في درج مكتب الدكتور جابر عصفور عشرات الخطط والتصورات حول الثقافة المصرية ومستقبلها واستراتيجيتها. خطط وضعها مثقفون بعد الثورة، وتمت مناقشتها علي نطاق واسع، ولكن كما يحدث في مصر دائما استقرت هذه الأفكار والرؤي في أدراج مكاتب المسئولين. كان من الممكن أن يلجأ وزير الثقافة إلي هذه الرؤي، وطرحها للنقاش مرة اخري إن لم يكن قد استوفت النقاشات من قبل، ولكنه لجأ إلي الحل الأسهل، إلي زميله القديم السيد يس، ليكتب له منفردا " السياسة الثقافية للدولة".. رغم أن الوزير أشار أكثر من مرة إلي أن يس لن يضع أيه سياسات ثقافية! منفردا بالطبع، فاللغة المستخدمة والعبارات الإنشائية، والإشارات المتكررة إلي اسماء ومراجع معينة، والأفكار عن صراع الأجيال، واحترام الأكبر.. تخص يس وحده لا أحد معه، بل إن هناك فقرات بأكملها نشرها يس في مقالات قديمة له، بالطبع أيضا تصوراته للثورات العربية وغيرها أيضا يخصه وحده وربما بعض أفراد جيله الذين لا يؤمنون أن القديم قد زال ولكنه لم يدفن بعد! إذن لا تحتاج سياسة السيد يس الثقافية إلي نقاش مجتمعي بل سلة المهملات هي مكانها الطبيعي، الذي بقيت فيه منذ أن وضعها عام 1992، ليخرجها الأيام الماضية بعد أن أضاف إليها بعض البهارات عن " 25 يناير" كمرجع أساسي للسياسة الثقافية..ورغم أننا أمام حدث جديد، وصاعق هو الثورة إلا أننا أمام صياغات قديمة لأفكار قديمة أيضا..وحدها الحدث الرئيسي الذي يأتي علي الهامش. وهو تعبير عن موقفه الذي يري أن الثورة هي :" ما حدث في 25 يناير انقلاب سياسي وانفلات اجتماعي.." أي أن هذه رؤيته التي ينطلق منها لصياغة سياسة ثقافية! ما كتبه يس هو استمرار لسياسة الخمسينيات، حيث يعتبر أن السياسة الثقافية هي توجهات الدولة الإيديولوجية معبرا عنها في مجمل القرارات والتدابير والبرامج والأنشطة والأفعال"، في الواقع اي حديث عن السياسة الثقافية سيظل ناقصا ما لم يكن هناك نقاش جدي حول الدور والهدف من وزارة الثقافة نفسها.. التي نشأت كوزارة إرشاد ووصاية علي الثقافة والمجتمع، واستمر دورها هذا مضافا إليه هدف آخر هو أن تصبح وزارة مهرجانات صاخبة ومبان فخيمة لا يدخلها أحد كما اصبحت في عهد فاروق حسني، استمر الارشاد رغم تبدل سياسات، وتغيير وزراء ثقافة..ما جعلها تقع كثمرة ناضجة في كف جماعة الإخوان التي حاولت تغيير دور الدور من الارشاد الوطني إلي الارشاد " الإخواني".. الارشاد أصبح خارج التاريخ، هذا ربما ما لا تدركه " السلطة" أي "سلطة"..والثورة بالأساس كانت ثورة ثقافية، ضد الوصاية الأبوية، وقد سبقت الثورة كتابات غاضبة، وفنون أكثر غضبا، لم تدعمها وزارة ثقافة...ومن هنا كان دور وزارة الثقافة بعد الثورة هو استيعاب هذه الأشكال الفنية الجديدة علي طريقة " صالات مغلقة لعرض الجرافيتي".. أو محاربة نشاط في الشارع مثل " الفن ميدان" ومحاصرته ووضع عراقيل حتي لا يستمر..وعندما عجزت تركت الأمر لوزارة الداخلية لتوقفه، ولكن مالاتدركه الوزارة أن العالم أصبح أكثر اتساعا من منحة تفرغ أو جائزة بائسة أو نشر كتاب في مطابع الوزارة!. في عام 1938 كتب طه حسين كتابه الشهير " مستقبل الثقافة في مصر" كان رهانه الأساسي في الكتاب ليس فقط "الحرية"..