«بحضور المحافظ وأساقفة عموم».. تجليس الأنبا مينا كأول أسقف لإيبارشية برج العرب والعامرية (صور)    الإسعاف الإسرائيلي: 22 قتيلًا وأكثر من 400 مصاب منذ بداية الحرب مع إيران    بالمر يقود تشكيل تشيلسي ضد لوس أنجلوس في كأس العالم للأندية 2025    مدحت شلبي عن أزمة ضربة الجزاء: ما حدث لا يليق    الأرصاد تكشف مفاجآت بشأن حالة الطقس فى الصيف: 3 منخفضات جوية تضرب البلاد    تأجيل محاكمة 11 متهما بالانضمام لجماعة إرهابية فى الجيزة ل8 سبتمبر    استوديو «نجيب محفوظ» في ماسبيرو.. تكريم جديد لأيقونة الأدب العربي    «الصحة»: ملتزمون بخدمة المواطن وتعزيز الحوكمة لتحقيق نظام صحي عادل وآمن    «سياحة النواب» توصي بوقف تحصيل رسوم من المنشآت الفندقية والسياحية بالأقصر    نراهن على شعبيتنا.. "مستقبل وطن" يكشف عن استعداداته للانتخابات البرلمانية    "الإسعاف الإسرائيلي": 22 قتيلًا وأكثر من 400 مصاب منذ بداية الحرب مع إيران    بدأت بمشاهدة وانتهت بطعنة.. مصرع شاب في مشاجرة بدار السلام    وزير خارجية إيران: مكالمة من ترامب تنهي الحرب    وزير الثقافة: تدشين منصة رقمية للهيئة لتقديم خدمات منها نشر الكتب إلكترونيا    خبير علاقات دولية: التصعيد بين إيران وإسرائيل خارج التوقعات وكلا الطرفين خاسر    وائل جسار يجهز أغاني جديدة تطرح قريبا    "كوميدي".. أحمد السبكي يكشف تفاصيل فيلم "البوب" ل أحمد العوضي    ما الفرق بين الركن والشرط في الصلاة؟.. دار الإفتاء تُجيب    حالة الطقس غدا الثلاثاء 17-6-2025 في محافظة الفيوم    طبيب يقود قوافل لعلاج الأورام بقرى الشرقية النائية: أمانة بعنقي (صور)    وزير العمل يستقبل المدير التنفيذي للأكاديمية الوطنية للتدريب- صور    العثور على جثة شاب مصاب بطلق ناري في ظروف غامضة بالفيوم    فيفا يشكر كل من شارك في إنجاح مباراة افتتاح كأس العالم للأندية بين الأهلي وإنتر ميامي    لمست الكعبة أثناء الإحرام ويدي تعطرت فما الحكم؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    ما هي علامات عدم قبول فريضة الحج؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    أمين الفتوى يوضح حكم الجمع بين الصلوات في السفر    سي إن إن: إيران تستبعد التفاوض مع واشنطن قبل الرد الكامل على إسرائيل    محافظ الدقهلية يتفقد أعمال إنشاء مجلس مدينة السنبلاوين والممشى الجديد    تقرير يكشف موعد خضوع فيرتز للفحص الطبي قبل الانتقال ل ليفربول    البنك المركزي يطرح سندات خزانة ب16.5 مليار جنيه بسعر فائدة 22.70%    إلهام شاهين توجه الشكر لدولة العراق: شعرنا بأننا بين أهلنا وإخواتنا    البنك التجارى الدولى يحافظ على صعود المؤشر الرئيسى للبورصة بجلسة الاثنين    مفوض الأونروا: يجب ألا ينسى الناس المآسي في غزة مع تحول الاهتمام إلى أماكن أخرى    التضامن تعلن تبنيها نهجا رقميا متكاملا لتقديم الخدمات للمواطنين    افتتاح توسعات جديدة بمدرسة تتا وغمرين الإعدادية بالمنوفية    عضو ب«مركز الأزهر» عن قراءة القرآن من «الموبايل»: لها أجر عظيم    التعليم العالي تعلن حصاد بنك المعرفة المصري للعام المالي 2024/2025    «لترشيد استخدام السيارات».. محافظ قنا يُعّلق على عودته من العمل ب «العجلة» ويدعو للتعميم    وفود دولية رفيعة المستوى تتفقد منظومة التأمين الصحي الشامل بمدن القناة    بعد عيد الأضحى‬.. كيف تحمي نفسك من آلالام النقرس؟    