«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسافر خانة.. ثلاثية العشق.. والتآمر.. والحريق
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 11 - 2014

ربما لم يكن أكبر القصور أو السرايات بالقاهرة التاريخية من عمارة العصر العثماني في القرن التاسع عشر، لكنه كان درتها المشعة بالجمال والروعة، وربما كان الأصعب بينها جميعاً في طريق الوصول إليه عبر الحواري والدروب الضيقة، المختنقة بزحام السكان والباعة والحيوانات والدواجن، وبتعديات المباني العشوائية، حتي بات ذلك الطريق يتلوي كالثعبان بين شعاب حي الجمالية، وسط تلال من القمامة والحفر والمطبات وبؤر المياه الآسنة، لكنه ظل عبر الحقب التاريخية للقاهرة أكثر قصورها احتفاظاً برونقة وبهائه، حتي أنك- بعد اجتياز هذا الطريق المضني للجسم والنفس معاً- تصاب بما يشبه الصدمة الحضارية المباغتة، وكأنك انتقلت إلي عالم آخر أنساك كل ما كابدته حتي الوصول إليه واجتياز عتبة بوابته الأثرية مهولة الارتفاع، فتصدر عنك شهقة عميقة، ويتولاك صمت وخشوع.
ها أنت تتجول في أروقته، تدير النظر بين جدرانه الشاهقة، وقد أطلت من عليائها مجموعة من المشربيات لامثيل لعرضها وارتفاعها وزخارفها بين القصور الإسلامية في مصر علي حديقة تتوسط المبني بجهاته الأربعة، وتتنقل بين الأرضيات الرخامية، فتخطف بصرك النافورات المرصعة بقطع الفسيفساء الملونة، وتسمع في غموض وشوشة "بزابيز" الماء إذ ينساب منها في غموض، وتصعد بقدميك خطوات ثم تهبط خطوات عبر مستويات أرضية القاعات، وكل حواسك في حالة يقظة دائمة، سيما وأنت ناظر إلي السقف شاهق الارتفاع مائلا بثقل رأسك إلي الخلف، متأملا زخارفه وهي تُرصِّع عروق الخشب بجزيئات العظام والأصداف، و"شُخشيخة" الإضاءة مثمنة الأضلاع تتوسطه في علاه بنوافذ ذات زجاج ملون يغرق القاعة بنور طيفي ذي بهاء مُصفَّي من وهج الشمس، وقد تأخذك الروعة ونظرك مصوب لأعلي وأنت تتحرك، فتتعثر خطاك بين مصاطب القاعة المكونة من عدة "دور قاعات" أو بسطات عريضة تحيط بالنافورة المنخفضة وهي تلطف جوها كالنسيم، فإن لم تحتفظ بكل انتباهك قد تزل قدمك، وأظن ذلك أمرا مقصودا في تصميم العمارة الداخلية للبيوت الإسلامية، لينبه الزائر إلي توخي الحذر، فيخفض رأسه ناظرا إلي الأرض في خشوع، وهو يغض البصر تأدباً.
هكذا أخذني عشق "المسافر خانة" منذ ضُحي ذلك اليوم من ربيع عام 1969، بعد أن أصابني ما وصفته سابقاً من اكتئاب في رحلة الوصول إليه من محطة ميدان الحسين بشارع الأزهر، فوق ماكنت أشعر به من اكتئاب لتعييني مديراً لهذا المبني دون أن أعرف لي مهمة واضحة فيه، إلا لمجرد إبعادي عن أي نشاط سياسي أو ثقافي، إثر إجهاض تجربتي (الثقافية/ السياسية) بقصر ثقافة كفر الشيخ عام 1968 بعد أن خرجتُ عن قضبان الخط السياسي والوظيفي لتلك المرحلة، وعملتُ علي إيقاظ وعي الجماهير بحقوقهم ومصالحهم وعلي أن يتجاوزوا سلبيتهم، بجعلهم طرفاً تفاعلياً مع قافلة الثقافة، مقتنعاً بضرورة التغيير بدءاً من تفهم قضاياهم والتضامن معهم لحلها، ولن يتحقق ذلك إلا بالتنفيس عن المكبوت والمسكوت عنه بداخلهم، عبر إطلاق حرية التغيير لهم ليكونوا في النهاية مواطنين لا رعايا.