ولكن رفع وعي المتلقي لا الوصاية عليه.. كتب حسين كتابه في وقت لم تكن فيه وزارة ثقافة، أو إرشاد، ولا سيد يس بالطبع واعتبر أن هذا الوعي الجديد سينهض بالمجتمع..وبالتالي مهمة الوزارة الآن إدراك أن معركة الإرهاب ليست أمنية..وإنما ثقافية بالأساس..وعليه أن يخوضها لا بوصف الثقافة مهمة ارشادية وإنما بتوسيع المجال لكل التيارات والأفكار واتاحه الأماكن المناسبة لكي يعرض الجميع بضاعتهم الثقافية..وأن تسعي إلي شراكة مع مؤسسات المجتمع المدني العاملة في المجال الثقافي..دعما لها وتطويرا لأفكارها...لا محاولة الهيمنة عليها.. عندما تجيب الوزارة علي السؤال الأساسي: من هي؟ بالطبع ليس علي طريقة انت بنت مين يا داده..ولكن عندما يتحدد ما هو الدور المطلوب منها يمكن أن نتحدث عن سياسة ثقافية..ولا يحتاج ذلك الأمر إلي خبرة السيد يس( التي نقدرها) ولا إلي سياحته في المراجع الأجنبية ليستخرج منها الأفكار..,لكن عبر معرفة أساسيات وضع السياسات الثقافية باعتبارها " مجمل الخطط والأفعال والممارسات الثقافية التي تهدف إلي سد الحاجات الثقافية لبلد أو مجتمع ما، عبر الاستثمار الأقصي لكل الموارد المادية والبشرية المتوفرة لهذا البلد وهذا المجتمع". .. وقد شاركت وزارة الثقافة نفسها في وضع الكثير من الخطط قبل 25 يناير، وبعدها أيضا، مع المجموعة الوطنية للسياسات الثقافية التي تكونت في سبتمبر 2010 من عدد من الناشطين الثقافيين، والأكاديميين، والفنانين، والمديرين الثقافيين، وممثلين لمؤسسات المجتمع المدني، وممثلين لوزارة الثقافة.. ويمكن للدكتور جابر عصفور أن يحصل من مكتبة علي صورة من هذه الخطط والملامح الأساسية لمجموعة السياسات لسياسة ثقافية مصرية ،وحددت الأطر العامة والأهداف والإجراءات التي تلتزم بها الدولة وكل الأطراف الفاعلة في مجال الثقافة من أجل دعم وتعزيز المجال الثقافي. وكانت البداية وتطوير كل التشريعات المتعلقة بالعمل الثقافي مثل قوانين استخدام الأماكن العامة، وقوانين المباني فيما يتعلق بالمواقع الثقافية، وقوانين الشركات غير الربحية، وقوانين الضرائب والجمارك وحرية التعبير والإبداع وحماية ورعاية الأدباء والفنانين وغيرها. وتشمل هذه السياسة أيضاً تصوراً لإعادة هيكلة وزارة الثقافة نحو تحقيق قدر أكبر من الاستقلال للعمل الثقافي عن الأجهزة الحكومية، وتبني نموذج "المؤسسة العامة" المستقلة عن الإدارات الحكومية ولكنها تمول من ميزانية الدولة تحت إشراف أجهزة الرقابة المالية. كما انتهت إلي أن أي سياسة ثقافية ينطلق من اساسيات وبديهيات من بينها: التأكيد علي أهمية الحرية الفردية والحرية الجماعية، حرية التفكير والاعتقاد والإبداع، وأن تسعي من أجل تحقيق هذه الحريات، الاعتراف بالتنوع الثقافي والاجتماعي والديني وبشكل إيجابي وديمقراطي وتكاملي، تعزيز الإبداع وتوفر الفرص المناسبة للابتكار والاختراع والخيال والجدة والتفرد. وكل هذه الأشياء بعيدة كل البعد هذه بعض الأفكار التي تهدف الي التقدم نحو المستقبل، علي عكس سياسة يس التي تعني لا بالواقع وإنما بالماضي.