تراجع أسعار السيارات الكهربائية مع استمرار القلق بشأن محطات الشحن    مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين بجامعة أمستردام    زعيم المعارضة الإسرائيلية يعتبر أن تهديد بايدن بوقف إمدادات الأسلحة سببه "الإدارة الفاشلة للحكومة الإسرائيلية    أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه المصري بداية اليوم الخميس 9 مايو2024    موعد نهائي دوري أبطال أوروبا 2024 بين ريال مدريد وبروسيا دورتموند    الأهلي يخطف صفقة الزمالك.. والحسم بعد موقعة الترجي (تفاصيل)    قصور الثقافة تختتم الملتقى 16 لشباب أهل مصر بدمياط    محمد فضل يفجر مفاجأة: إمام عاشور وقع للأهلي قبل انتقاله للزمالك    ضبط وإعدام أغذية فاسدة في حملة قادتها وكيل صحة الإسماعيلية (صور)    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 9 مايو 2024    حكم الحج لمن يسافر إلى السعودية بعقد عمل.. الإفتاء تجيب    بعد المخاوف العالمية من سلالة FLiRT.. ماذا نعرف عن أعراض الإصابة بها؟    مدرب نهضة بركان السابق: جمهور الزمالك كان اللاعب رقم 1 أمامنا في برج العرب    جدول مواعيد قطع الكهرباء الجديدة في الإسكندرية (صور)    طقس اليوم: شديد الحرارة على القاهرة الكبرى نهارا مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالعاصمة 36    للفئة المتوسطة ومحدودي الدخل.. أفضل هواتف بإمكانيات لا مثيل لها    اليوم، إعلان معدل التضخم في مصر لشهر أبريل 2024    تامر حسني يقدم العزاء ل كريم عبدالعزيز في وفاة والدته    تراجع سعر الفراخ.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية اليوم الخميس 9 مايو 2024    أحمد عيد عبدالملك: تكاتف ودعم الإدارة والجماهير وراء صعود غزل المحلة للممتاز    إبراهيم عيسى: السلفيين عكروا العقل المصري لدرجة منع تهنئة المسيحيين في أعيادهم    قائد المنطقة الجنوبية العسكرية يلتقي شيوخ وعواقل «حلايب وشلاتين»    بعد غياب 10 سنوات.. رئيس «المحاسبات» يشارك فى الجلسة العامة ل«النواب»    مصطفى خاطر يروج للحلقتين الأجدد من "البيت بيتي 2"    الأوبرا تحتفل باليوم العالمي لحرية الصحافة على المسرح الصغير    الفصائل الفلسطينية تشارك في مفاوضات القاهرة    «أسترازينيكا» تبدأ سحب لقاح كورونا عالميًا    معلومات عن ريهام أيمن بعد تعرضها لأزمة صحية.. لماذا ابتعدت عن الفن؟    انتخاب أحمد أبو هشيمة عضوا بمجلس أمناء التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي    «المصريين الأحرار»: بيانات الأحزاب تفويض للدولة للحفاظ على الأمن القومي    حقيقة تعديل جدول امتحانات الثانوية العامة 2024.. اعرفها    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 9 مايو في محافظات مصر    مصدر: حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية منفتحون نحو إنجاح الجهود المصرية في وقف إطلاق النار    الزمالك يشكر وزيرا الطيران المدني و الشباب والرياضة لدعم رحلة الفريق إلى المغرب    "دوري مصري ومنافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    زعيمان بالكونجرس ينتقدان تعليق شحنات مساعدات عسكرية لإسرائيل    بعد إصدار قانون التصالح| هذه الأماكن معفاة من تلك الشروط.. فما هي؟    