وهكذا حقَّ عليَّ العقاب بالإبعاد عن قصر الثقافة الذي أنشأته في ديسمبر 1966، وكان ذلك هو البديل الرءوف عن عقوبة السجن التي أنقذني منها، د. ثروت عكاشة- وزير الثقافة آنذاك- بشهادته أمام مجلس الوزراء برئاسة الرئيس عبدالناصر، بأنني ابن مخلص لثورة 23 يوليو 52، وقد اختار لي بنفسه- بعد خروجي من كفر الشيخ- العمل في هذا المكان كنوع من "استراحة المحارب" لامتصاص الأزمة التي لم يكن في مقدوره حلها، وكانت الرسالة، واضحة لي، بأن أتوقف عن العمل الجماهيري، وأكتفي بالعمل وسط الفنانين التشكيليين الحائزين علي مراسم لممارسة إبداعهم في قاعات المسافر خانة بعد أن تم ترميمها، وكان ذلك -ضمنيا- نوعاً من الترضية، بإعطائي حرية استئناف إنتاجي الفني بعد توقفي عنه عشرين شهراً أمضيتها في كفر الشيخ في معركة لم تتوقف، لكن تلك "الترضية" ظلت- في يقيني- نوعاً من "العقاب الناعم"!. وبينما كنت أقطع الطريق في ذلك اليوم إلي المسافر خانة، أخذ يتملكني الشعور بأنه ليس عقاباً ناعماً بل كأنني في الحقيقة متجه إلي منفي أو مقبرة!
غير أن حالي تبدل تماماً منذ اللحظة الأولي لاحتوائي داخل هذا المكان، لقد تفتحت كل مسام روحي لامتصاص عبقه الأسطوري ، فيما كانت عيناي تختزنان بدائع زخارفه وسحر معماره وأسرار دهاليزه، وسلالمه المفضية إلي عوالم "ألف ليلة وليلة" بدءاً من قاعة "السلاملك" للرجال في الدور الأرضي، وقاعة "الحراملك" للحريم في الدور الثالث، وسراديب الهروب أوقات المؤامرات، وطاحونة الغلال التي يديريها حيوان أو إنسان، وساقية الماء من البئر، وأجنحة المعيشة وحجرات النوم للنساء والجواري والعبيد والخدم، وحمامات البخار ذات الأسقف الزجاجية الملونة، ومخازن المؤن، وملاقف الهواء... وكنت قد تعرفت في البداية علي البوابة الجنوبية للقصر المفتوحة علي درب الطبلاوي، وعلي البوابة الشمالية المفتوحة علي درب المسمط، وبين هذه وتلك أربعة أبنية يضم كل منها ثلاثة طوابق تطل بمشربياتها ذات الدانتلا الخشبية علي الصحن المربع للقصر، المزدان بحديقة صغيرة تتوسطها نافورة بديعة الزخرفة، وتنتهي في طرفها الجنوبي "بالتختبوش"، وهو مجلس الطرب، ويحتل وسطه عمود رخامي بارتفاع طابقين من المبني، وأغلب الظن أنه منتزع من أطلال أثر قديم ، ليحمل أكبر مشربية في الشرق تمتد خمسة عشر متراً وترتفع ستة أمتار، وهي خاصة بقاعة الحراملك المطلة علي الجهة البحرية، وفي هذه القاعة أقمت مرسمي لمدة ست سنوات، ورسمت فيها مايقرب من مائة لوحة عُرضت في عدة معارض داخلية وخارجية حتي عام 1976، وكتبت فيها مجموعتي القصصية "أغنية الدمية"، وقد شهدت أيضاً الفصل الأكثر مأساوية في حياتي ، كما سنعرف بعد قليل.
وسراي المسافر خانة -كما تشير كتب الآثار- بناها الحاج محمد محرم شاهبندر التجار في مصر في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، لتكون قصراً لاستضافة التجار وكبار الزوار القادمين من شتي البلاد، وأضيفت إلي المبني أجنحة جديدة في فترات لاحقة، شأن كثير من القصور في ذلك الزمان، مما يفسر اختلاف التصميم المعماري بين المبني الشمالي والمبني الجنوبي، لكنهما يمثلان مزيحاً من الطراز المعماري المملوكي بعظمته ووقاره، وملامح الطراز العثماني بشغفه بالزخارف والكماليات الترفيه علي حساب العظمة والوقار، وقد استمر القصر يؤدي وظيفته كدار للضيافة بعد رحيل مؤسسة وأبنائه، وربما آل في النهاية- بشكل ما -إلي أسرة محمد علي، حتي قيل إن ابنه إسماعيل ولد بإحدي قاعاته المطلة علي الجهة الغربية، وانه اشترك في الرضاعة فيه مع إبن مرضعته المسمي أيضاً بإسماعيل، الذي لُقب في شبابه "بالمفتش" بعد تولي إسماعيل عرش مصر، فأصبح لسميه جاه عظيم.