إيراد فيلم ريستارت فى 16 يوم يتخطى إيراد "البدلة" في 6 شهور    العربية: إيران تعتقل عشرات الجواسيس المرتبطين بإسرائيل    تخفيف عقوبة 5 سيدات وعاطل متهمين بإنهاء حياة ربة منزل في المنيا    النائب حازم الجندي: مبادرة «مصر معاكم» تؤكد تقدير الدولة لأبنائها الشهداء    تصنيف الاسكواش.. نوران جوهر ومصطفى عسل يواصلان الصدارة عالمياً    توقيع عقد ترخيص شركة «رحلة رايدز لتنظيم خدمات النقل البري»    بريطانيا تشهد تعيينًا تاريخيًا في MI6.. بليز مترويلي أول امرأة تقود جهاز الاستخبارات الخارجية    محمد عمر ل في الجول: اعتذار علاء عبد العال.. ومرشحان لتولي تدريب الاتحاد السكندري    القبض على 3 متهمين بسرقة كابلات من شركة بكرداسة    بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالمنصورة الجديدة.. 6 يوليو    الجالية المصرية فى لندن تحتفل بعيد الأضحى    لا تطرف مناخي.. خبير بيئي يطمئن المصريين بشأن طقس الصيف    محافظ أسوان: 14 ألف حالة من المترددين على الخدمات الطبية بوحدة صحة العوضلاب    الينك الأهلي: لا نمانع رحيل أسامة فيصل للعرض الأعلى    أسعار الفراخ اليوم.. متصدقش البياع واعرف الأسعار الحقيقية    إصابة 3 أشخاص بطلقات بندقية فى مشاجرة بعزبة النهضة بكيما أسوان    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    الشرطة الإيرانية: اعتقال عميلين تابعين للموساد جنوب طهران    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تسعينية يوسف الشاروني تاريخ من الإبداع والجدل والحوار
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 11 - 2014

يشغل الكاتب يوسف الشاروني مكانة كبيرة في الإبداع القصصي المصري، وهو نموذج للمثقف المثابر والدؤوب الذي يبحث عن ذاته التائهة في زحام العالم، وربما انتزعه هذا البحث الدؤوب عن المشاركات الفعّالة في الأدوار العامة السياسية، والتي يعلن من خلالها المبدعون مواقفهم الرافضة أو المؤازرة، ونأي بنفسه بعيدا عن هذه المساحات الشائكة والتي كثيرا ماتكون مربكة للفنان والمثقف، ورأي الشاروني أن يعبّر عن نفسه بشكل مكثف في إبداع القصة القصيرة، وتجنبعلي عكس معاصريهالدخول في هذه المجادلات، التي غالبا ماتكون معطّلة للفنان عن بناء صرحه الفني أو الأدبي، وربما يكون هذا التجنب مادفعه لتغيير في عنوان وتفاصيل قصته "الطريق إلي المعتقل"التي نشرها في ابريل عام 1950 في مجلة الأديب المصري، وكانت كما يقول العنوان تتحدث عن معتقل يخطف المواطنين دون أن يعرف ذووه لماذا حدث هذا، عندما أعاد نشرها في مجموعته الأولي "العشاق الخمسة" التي نشرها في ديسمبر 1954، وأزعم أن هذا التغيير لم يأت بعيدا عن المناخ الذي كان سائدا في ذلك الوقت