إعلام فلسطيني: غارة إسرائيلية على حي الصبرة جنوب مدينة غزة شمالي القطاع    6 طرق لعلاج احتباس الغازات في البطن بدون دواء    مندوب الجامعة العربية بالأمم المتحدة: 4 دول من أمريكا الجنوبية اعترفت خلال الأسبوع الأخير بدولة فلسطين    أحمد موسى: محدش يقدر يعتدي على أمننا.. ومصر لن تفرط في أي منطقة    «جريشة» يعلق على اختيارات «الكاف» لحكام نهائي الكونفدرالية    برج الأسد.. حظك اليوم الخميس 9 مايو: مارس التمارين الرياضية    محمود قاسم ل«البوابة نيوز»: السرب حدث فني تاريخي تناول قضية هامة    ارتفاع ضحايا حادث «صحراوي المنيا».. مصرع شخص وإصابة 13 آخرين    "الفجر" تنشر التقرير الطبي للطالبة "كارولين" ضحية تشويه جسدها داخل مدرسة في فيصل    سواق وعنده 4 أطفال.. شقيق أحمد ضحية حادث عصام صاصا يكشف التفاصيل    رئيس هيئة المحطات النووية يهدي لوزير الكهرباء هدية رمزية من العملات التذكارية    استشاري مناعة يقدم نصيحة للوقاية من الأعراض الجانبية للقاح استرازينكا    وزير الصحة التونسي يثمن الجهود الإفريقية لمكافحة الأمراض المعدية    دعاء الليلة الأولى من ذي القعدة الآن لمن أصابه كرب.. ب5 كلمات تنتهي معاناتك    ننشر أسماء ضحايا حادث انقلاب ميكروباص بصحراوي المنيا    «زووم إفريقيا» في حلقة خاصة من قلب جامبيا على قناة CBC.. اليوم    مستشهدا بواقعة على صفحة الأهلي.. إبراهيم عيسى: لم نتخلص من التسلف والتخلف الفكري    محافظ الإسكندرية يشيد بدور الصحافة القومية في التصدي للشائعات المغرضة    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لنا في كل أمر يسراً وفي كل رزق بركة    أول أيام شهر ذي القعدة غدا.. و«الإفتاء» تحسم جدل صيامه    بالفيديو.. هل تدريج الشعر حرام؟ أمين الفتوى يكشف مفاجأة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [2]
نشر في الوطن يوم 14 - 09 - 2012

منذ عامين، مر الأديب جمال الغيطانى بأخطر لحظات واجهته فى حياته، رغم أنه عرف الأخطار كثيراً زمن الحرب، وفى ظروف أخرى، غير أن الفرق كبير بين خطر يأتى من الخارج، ومداهمة من الداخل، بدأت الأزمة على الهواء مباشرة فى برنامج تليفزيونى، وانتهت فى مستشفى كليفلاند.
ذلك الوقوف قرب نقطة العبور إلى الأبدية، وعندما يكون الإنسان أديباً، مبدعاً، مهموماً بالمصير، بالمبدأ والمعاد، فإن الموقف يكون أدق، كان الغيطانى محظوظاً، عبر إلى هناك وعاد ليقص علينا عبر هذه النصوص الفريدة دراما المصير، نصوص جديدة، ليست يوميات، أو سجلات مباشرة؛ لكنها تبدع اللحظات النادرة والحافلة بالرؤى لتصنيف صفحات جديدة إلى كتاب الألم الإنسانى.
عدم
أُشهِدهُ
واجهه قبل أن يشمله، مدفوع إليه منذ أن همس طبيب التخدير قائلاً إنه خلال دقيقتين سيرحل إلى السبات، الأزرق غالباً، معدات تتصل به، أنابيب، جهاز زجاجى التكوين، بللورى الحضور، ربما جهاز القلب الصناعى أو الرئة البديلة، يحاول التقاط كل التفاصيل، ربما تكون آخر المرئيات، لا يصحب ذلك أى انفعال طارئ مستجد عليه، كأنه اعتاد ذلك، باستمرار كان يرغب فى رؤية الحد بين الليل والنهار، عند الطيران، خاصة فوق البحر الأبيض، قرب الغروب، كان يرى القمة ناحية الشرق، الضوء الغسقى ناحية الغرب، هذا ليل وذاك نهار مول، لكن لكل منهما حضوره، إلى أن قدر له ما سعى إليه، بالضبط منذ حوالى عام وبضعة شهور، جرى ذلك فى مارس السنة المنقضية، هو الآن فى أغسطس، أقلع من سان فرانسيسكو ظهراً، لا تزال الألوان طازجة، خصبة، البحر والبر والزرع وما تجرد منها، فى منتصف المسافة إلى نيويورك والبالغة سبع ساعات بدأ اقتراب الليل، أدرك ذلك من وهن الضوء، واشتداد قتامة الغمام، ربما لوضعه، لتركيب الطائرة، كان يرى أكثر بالمواجهة، كأن يجلس فى المقدمة، هكذا مطّلع على الأفق، عنده لاحت القتامة، رأى الليل مقبلاً، بل تمكن من تحديد الخط الرهيف الفاصل، السحب الممتدة، المتصلة، ينعكس عليها ضوء المتعاقبين، تلك غيوم سوداء، الأخرى لم ينسحب منها ما تبقى من ضوء، مع اندفاع الطائرة صوب الأمام.