وبالرغم من تعدد الأجنحة والحجرات الخاصة بالنوم والمعيشة، فإن القاعات الخاصة بالاستقبال حظيت بالمساحات الأوسع والمشربيات الأكبر والارتفاعات الأعلي وبمظاهر الترف الأكثر، مثل زخارف الأرضيات وكسوات الجدران بالرخام في تقاسيم دقيقة للفسيفساء "تُسمي الخردة"، والنافورات المنحوتة علي أشكال الطيور والسباع التي تخرج المياه من أفواهها، وتجاويف النافورة علي هيئة أحواض نصف دائرية متجاورة تتدرج إلي أسفل بعدة مستويات، وتزين بجزيئات قطع الفسيفساء في أشكال هندسية متناهية الصغر والجمال، وتكثر في جدران هذه القاعات شُرُّاعات الإضاءة والتهوية في أماكن مختلفة، وتتوجها "الشّخشيخة" المفتوحة في سقف القاعة متعامدة علي النافورة، وتتدلي من السقف بخفة هائلة الحجم من الكريستال بفروع نباتية تنتهي بكئوس لوضع الشموع، ويحيط بجدران بعض القاعات شريط من الكتابة بالخط الثلُث لقصائد من الشعر مثل قصيدة نهج البردة، أو لأدعية دينية، أو لعبارات عن كرم الضيافة، أو لمناقب صاحب القصر وتاريخه، وأسفل هذا الشريط صف من الخزانات الغائرة في الجدار ذات ضُلف بتعشيقات خشبية علي الطراز العربي، تستخدم كمكتبات تعلوها طاقات ذات عقود ينتهي كل منها بعمودين خشبين صغيرين، وتسمي هذه الطاقات "خُوَرنقات"، لوضع المباخر والتحف، وفي زوايا كل قاعة وفوق أكتافها المعمارية الحاملة "مُقَرنصات" خشبية محفورة بوحدات الزخارف النباتية والهندسية، لتضفي علي المكان مزيداً من الأبهة والترف، فوق أغراضها المعمارية كدعائم للسقف، أما المشربيات فتبدو من داخل القاعات مصافي للنور وستائر مخرمة تتيح لمن بالداخل رؤية الخارج ولاتسمح بالرؤية لمن يتطفل من الخارج علي من وراء المشربية، وبها نوافذ صغيرة تفَّتح رأسياً وتسمح لوجه واحد أن يطل منها إلي الخارج في أمان من تلصص المتطفلين، وتشكل وحدات الخرط الخشبي الكروية متناهية الصغر والدقة في بعض مسطحات المشربية أشكالاً علي هيئة آنية للزهور أو إبريق أو طائر أو وحدة زخرفية أو كلمات لأدعية وآيات قرآنية، وتُصَّنع بلضم الكرات الصغيرة المخروطة بعضها ببعض عبر نتوءات وخروم لاتُري، فتتلاحم دون لاصق يضمها، وتبدو -عكس الضوء المبهر في الخارج- كخيالات سابحة في الفضاء، وفي الجزء الأعلي من الجدار، الملاصق للسقف، نجد صفا من نوافذ الزجاج الملون المعشق بالجص، ينفرد كل منها بتصميم زخرفي مختلف، بين أشكال هندسية ونباتية وكتابية، تعكس بألوانها الممتزجة، جواً من الحلم والخيال، وعالماً من الزينة الشرقية المترفة.
أما المشربية من الخارج، فيظهر منها الوجه الآخر للعناصر الزخرفية لوحدات الخرط الخشبي ولنوافذ الجص التي أشرنا إليها، وتزين الثلث الأسفل من المشربية منحوتات بارزة بالحفر من الخشب تتنوع بين الورود والدوائر والمثلثات والمثمنات مع التشابكات الهندسية والنباتية، ومن تحتها نري الكوابيل الخشبية الضخمة الحاملة للمشربية، وقد اكتست هي الآخري بوحدات من هذه الزخاف.

