أجلس ما بعد تمام الغروب، فضاء مراكشي مرقرق، قبة مستوفية الاستدارة. تامة النسب، مشرفة علي سرحة ماء مؤطر في مستطيل رحب، حدائق محيطة، منصة بسيطة، اسم الموضع بعث عندي حنيناً ما إلي أمور لا أستدل عليها، قبة الأمراء، أجلس بين مدعوين وضيوف من بلدان أخري، بعد المفتتح أنتقلت عضوات الفرقة الايرانية إلي الصدارة فحللن عندي أهلاً ونزلن سهلاً، خاصة تلك البنية ممسكة الطار، نحيلة، فارهة، ستبقي من ثوابتي، تفاجئني حيث لا أتوقع وفي مواضع لم أبلغها إلا بعد طول ترحال وإغتراب، وقفتها، جلستها، عزفها، لم أعرفها إلا من خلال مرقاب البصر، صلتي بالموسيقي الفارسية يطول الحديث فيها. ربما أفصح في مقام آخر، غير أنني أقول أنني عرفتها بالتداعي بعد أيغالي في تذوق الموسيقي التركية ومعرفة أحوالها وأعلامها، في ضاحية باريسية علي الطريق المؤدي إلي مدينة ليل التي أعرفها أولا من الروايات القديمة ثم بالإقامة، ألتقيت موسيقيين ايرانيين، عازف متقن للستيار، مستخرج لأدق مكامنه، علي شاطيء المحيط التقيت في سان فرانسيسكو بعازف للآلة نفسها، قادر، متمكن، هما صنوان، الاول أسمه داريوش إطلاعي، الثاني حسين علي زاده، لكل منهما حضوره وطرائقه، لكل أسلوبه وروحه، أحتفظ بتسجيلات وافية واضحة للحفلات التي حضرتها لكل منهما، الأمر مغاير لما أصغي إليه وأتلقاه من أخري لم أكن جزءا منها، إذ يدوي التصفيق أتجه أكثر إلي ما كان، إنما أنا جزء من البنية، للأسف لم أحتفط بتسجيل لما أصغيت إليه في قبة الأمراء، غير أن مطلع العزف يتجسد أمامي وفي سمعي بمجرد ورودها علي، ملامحها مقامات وأنغام، هنا أستعيد ما دونته في »مقاصد الأسفار« أورده نصاً. كانت مثل زميلاتها الأربع الأخريات، نحيلة جداً. كأنها عصا أرتدت ثوباً. ملامحها مستطيلة، تبدو خلال مشيها وكأنها تحاول الأختباء من شيء ما لا يبين، كلهن يرتدين السواد ويغطين شعورهن بحجاب خفيف، يظهر ولا يسفر، يوميء ولا يشير، يوحي ولا يلفظ، زميلاتها أربع. أستعيدهن جمعاً، لا فوارق بينهن، مجرد مساحة من لون قاتم الحلوكة، ملامحهن أندمجت في ذاكرتي عداها، هي تمسك بطار أشبه بالغربال، الثانية أمامها قانون، والثالثة تحتضن كماناً، أما الرابعة فلها التنبك، قريب من الطبل البلدي، غير أن ما ينبعث منه له رهبة، صوت مفرد، مهيب، أعرف أستاذا تخصص فيها، جمشيد الاب، لقيته في رويامون بصحبة جمشيد الابن، لا أستدعي ما يتعلق بإيران إلا وترد عليّ النحيلة. ليس لأنها الأجمل، ملامحها خبيئة لا تلفت النظر، إنما تبدو متمهلة كرائحة العنبر، تبث بهدوء، صمت، يسمع منه حفيف يتصاعد حتي يصبح صوتاً لشلال كاسح لكل ما يكمن بين الصلب والترائب، الأجمل أكبرهن سناً، المنشدة. لم أعدها منهن لأنها لم تختص بآلة رغم أنها جزء منها، صوتها، جمالها للعمر المتقدم، تتجسد فيها رهافة وسريان الجميل، ما يضفيه داخل دافيء علي خارج مهيب، طلة من الميراث الانساني الرحب، البديع، أرقب أناملهن تضبط ما يمسكن به، لا أدري من أين ستنبعث الأنغام، من الأصابع أم الأوتار والأسطح المشدودة. تري. ماذا ستقدمه تلك البنية الرهيفة التي تبدو كظل لأصل خفي غائب لا ندري كنهه. الأناشيد من أشعار مولانا، وعندما نقول في كل لغات العالم مولانا فهذا يعني مولانا لاغيره، إنه جلال الدين دفين قونية، سافرت إليها بترتيب من صاحبي أكمل أوغلو، من مواليد مصر، الأبرز في أستانبول، تتأهب الفرقة النسائية، مفتتح حفلات السماع، تمسك الطار، ترفعه إلي أعلي، من الطبيعي ألا يكون المفتتح إلاَّها، هي ولا غير، النغمة الأولي وما تبقي توابع، تماما مثل ضربات القدر في مفتتح الخامسة لبيتهوفن، بداية لاتنقضي حتي لو توارت إلي حين، تظل بادية، ماثلة، محددة للمسار كله، مفتتح البداية أساس التكوين ومرتكز البنيان، هكذا الرواية والنقش والعمل السياسي. الخطوة الأولي إشارة، تحدد الوجهة والمستوي، الحفاظ عليها مؤشر التوفيق، لم يكن عزفها إلا تمهيداً، مع بلوغ الأوج بدأت تفسح للصوت البشري، تقدمت الجليلة بدون خطو، تصدرت الواجهة بدون سعي، توجهت إلي السماء المنبسطة فوقنا والتي بدأت حروفها النجمية في الظهور. وجهها صار أضوي. جمالها مراحل، شيئاً فشيئا نتحد بما تقوله، لا أفهم ولكنني أدركت، ليس مهماً معاني الكلمات، المهم مجملها، إلايقاع يمنحني الفهم الأثقب، لا أعرف التركية، أو الفارسية، أو الصينية، غير أن الموسيقي مدخلي ومأخذي، لم أتبادل مع أيهن كلمة، خاصة النحيلة التي رحت أطوف بها، لم أستفسر من صاحبي جعفر عنهن لم أهتم بالإطلاع علي موضع نشأتهن، يستوي عندي انتماؤهن إلي خراسان أو كرمان، البصرة أو أزمير، شانغهاي أو مرسي علم، أحياناً لا أريد المعرفة لأعرف أكثر، بقاء الأشياء الحميمة بعيدة في موضع المجهول يقربنا أكثر من الجوهر. في هيامي لقائي هواي بخاري وإقامتي قاهرية، ودليلي ما قاله الشيخ صالح يوماً في ساحة الأزهر عندما جاء قوم من الملايو، يحفظون القرآن ولايعرفون معانيه، أشار إليهم مصرحاً: هؤلاء أعمق إيماناً. ذاك حسبي..