صار الحد أوضح خاصة أنه مع الحركة يمضى صوب التلاشى، استقام ظهره، تركز تحديقه، يلملم أطراف الليل والنهار معاً، ما لم يعرفه من قبل لا فى البر ولا فى سائر النطاق، العتمة تطوى كل شىء، عندما أوغلت الطائرة واستحال التمييز تراجع فى مقعده، عاد إلى وضعه واجتاحه استرخاء نادر لعل ذلك الأقرب إلى ما يراه الآن.
كثيراً ما ردد أن الوجود وعى، كثيراً ما تساءل عن إمكانية تحديد الخطوط الفاصلة عندما يشارف الحد النهائى، أول مرة غاب عنه ذلك، ربما انشغل بطبيب التخدير المصرى الذى أبدى عناية به وعاتبه لأنه لم يخبره بالموعد الجديد للعملية، ثم تقديمها يوماً كاملاً، الطبيب الذى أجراها هو رئيس المؤسسة كلها الآن.
ثمة اختلاف، يعى انزلاقه، الحجرة التى بدت مستطيلة تتحور إلى ما يقرب من الأسطوانى، يدنو مدفوعاً بطاقة خفية لا يعرف مصدرها، تتوارى المرئيات التى حاول استيعابها، الآلات، الوجوه التى يتحرك أصحابها ليتخذ كل منهم مكانه الذى سيعمل منه عندما يبدأ تناوله، أول ما سيجرى بعد التأكد من التوصيلات وسائر الأمور الأخرى شق صدره، أحدهم همس له أن مصرياً يعمل ضمن الفريق المصاحب للجراح، اسمه.. اسمه.. اسمه تامر. ثمة معنى يلوح لكنه لا يرتبط بشىء محدد، لا صلة له بكل ما حدق إليه ما أبصره، ما اجتهد لاستيعابه، كأنه يمشى على مهل بجوار سور ما، ربما يحدد مساحة حديقة داخل أشجار معمرة، لا يعرف أين، ما من أين، ينتفى الأين، ومعه المواقيت كافة، يوشك أن يقترب من تلك القمة الغيومية، وأضعاف بعده وتدليه صوب ذلك المعتم، الغامض، كان افتراقه وتفرقه.
ضوء
مستطيل من نور
بارد، باث، مؤطر بتميز كثافته بالنسبة للسديم المحيط به، المؤدى إليه من شتى الجهات بدون تحديد أو تمييز لبداية أو نهاية، سابح، غير متذبذب نتيجة حركة أو سباحة أو قوة دفع أو تحريك خفية، أبيض لا يمكن تمييز ما يحوى رغم أن جميع التمايزات داخله، لكن بروز هذا المستطيل يشى بحقيقة أن ثمة أبيض داخل أبيض، أبيص سديمى، لا يمكن تعيين حتى ولو نقطة داخله، أبيض درجته مغايرة يعين ذلك المستطيل.
أين؟ من أين؟ هنا أم هناك؟
ظهور النور المؤطر بسديمه بداية الوقوف على إجابة السؤال الذى ظل يواتيه، يطل مكتملاً ثم يغيب قبل وُلوجه السبات: هل سيقدر له رؤية ما يرى مرة أخرى؟ يدرك الآن أنه كان مستسلماً، متقبلاً، مؤدياً إلى ما لا يحيط به ولا يدرى عن كنهه شيئاً، بل الغريب أنه كان متعجلاً تجاوز اللحيظات البادية إلى تلك المتممة لها حتى وإن كانت خفية، لا تلوح قط.