هكذا تم سريعاً التصالح مع نفسي ومع المكان، وأصبحت -طوال السنوات السبع التي قضيتها فيه حتي انتهاء علاقتي به عام 1979 أعتبره بيتي الثاني الذي أقضي فيه أغلب نهاري وليلي أحياناً.. مستمتعاً بصحبتي مع نخبة من كبار وشباب الفنانين، من حامد ندا، إلي جمال محمود، إلي رمزي مصطفي، إلي محمد مصطفي (النحات)، إلي المصورين: أحمد نبيل ومصطفي الفقي وصبري منصور ومحمد حسنين علي ومحمد قنديل وسمير تادرس وإسماعيل دياب، باستثناء شخص واحد ليس من هؤلاء، كنت أتعامل معه بحذر شديد لأسباب سنعرفها لاحقاً.
وقد رحل نصف هؤلاء تقريباً عن دنيانا.. (رحمهم الله) فكان القصر يشكل بحق حالة إبداعية فريدة تركت بصماتها علي عدة أجيال ليصبح ملتقي فنياً وثقافياً لايتوقف عن زيارته أصدقاء الفنانين ومحبو الفن، فضلا عن الفنانين العرب والسياح الأجانب الذين لم ينقطعوا عنه يوما، وكذلك الأدباء والمثقفون الذين اجتذبهم هذا العالم السحري، الذي كان يشجعه ويرعاه نظام ثقافي أسسه في البداية ثروت عكاشة، واستمر بقوة "القصور الذاتي" حتي منتصف السبعينيات، مزاوجاً بين الإبداع التراثي وبين رؤي.. المبدعين المعاصرين الذين منحوه قيمة مضافة وامتداداً حضارياً مميزاً. ولم يكن المسافر خانة استثناء في تحقيق هذه الرسالة، فعلي بعد مسافة قريبة كان مبني وكالة الغوري بشارع الأزهر يضم مراسم لثلاثين فناناً تشكيلياً علي الأقل، يقابلهم- في الناحية المواجهة بنفس المبني- عدد مماثل لورش الحرف التقليدية، بأسطواتها المهرة الذين علموا أجيالاً من الصبية أسرار حرفهم المتوارثة، وكان يشرف علي هذه المهمة المزدوجة تباعاً: الفنانون صلاح طاهر وعبدالقادر رزق وعبدالحميد حمدي ومحمود عفيفي، فيما كان بيت السحيمي بحي السيدة زينب (مقر البعثة العلمية والفنية لنابليون أثناء الحملة الفرنسية علي مصر) يضم مراسم أخري للفنانين الحائزين علي التفرغ للفن من وزارة الثقافة، كما يضم مركز "الفن والحياة" بقيادة الفنان والمفكر حامد سعيد، ومن بعده الفنان خميس شحاتة، قبل أن ينتقل المركز لاحقاً إلي الأثر الجميل "سبيل أم عباس" بشارع الصليبة قرب جامع ابن طولون، وقد ضمر أغلب هذه المراكز علي مدار الأعوام الأربعين الماضية وانقرض بعضها، إما بإخلاء الفنانين والحرفيين بغير عودة، أو بإهمال الوزارة لرعايتها حتي ماتت بالجفاف، أو بهجرة الفنانين منها اختيارياً بسبب تضييق الخناق عليهم، سواء بقطع المياه أو بمضايقات موظفي الآثار الذين ينظرون إليهم كغزاة يحتلون الأثر ويشوهونه... ومن وراء كل ذلك إدارة ثقافية بلا رؤية حضارية تستوعب الأدوار السابقة، إن لم تكن ترفضها وتناصبها العداء!