وليوسف الشاروني تجربة قصيرة جدامع العمل السياسي، بحكم أن عقد الاربعينيات كان مناخا خصبا انتشرت فيه التنظيمات المختلفة أيما انتشار، فكان الشيوعيون يمارسون عملهم السياسي والتنظيمي بكل نشاط وحيوية، وبالفعل ساهموا في تفعيل الحركة الوطنية بشكل واضح ومتقدم، وكانت الجامعة المصرية تضج بأفراد وجماعات وتنظيمات كثيرة، وكانت كذلك هذه الحركة الوطنية لا تقتصر علي الطلاب فقط، بل شهدت أساتذة ومثقفين من طراز لويس عوض ومحمد مندور وشكري عياد وغيرهم، وكانت المجلات اليسارية تعمل علي قدم وساق، وتقدم الثقافة اليسارية بشكل واسع، وعلي رأس هذه المجلات كانت مجلة الفجر الجديد التي كان ينشر فيها علي الراعي ونعمان عاشور وشهدي عطية وطبعا أحمد رشدي صالح مؤسسها ورئيس تحريرها وأحمد صادق سعد ولطيفة الزيات، إذ أن هناك جيلا جديدا بدأيتشكل في ظل ثقافات مختلفة، حيث أن جماعة الأخوان المسلمين كانت حاضرة في الجامعة والشارع، وكان حزب مصر الفتاة، والحزب الوطني الجديد، وكان بالطبع حزب الوفد وطليعته وقياداته وصحفه المصري وصوت الأمة وغيرهما، وكانت الصحافة تعمل بكامل طاقتها الثورية، مثل مجلات روز اليوسف والاثنين والدنيا ومسامرات الجيب، وكانت مجلات ثقافية ذات وزن ثقيل مثل الكاتب المصري لطه حسين، وعالم الكتاب لعادل الغضبان، والرسالة الجديدة لأحمد حسن الزيات، والثقافة لأحمد أمين وهكذا، وفي ظل كل هذه النهضة العارمة، كان فن القصة القصيرة ينهض وتقوي أعواده بين كافة الفنون، فكانت هناك الموجة الثانية التي أتت بعد موجة العشرينيات الأولي التي قادها محمود طاهر لاشين ومحمد تيمور وحسن الشريف وحسين فوزي وعيسي وشحاتة عبيد ويحيي حقي وآخرون، أما الموجة الثانية فكان روادها صلاح الدين ذهني ونجيب محفوظ ومحمود كامل المحامي ومحمود البدوي وسعد مكاوي ومحمود تيمور وغيرهم، وجاء عقد الأربعينيات لتحدث إرهاصات جديدة، وتتكون الموجة الثالثة في منظومة القصة القصيرة، والتي بدأت بوادرها بعد نكبة 1948، والانتكاسة العربية بعدها، وظهور كثير من كتّاب القصة علي وجه الخصوص مثل يوسف ادريس وصلاح حافظ ومحمد يسري أحمد ومصطفي محمود وأحمد عباس صالح وأحمد رشدي صالح وفؤاد القصاص وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهم، ولأن كل هؤلاء لم يخرجوا من فراغ، بل انبثقت حيواتهم التعبيرية في ظل هذا الجو الصاخب الذي ساد عقد الأربعينيات، واتجه جميع هؤلاء إلي استدراج الحياة السياسية بشكل واضح، وكان أكثر هؤلاء الكتّاب تعبيرا عن الحسّ السياسي في النص القصصي هو يوسف ادريس، ولكن ليس بالشكل المباشر الفج الخام، ولكنه كان مضفرا بهذه الدفقة الادريسية الحميمة، فمثلا قصة "5 ساعات"التي تسرد واقعة محددة عاشها ادريس نفسه كطبيب عندما اغتال الحرس الحديدي التابع مباشرة للقصر الملكي، واحدا من أبطال المقاومة، وهو الضابط عبد القادر طه، لم يستطع يوسف ادريس من الإفلات من سطوتها، فراح يسجلها ويستخرج منها دلالات لا تنفصل عن الدلالات التي تبرزها الحركة الوطنية جميعا، وكانت الحركة القصصية جميعا تسير في هذا الاتجاه الذي يتناول الحياة الاجتماعية والسياسية بهذه الطريقة الجدلية، وعلي عكس هؤلاء كان يوسف الشاروني، الذي درس علم النفس والفلسفة، والذي جنح بعيدا عن هذا الجو وعن هذا المناخ، وكان الشاروني متأثرا إلي حد بعيد بالمنهج التكاملي الذي أرسي قواعده أحد أساتذة علم النفس الكبار وهو الدكتور يوسف مراد، حيث قراءة الانسان من جميع زواياه، وتشريحه كما يفعل الأطباء تماما، ولم ينج الشاروني من البعد الكافكاوي الواضح، وهذا مايلاحظه