فكرت كثيراً ماذا عساي أن أقول عن سمير جريس عندما سألتني الأديبة المتميزة منصورة عز الدين أن أكتب شهادة عنه بمناسبة حصوله علي جائزة جوته للترجمة. هل أهنئه وأقول إنه يستحقها؟ ولكن هو يستحقها فعلا وإلا لما حصل عليها من أهم مركز ثقافي يرعي الترجمات الألمانية الي العربية، فشهادتي أنه يستحقها لن تضيف جديدا. هل أبدأ في وصف حسه اللغوي المرهف وقدرته الفائقة علي نقل التفاصيل الأدبية والإنسانية الصغيرة والتي قد لا يلتفت اليها أحد الي العربية؟ ولكن هذا يحتاج إلي بحث طويل موثق وبه كل الأمثلة علي هذه القدرة. هل أتحدث عن أن سمير جريس قارئ وناقد جيد للأدب بشكل عام، وبالتالي فهو مترجم بارع؟ ولكن هل هذا ما أريد أن أضيفه في شهادتي عن سمير جريس. بعد تفكير وجدت أنني أفضل أن أتحدث عن جوانب في سمير جريس عرفتها أنا بشكل شخصي. البداية: أثناء انعقاد الجلسة الأولي لاختيار الكتب الألمانية المرشحة للترجمة في إطار برنامج ليتريكس Litrix. قابلت سمير جريس لأول مرة. كنت واحدة من ثلاثة في هذه اللجنة، سمير جريس، هدي عيسي وأنا. لم اكن قد التقيت سمير من قبل، وعرفت أنه يترجم عن الألمانية ويعيش في برلين، وأنا كنت قد ترجمت ثلاثة كتب عن الألمانية، أهمها بالنسبة لي كان "نموذج طفولة". توقعت من سمير جريس غيرة مهنية مفهومة وانتظرت أن يقابلني بإهمال لأنني لم أكن معروفة في مجال الترجمة مثله. ولكن ما قابلني به سمير جريس هو ابتسامة عريضة صادقة وتهنئة من القلب وتشجيع ظل يسبغه علي منذ ذلك الحين وطوال فترة عملي بالترجمة. سمير جريس ليس فقط ذا حس لغوي مرهف، ولكنه مبدع ذو حس إنساني عالٍ، إنسان يحمل من الحب والعطاء لزملائه مما يجعلنا جميعاً وبلا استثناء نغار منه مهنيا صحيح، ولا أنكر هذا ، لقدراته الفذة وحسه اللغوي وحساسية ترجماته. هم سمير جريس هو أن يقدم ترجمة علي أعلي مستوي، ولا يتحرج في إنجازه لترجماته أن يتواصل مع زملائه ويسأل عن كلمة، أو جملة أو مفهوم ، لعل زملاوءه يقدمون له فكرة إضافية. وأنا واثقة أن تلك الصفة هي من أبرز مظاهر القوة لدي سمير جريس وأبرز مظاهر إبداعه الفائق. سمير جريس لا يهتم بذاته بقدر ما يهتم بجودة الترجمة. وما أحوجنا لهذه الشخصيات اليوم في مجال الثقافة. ولهذا نحمل له جميعا نحن زملاء وزميلات سمير جريس في المهنة الشاقة - إعزازاً شديداً وتقديراً جعل الفرح يلفنا جميعا عندما سمعنا خبر فوزه بالجائزة. سمير جريس إنسان يفيض بالحب والتشجيع علي زملائه. ولعل هنا تكمن سر روعة ترجمات سمير جريس: روحه المحبة شديدة التسامح. وهذا يقودني إلي الحكاية الثانية. حكاية ألفريده يللينك Elfriede Jelinek ورواية "عازفة البيانو" التي ترجمها سمير جريس في عام 2005. حصلت ألفريده يلينك علي جائزة نوبل وهي كاتبة نمساوية اشتهرت بروايتها "عازفة البيانو". هذه الرواية كنت قد قرأتها من قبل وشاهدت فيلما مأخوذا عنها، ومع ذلك لم أستطع فهم هذه الرواية الصعبة. ولكن عندما ترجمها سمير جريس الي العربية بعد حصول الكاتبة علي جائزة نوبل، انفتحت شفرتها أمامي. فقد استطعت فهم هذه الرواية التي كانت مستعصية عليّ في لغتها الأصلية (الألمانية) وظهرت لي كل الثنايا والتفاصيل الدقيقة التي لم أكن استطع فهمها في لغتها الأصلية. وأخذت أبحث عن الأسباب التي جعلت هذه الرواية في ترجمتها العربية أقرب إلي فهمي منها في لغتها الأصلية ، رغم ما يقال عن أن المترجم خائن بطبيعته والنص المترجم يفقد جزءا من مضمونه وشكله عند نقله الي لغات أخري. السبب في رأيي هو أن روح سمير جريس التي أدخلها علي النص المترجم هي التي جعلت هذا النص غير مستعص علي الفهم. روح سمير جريس هي التي أضاءت النص، كما تضيء روحه المتسامحة علاقته بزملائه من المترجمات والمترجمين. وعندما قرأت النص بروح سمير، انفتح أمامي العالم المغلق وأضاءه سمير بفهمه الخاص. أضاف سمير الي هذا النص الصعب في ترجمته العربية أكثر مما أفقده. وهنا أستطيع القول وأنا كلي ثقة إن ليس كل مترجم خائناً. وللأديبات والأدباء الألمانيات والألمان أقول: يا بخت من كان سمير جريس مترجم نصوصه.