ومن بين الصداقات التي نشأت بيني وبين بعض الأدباء من خلال القصر، تلك التي ربطتني بالأديب جمال الغيطاني في بداياته الأدبية، حيث كان يقطن مع أسرته في درب الطبلاوي علي بعد أمتار من القصر، وكان من الطبيعي أن يدفعه الفضول لمعرفة مايدور فيه بعد ترميمه وتواجد الفنانين فيه، إذ كان في طفولته مرتعاً للهو أطفال الحارة أو مكاناً غامضاً تحكي عنه الحواديت والأساطير، ومنذ التقينا أول مرة توطدت بيننا علاقة تعدت القصر إلي المنطقة المحيطة به، فكنا نخرج في جولات لزيارة المعالم الأثرية بالقاهرة التاريخية، وهو يحكي لي تواريخها وأسرارها بذاكرة فذة وعشق عظيم، مما انعكس بعد ذلك في أعماله الأدبية، فكان ذلك مفتاحاً مهماً لي للدخول إلي هذا العالم الذي أصبحتُ من عشاقه، ومادة لبعض لوحاتي وكتاباتي وبخاصة في قصص القصيرة.

ووسط مشاهد العشق التي عايشتها طوال سبع سنوات في ذلك المكان ، تطفو إلي ذاكرتي الآن خمسة مشاهد درامية.. تبدأ بالتآمر.. وتنتهي بالحريق!.
المشهد الأول.. أواخر عام 1969 . حين تطوع أحد فناني المسافر خانة بإبلاغ رئيس الفنان المرحوم عبدالقادر رزق -مدير عام الفنون الجميلة الذي يتبعه القصر- بأنني أستقبل فيه أدباء ومثقفين ذوي ميول شيوعية، وأقيم به لقاءات تحرض ضد النظام، وأسعي لتجنيد فناني المسافر خانة في خلية شيوعية!.. استدعاني الأستاذ رزق في مكتبه وواجهني بما أبُلغ به بلهجة تحمل تهديداً ونذيراً، فواجهته بأنه ينساق خلف وشايات أعوان المباحث، فقال لي إنه لن يسمح بتكرار ما فعلته في كفر الشيخ (يقصد تجربة الثقافة الجماهيرية)، وانتهي الأمر بإصداره قراراً بتنحيتي كمدير للقصر، وتعيين زميلي الفنان (النحات الراحل) محمد مصطفي بدلا مني، وتركني معلقاً بلا عمل، ولم يشأ أن يبعدني من مرسمي خشية إغضاب الوزير ثروت عكاشة لعلمه بعلاقتي به، ولم أحاول إبلاغ الوزير بما حدث قانعاً ببقائي في مرسمي متفرغاً للفن، لكنه علم بالموضوع من مصدر بداخل الوزارة، فتحين فرصة حضوره لافتتاح معرض عام بقاعة الفنون الجميلة بميدان باب اللوق وواجه عبدالقادر رزق بما سمعه مبدياً غضبه الشديد لإلغائه قراراً سبق له أن أصدره بتعييني، تم ذلك بشكل مثير وسط زحام الحاضرين، وأمره بإلغاء قراره بتنحيتي، وإلا فسوف يضطر لاتخاذ قرارين بدلا من قرار واحد، مايعني قراراً بعودتي إلي منصبي وقراراً آخر بشأن المدير العام.. فاختار اتخاذ القرار الأول بالطبع.. وهكذا عادت الأمور كما كانت!.
المشهد التالي: في الثاني من يناير 1972، في أعقاب انتفاضة الطلاب الأولي ضد نظام الرئيس السادات، حيث ذهبت إلي عملي بالقصر بعد عودتي من جولة في معرض القاهرة الدولي للكتاب محملاً بما اشتريته من كتب، فوجدت في انتظاري ضابطين من مباحث أمن الدولة، واصطحباني إلي منزلي، وبعد تفتيشه وأخذ مجموعة من كتبي، ومن بينها مجموعتي القصصية "المثلث الفيروزي"، طلباً مني إعداد حقيبة ملابسي للذهاب معهما للاستماع إلي أقوالي بوزارة الداخلية!
ولم يكن الأمر بحاجة إلي سؤالهما كي أتأكد أنه أمر اعتقال.. لكن المفاجأة كانت عندما مثُلتُ أمام نيابة أمن الدولة التي انتقلت إلي محل احتجازي بسجن القلعة في اليوم التالي، حيث وجهت إلي خلال التحقيق معي تهمة الاندساس وسط مظاهرات الطلبة، والدعوة إلي قلب نظام الحكم بالقوة، استناداً إلي تقرير المباحث الذي تضمن أنه تم القبض عليَّ مندساً بداخل المظاهرات!.. وقضيت شهرين بين سجن القلعة وسجن الاستئناف، ولم أخرج -أنا وزملائي- إلا بعد أن قمنا بإضراب عن الطعام استمر قرابة أسبوعين، حتي أصدرت المحكمة حكماً بالإفراج عنا.
