الماسنجر" إلي جانب يومياته مع المرض، حيث ربط تجربته بحكايات شعبية ونشر أجزاء منها تحت عنوان "يوميات الغياب" وحتي الآن تسعي أسرته للحصول عليها حيث إنها مازالت في مقر إقامته بنزل خاص بالقوات المسلحة ويُخشي عليها من الضياع، ليضيع معها جهد ثلاث سنوات أو أكثر من المرض والكتابة والصراع من أجل بقاء مشروعه الأدبي، فالحياة التي منحها محمد ناجي لشخوصه لا يمكن أن تنتهي، حياة أبدية لا يحظي بها البشر، كانت تلك الفكرة حاضرة في ذهنه لأبعد حد، فظل يبث الحياة في نصوصه حتي لحظاته الأخيرة. اكتفينا في لقائنا بصحبة انقطعت منذ سنوات، ودفء أبوي خصني به ناجي دوما، كان ناجي بالنسبة لي روائيا لا يشبهه أحد، انسانا نبيلا تشبه روحه روح أبي الذي مات بنفس المرض ورحل قبله بسنوات طويلة. افترقنا علي وعد بلقاء آخر لإجراء الحوار الصحفي، ومنعتني ظروف سفر أعقبتها ظروف مرضية ألزمتني الفراش، من زيارته. قبل سفره بيوم أخبرته علي الهاتف أنني لست بقوته التي واجه بها مرضه الشديد، وأنني، مثل كثير من أبناء جيلي، أصابنا الوهن ولم يعد لدينا القدرة علي مقاومة أقل وعكة صحية، ففاجئني بقوله: " لسنا بالقوة التي نتصورها في أنفسنا فأجسادنا أضعف مما نعتقد، وأكمل مكالمته معي بروحه المتسامحة وتفهمه الذي خفف عني عدم لقائه قبل سفره، وثقته جعلتني علي يقين أنني سألقاه قريبا مكتمل الصحة، لكن ثقة الموت كانت أقوي وإصراره كان أكبر من يقيني.