الناقد الراحل فاروق عبد القادر في قصته "دفاع منتصف الليل"، هذه القصة التي يبدؤها بحالة شبه عبثية تماما إذ يقول :"كان ذلك عند هبوط المساء قليلا ، حين كنت أبحث عن شئ أحك به جسدي، وكانت الليفة هي حاجتي الحقيقية للخلاص مما أنا فيه، وأنا أؤجل ذلك من يوم إلي يوم، حتي أدركت أخيرا أن الامر أصبح ضروريا لا مفر منه"، هذه البداية شبه القدرية وشبه العبثية، وكذلك شبه اللاإرادية، إنه شخص يتلقي الأحداث دون قدرته علي صناعتها أو المشاركة في صياغتها، وكذلك تنتابه هواجس ووقائع لا يملك تفسيرا لها، فقط يحاول وصف مايحدث، وهو يتضور ألما، فيستكمل :"ولقد صدق حدسي حين هبطت الطريق التي توسمت أنهم يبيعون فيها أمثال هذه الحاجات، فقد عثرت أخيرا علي بائع متآكل الأنف، وكانت ليفة كبيرة في غير ذات نفع، فهي ممزقة كئيبة ومليئة بالثقوب كأنما أكلتها الفئران.. ولكنني لا أحب الجولان في الطرق، وأخشي أن تثير كثرة السؤال شبهة حولي ، كما أني ما أحب أن أعود من رحلتي فارغ اليدين.. فدفعت الثمن في غير جدل، ولاحظت البائع وهو يلفها لي في كثير من ورق الجرائد في عجلة وبغير كبير عناية ثم يمد قامته نحوي قليلا ويدسها تحت إبطي.."، وهكذا يسترسل الشاروني في سرد وقائع قصة هذا الرجل البائس والذي لا يملك من أمر نفسه شيئا، وكأنه مقبل علي محاكمة تشبه محاكمة السيد "ك" في "محاكمة فرانز كافكا، وليس هذا هو حال بطل هذه القصة فقط، بل إن غالبية أبطال يوسف الشاروني أبطال خائفون مقموعون متوترون وموسوسون، وربما انزلاقات قصص الشاروني الخفيفة إلي أزقة السياسة كانت غريبة نسبيا علي عالمه، وعندما نوهنا إلي قصته "الطريق إلي المعتقل" والتي استبدلها الشاروني فيما بعد ب"الطريق إلي المصحة"، اكتشفنا أن القصة المعدلة تناسب المنحي الذي اختاره الشاروني لنفسه، وهو الأكثر ملاءمة لثقافته وتوجهاته وحياته، فهو لم يزعم في يوم من الأيام أنه كان صاحب توجه سياسي، وصاحب موقف سياسي، ولكنه يعبر عن ذلك بطريقته الخاصة، وربما أبطال قصصه يضجرون من السياسة، أو محاولة الزج بهم في جنبات هذا العالم الذي يزيد الانسان ابتعادا عن نفسه التي يبحث الشاروني في اكتشاف وديانها ومساحاتها الشاسعة والغامضة، ففي القصة التي أشرنا إليها وهي "الطريق إلي المعتقل"، والتي كتبها الشاروني بحساسية فائقة، وبأسلوب اتفق معظم ناقدي الشاروني علي أنه تعبيري من طراز أول، وتبدأ القصة بأن شابا وأباه يخرجان من منزلهما، ويودعان أم الشاب بكل رقة، وتوصيه هو وأباه أن يأخذا بالهما من مشقة الطريق، ويأخذهما سائق عملاق في عربة غامضة، حتي يصلا إلي محطة القطار، وعندما يركبان القطار، ويبدأ في التحرك، وتهتز عجلاته التي تهتز لها العربات، فتميل الأحمال التي يحملها الشاب ووالده، وينكسر شئ ما، وتفوح رائحة شبه نفّاذة أو كريهة من هذا الشئ المنكسر، فينزعج الجار في القطار، ويبدأ يتساءل ماهذه الرائحة، فيرد عليه الشاب بأنها رائحة خلّ، فيندهش الجار سائلا :وماذا يفعل الخلّ في المعتقل؟، وهنا يحتار الشاب ويبدأ في الريبة من جاره، ويعود ليسأله بخوف :"وما أدراك أننا ذاهبون إلي معتقل؟"