المشهد الثالث: في شهر اكتوبر 1976، عندما استدعاني الفنان عبدالحميد حمدي رزق، الذي شغل منصب المدير العام للفنون الجميلة -محل شقيقه الفنان عبدالقادر رزق، في مكتبه بالجزيرة، وطلب مني -بشكل ودي- القيام بأجازة لعدة أيام حتي تهدأ الصراعات المثارة ضدي من زملائي الفنانين بالمسافر خانة، وأنه سوف يحضر بنفسه للمصالحة بيننا بعد إجازة عيد الأضحي (وكنا قبل أيام من مجيء العيد)، ودهشت لأنه لم تحدث أية صراعات بيني وبين أحد، بل كانت تجمعني بهم صداقات وطيدة وحميمية، باستثناء الزميل الذي سبق له الإبلاغ ضدي منذ سبع سنوات، وكنت أتجنب التعامل معه تماماً لإدراكي للجهة التي يتعامل معها، وفي طريقي إلي منزلي تصاعد الشك، في داخلي بأن شيئاً يحاك ضدي الآن، واستبد بي خاطر بأن لوحاتي بمرسمي الآن في خطر، وإلا فلماذا طلب مني المدير العام (الذي أعلم جيداً صلته القديمة بالرئيس السادات ومودته لقيادات الأمن) عدم الذهاب حتي إلي مرسمي في الأيام القادمة؟!.. فغيرت طريقي متجها إلي القصر، وهناك فوجئت بمجموعة من الغرباء يبدو من مظهرهم أنهم أشقياء مستأجرون، يمنعونني من الدخول إلي المبني، ويشيرون إلي ورقة ملصقة علي البوابة الأثرية، عرفت منها أنها قرار بنقلي إلي عمل إداري بالإدارة المختصة بالعمالة الزائدة من الموظفين، وكان تاريخه يعود إلي عدة أيام مضت بتوقيع المدير العام!" ولم يكن انزعاجي في هذه اللحظة متعلقاً بالوظيفة، بل كان متعلقاً بلوحاتي، حيث أصبح في يقيني عندئذ أنها تتعرض الآن للكارثة، فاندفعت إلي الداخل، والبلطجية يلاحقونني ضرباً بالعصي، وامام مرسمي بالدور الثالث وجدت الباب مكسوراً وبقاياً اللوحات والأثاث محطمة والأوراق ممزقة علي الأرضية الرخامية المزخرفة التي طالماً عشقتها لسبع سنوات مضت، وفيما أتلقي الضربات -ويتلقاها معي النحات الفطري محمود اللبان الذي نجحت في تخصيص مرسم له بالقصر، وهو يحاول الدفاع عني، كنت أحاول أن ألملم ماتبقي من اللوحات والقصص والأوراق المبعثرة في فوضي، بينما كان عدد غير قليل منها قد أُلقي به من النوافذ إلي صحن المبني وكوِّم في "التختبوش" بجوار العمود الرخامي، كما تم فسخ خزانة الكتب بالحائط ونهب ما بها من كاميرا وجهاز تسجيل وشرائط مسجلة ومكاتبات خاصة.
وعلمت أن من قام باستئجار البلطجية موظف تابع لإدارة "الفنون الجميلة" علي صلة تعاون مع جهاز المباحث. وبقيت بلا وظيفة ولا موسم ولا لوحات ولا مرتب ثلاث سنوات دائرا بين عدة قضايا ومحاكم لاسترداد كل ذلك، أنتهت بحصولي علي ثلاثة أحكام قضائية: الأول بإلغاء قرار فصلي من وظيفتي، والثاني باسترداد مرسمي ولوحاتي (مع إحالة الشق الخاص بإتلافها إلي القضاء المدني كجناية ليست من اختصاص القضاء الإداري)، والثالث بالتعويض ماليا عن التشهير بي في مجلة أسبوعية كمخرب ومعادٍ لأمن الدولة.. لكنني لم أستطع - نفسيا - العودة إلي المسافرخانة أو إلي مرسمي فيه لما يحملانه لي من ذكريات أليمة، وفضلت أن يكون عملي ومرسمي بوكالة الغوري كي أواصل مشواري الفني والانساني دون النظر إلي الوراء.