، فيستفيض الجار في توضيح أن هذا لا يحتاج إلي عبقرية خاصة، بل إنه واضح تماما من اختلاف زيه عن زي بقية كل راكبي عربة القطار، الذين يرتدون ملابس موحدة، وهي ملابس العمال، وهم ذاهبون إلي عملهم في المصنع الذي هو في نهاية موقف القطار، وليس هناك سوي المعتقل والمصنع، إذن ليس من الفطنة العظيمة أن يدرك أنه ذاهب إلي المعتقل، ويطمئنه بأن ذلك لا يبعث الريبة والخوف والتوتر، لأنه هو نفسه ذاهب إلي هناك، حيث له شقيق في المعتقل، ويدور الحوار حول المعتقل، والمعتقلين، وعدم وضوح أسباب هذا الاعتقال، وهنا يتفادي الشاروني الحديث عن أسباب الاعتقال، أو عن أي شبهة من الممكن أن تكون سببا في هذا الاعتقال، ولكن هذا لا يمنعه من التحدث عن الإضراب الذي قام به المعتقلون، ويصرّون علي إكماله حتي يحصلوا علي مايريدون، هنا تبدو القصة أنها تريد أو يريد لها الشاروني أن تكون مجردة تماما من البيئة المحلية التي أنتجتها، وبالتالي عندما تم تغيير المعتقل إلي المصحة، ظلّت القضية هي الانسان الخائف والمستريب والمتوتر الذي كان معتقلا هناك في النص الأول، وأصبح هنا معتلا ومصدورا ومريضا وليس له حول ولا قوة، الشاروني الذي كانت تحيط ثقافته في ذلك الحين بالتيارات العالمية، كانت هذه الكتابة تناسبه تماما، ورغم أن قصصه الاخري كانت تحظي بأسماء أحياء مصرية وقاهرية عتيقة، واسماء شخصيات في غاية المحلية، إلا أنه كان يعبر عن انسان ما في الكون الواسع، هذا الانسان الذي تدهسه كافة تقلبات الحياة الاجتماعية، وهنا تلعب تيمات التحليل النفسي والقراءات الفلسفية دورها في بناء النص القصصي، وهناك نص آخر نشره الشاروني في مجلة الأديب اللبنانية في يوليو 1954، ولم أجده في مجموعاته الثلاث الأولي، وهذه القصة عنوانها لافت جدا، وهو "من أيام الرعب..قصة محمد مظلوم"، وهذه القصة كذلك متأثرة إلي حد بعيد بالعالم الكافكاوي، فمحمد مظلوم هذا يعود إلي منزله فيجد ثروته التي تصل إلي تسعة وعشرين جنيها وستين قرشا مسروقة، ولكنها سرقت أثناء مرور رجل عظيم ذي موكب مهيب، وعندما يذهب مظلوم مع الذاهبين لمشاهدة هذا العظيم، ويعود، فيجد أن تحويشة العمر قد سرقت، ويبدأ في التردد علي الناس حتي يسألهم عن مسروقاته، ويتعرض رويدا رويدا إلي أشكال من الشك والريبة والرعب، والبوليس نفسه يستريب فيه، إن قضية محمد مظلوم قضية عادلة، ولأن الواقع يموج بعبثية مدهشة وغريبة وغير مبررة، فتبدو قضيته وكأنها نوع من اللهو والعبث والاستهانة، فالإنسان
هنا يتعرض لأشكال من العبث القدري وغير المقصود، ولا يوجد من يقدر علي إقرار العدل، ولا إقرار الطمأنينة، فالرجل الذي هو محمد مظلوم والذي جاء بتحويشته من خلال عمل شاق كبنّاء يتحول من صاحب اتهام إلي متهم، وهكذا تدور شخصيات الشاروني في أشكال عديدة من الخوف والريبة والحياة التي توشك علي الانهيار، وفي تطورات الشاروني اللاحقة تكاد شخصياته أن تجن وتخرج عن المعقول إلي اللامعقول، وبقدر الإمكان يحاول الشاروني أن يجعل من شخصياته العديدة شخصيات كونيه، حتي لو اتخذت اسماء محلية، وحتي روايته الوحيدة وهي رواية "الغرق"، والتي جاءت كرد فعل علي غرق السفينة المنكوبة، والتي كانت تكشف عن جانب كبير من الفساد، إلا أن الشاروني لم يوجه الرواية إلي هذه الزاوية ، بل كان يقود سفينة روايته نحو تعميم الحدث، وكوننة الموضوع، لينتمي إلي العالم والكون والانسانية بشكل أجمع.