المشهد الرابع: في شتاء عام 1999، وكنت في زيارة لأحد المباني الأثرية بشارع المعز لدين الله، وفيما أقف علي سطح المبني شاهدت سحابة هائلة من الدخان الأسود تتصاعد من مكان قريب، وعلمت أن حريقا ضخما شب في مبني أثري تعجز سيارات الإطفاء عن الوصول إليه بسبب ضيق الحواري، صُعِقت حين تبين لي أن المبني هو قصر المسافرخانة.. نزلت كالمجنون متجها إليه، فوجدت كل السبل مكدسة بزحام البشر وتدفق المياه من ناحية المبني الذي تشتعل فيه النيران من جهاته الأربع، مع عجز الخراطيم القليلة والضيقة عن التصدي لها، وكان واضحا للجميع أن الحريق تم بفعل فاعل، لأن النيران اندلعت فجأة من جميع الجهات، بدون تدرج في انتقالها من جهة إلي أخري، وقيل بعد ذلك إن كومة من القمامة بجوار المبني من الخارج هي السبب بعد اشتعالها بيد مجهول، لكن الجيران أكدوا أن الحريق بدأ من الداخل ومن عدة جهات في نفس الوقت، ما يبرر استخدام مواد حارقة، ولم تكن قد مرت غير أسابيع قليلة علي إخلاء جميع حائزي المراسم من الفنانين بأعمالهم من القصر بناء علي طلب ملح ومتكرر من هيئة الآثار من أجل تمكين المقاول من استكمال أعمال الترميم فيه، بعد أن استمرت هذه الأعمال دائرة بشكل متقطع لمدة تزيد علي 15 عاما مع وجود الفنانين بمراسمهم، في ظل أقاويل تصاعدت حول تفشي الفساد المالي وفشل الحلول المعمارية الخاطئة لعمليات الترميم علي مدار تلك السنوات في معالجة التصدعات والميول، مما أدي في النهاية لإحالة الموضوع لجهات التحقيق، وبقيت واقفا عدة ساعات بالقرب من المسافرخانة، والنار تحرق قلبي معه، يهزمني القهر ويتحجر الدمع في عيني ويعجز الصوت عن الخروج مطلقا شحنة من الغضب بداخلي كفيلة بأن تحرق كل الجناة!
المشهد الخامس: بعد يومين من الحريق، ذهبت إلي قصر المسافرخانة فلم أجده، وكأنه لم يكن هنا يوما - حتي الجدران انهارت عن آخرها، كان معي صديقي الروائي ناصر عراق، سألته في ذهول: كيف استطاعت النيران التهام الجدران الحجرية؟.. إن قنابل الحروب لا تستطيع ان تزيلها بهذا الشكل!.. رأيت عمود "التختبوش" الرخامي ملقي كالجثة بين الأطلال المتفحمة، كان هذا العمود يحمل مرسمي القديم، وفيه أكبر وأروع مشربية في العمارة الإسلامية.. ورأيت سيدة أجنبية تتأمل المكان في تأثر شديد، عرفت أنها زوجة الفنان محمد عبلة، (وكان يحوز مرسما بعد أحداث 1976 بسنوات كثيرة)... سألتها: هل كانت لوحاته موجودة بمرسمه عند الحريق؟.. حمدت الله حين أجابت بأنه كان قد نقلها كاملة قبل أيام قليلة من الحريق، ولم تتبق بالمرسم- في الحجرة الأرضية - غير آلة طبع الجرافيك علي الزنك وبعض التجارب الورقية، صرح وزير الثقافة فاروق حسني في كل وسائل الإعلام بأن الوزارة لديها خرائط ورسوم تفصيلية لكل جزء في المبني، وبأنه ستتم إعادة بنائه في مكانه كصورة طبق الأصل علي ضوء هذه الرسوم!.. وبعد 14 عاما من نشوب الحريق أخذني الحنين مساء أحد الأيام لزيارة المكان ومعي بعض الأصدقاء، فلم نجد أثرا يوحي بأن هنا كان يوجد قصر المسافرخانة، كل ما استقبلنا هو عدد من الكلاب الشرسة خرجت من ظلام الخرابة وهبت في وجوهنتا تنبح بعدوانية!
يا إلهي!.. حتي الأطلال لم يبق لنا الحق في البكاء عليها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.