ولم يبد هذا في كتابته القصصية فقط ، ولكن هذا المنهج انسحب علي قراءاته النقدية الموازية لكتابته الإبداعية، ورغم ان الشاروني لا يزعم أنه ناقد مثل النقاد الأكاديميين، لكنه يعتبر أن قراءاته التي يسميها بالإيجابية متكاملة مع سياقاته الإبداعية، هذه القراءات التي لم تتوقف عند القصة القصيرة أو الرواية فقط، بل تجاوزتها إلي مجالات أخري في التراث العربي القديم والحديث، فله كتابات ممتعة لاتقل إبداعا وإمتاعا عن نصوصه القصصية، ففي كتابه "الحكاية في التراث العربي"، يقدم قراءات في كتاب "المكافأة وحسن العقبي" لأحمد بن يوسف، وكذلك قدم قراءات متميزة في ألف ليلة وليلة، وقراءات في كتاب الحيوان للجاحظ، وحي بن يقظان والسير الشعبية، وفي كل ذلك ينحو الشاروني نحوا يخصه فقط، بعيدا عن المناهج الأكاديمية الجافة، وهناك شئ من الحوار مع هذا التراث، حوار فيه التامل والمساءلة والجدل والمقارنة، وهو لا يتعامل مع هذا التراث باعتباره كتابات قديمة، تخبر عن أحداث وقعت في أزمنة بعيدة، ولكنه يستحضر الحدث وشخوصه وملابساته، ويضع القارئ في حالة كاملة من المعايشة، وهنا تبرز فرادة المبدع عندما يقرأ التراث وينقده ويغوص في تفاصيله، رغم أنك وأنت تندمج وتنفعل مع هذه الكتابات التي يقدمها الشاروني، إلا أنك بعد أن تفرغ من قراءته تجد نفسك أمام مشاهد حية من التراث البعيد، أراد الشاروني إلباسها الأثواب العصرية.
وهناك الجهد الذي قدمه الشاروني في قراءة الأعمال الأدبية، وهو كذلك لم يقلد أحدا ولم يكن إلا شارونيا جدا، فأعد قراءات لكتاب يشبهونه إلي حد ما، وربما يكون بعضهم قد تأثر به أو خرج من معطفه إذا صحّ التعبير، مثل فاروق خورشيد ويحيي الرخاوي ومحمد جلال وحسن محسب وشوقي عبد الحكيم وعزت ابراهيم، كما قدم قراءات عن كتابات لصبري موسي ومحمد زكي عبد القادر وعبدالرحمن منيف وإقبال بركة وغيرهم، كما كتب دراسات كثيرة عن كتابات عمانية ، حيث عمل هناك لعدة أعوام، وكذلك قدم كتابا عنوانه "حفيدات شهرزاد"، وأعد قراءات نقدية لننصوص ملك عبد العزيز وسكينة فؤاد وأليفة رفعت وصوفي عبدالله ولطيفة الزيات وغيرهن وغيرهن، والجدير بالذكر أن الشاروني كتب الشعر ونشر كتابا فيه، وذلك في مطلع الستينيات، وهي تجربة جديرة بالقراءة، كما أنه كتب القصة القصيرة جدا، قبل أن يكون لهذا النوع شأن عظيم مثلما نراه الآن، وتقام له مسابقات وجوائز، وفي حقيقة الأمر أن هذا النوع من القصص كانت قد بدأت في نشره مجلة صباح الخير في أعوام الخمسينيات، وكان الشاروني هو أحد نجوم هذا الفن، وأحد المجدين فيه، ليصبح رائدا في كتابته، ولذلك هو يحتاج إلي دراسات معمقة، بصفته أحد آباء كثير من كتّاب القصة في زمن الستينيات، ولكن هذا غير مدركه، ولا يستطيع أحد رؤيته بوضوح، لأن الطريقة التي أديرت بها الحياة الثقافية في عقود متتالية، أفسدت القراءة الصحيحة لكثير من الكتّاب، وهذا لا يعني أننا لا نبدي ملاحظات علي مسيرة هؤلاء الكتّاب، وربما نختلف معهم في مساراتهم وطرائق إدارة حيواتهم الأدبية، ولكن هذا لا ولن يمنعنا من قراءتهم في ضوء أشمل من اتخاذ مواقف سياسية حادة، وكثيرا ماتكون ظالمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.