ثمة غبشة تنتشر متقطعة، متجزرة، كلما دنا البصر من النور المتدفق، ذلك المستطيل. ما من أبيض واحد، تتنوع المساحات والرؤى، أبيض يشمل كل شىء، يغمر كل شىء، رغم وجود الأبيض والأبيض فإن التمييز صعب.
بعد طول تحديق وإصرار على التصويب باتجاه هذا المستطيل المعلق، يبدأ فى الإدراك، استبيان أن ذلك التركيز المنبث مصباح، ليس ضوء النيون، لكنه يشبهه، بارد الملمس والنفاذ إلى العينين يفد إليه ضوء مشابه فى ممر يؤدى إلى سلم حلزونى يفضى إلى مقبرة من الدولة القديمة، لا يذكر أين. ربما فى سقارة أو البر الغربى، لا يدرى بالضبط رغم أنه يرى التفاصيل جلية، خاصة تشابه الأبيض المنبعث من المستطيل المعلق بالأبيض المبثوث من المصابيح المركبة على الجانبين، بعضها بارز قليلاً.
إذن، هى الإضاءة
الأبيض يحمله، يطفو به، يفسر له الأشياء، يبرزها له، يقطع به اللاوجود إلى المتعين، الملموس، ما يمكن تأطيره، عند إيغاله إلى السبات حدد له الأبيض الأشياء، ملامح غرفة العمليات، جهاز القلب الصناعى، آلات أخرى سيتوقف عليها استمراره، لا وقت للسؤال، يتلخص كل شىء فى أبيض سابغ، زاحف، مهيمن، يطمس الأشياء، فى المضى صوب النوم الدامس، الأبيض أيضاً يفرق بين العناصر المتناغمة، ممتزجة الحدود، الأبيض أودى به، الأبيض جاء به على مهل ما زال يطفو.
المستطيل فى مواجهته
رغم الخفة التى أدركته للألوان، فإن الوجود كله يمثل له من الأبيض، إذن، لم يمضِ إلى اللامدى، إلى اللاشىء، يعود ليتلملم من جديد، إلى قدر معلوم، يشغله ما يرى، ما يقع عليه بصره، تدركه أمور صغيرة، يعجب لورودها عليه فى مثل هذا الظرف، لكنها الذاكرة، لا يمكن التنبؤ بما سيجىء من ثناياها، ما تبقى، ما ينبعث فجأة، ما يهيمن، ملامح الوجوه التى تفِد على غير توقع، تماماً يشابه الأمر الأحلام، إذن.. لم يستمر فى الهباء، يعود من جديد، إلى قدر معلوم، يكاد يرى نفسه طريحاً على ظهره، متمدداً كأقصى ما يكون التمدد، لم يسبق انطراحه هكذا، شيئاً فشيئاً يطفو، يدرك ما يلوح عبر اليم، تظهر كيانات مختلفة، يستوعب بعضها مباشرة، لا تتعلق الحيرة إلا بأمور مستدعاة بتأثير غوامض تستعصى على التفسير، وعيه جلى، مشحوذ، يستدعى لحظة مماثلة عندما فتح عينيه منذ حوالى أربع عشرة سنة، وكان أول ما رآه قرص الساعة الجدارية، وقتئذ.. كانت السادسة إلا الربع بعد الظهر، أشعة الشمس اليوليوية تغمر الخارج، كان الماضى عبره حوالى ثمان وعشرين ساعة، منذ دخوله السبات القديم وحتى إفاقته، الآن.. يتداخل عليه الوقت، لا يعرف كم مضى عليه، المهم أنه رجع يرى الموجودات مرة أخرى، هذه المرة يرى لحظة دنو العتمة، يكاد يمسك باللحظة الفاصلة، ذلك الليل الأليل الواضحة معالمه بعد حديث الحكيمة المشفق، الأنثوى، الأمومى، الحانى، المتدفق صوبه، إليه لتشمله الحلكة التامة، غريب أنه كان متعجلاً، راغباً فى الاجتياز، عدم إطالة الفاصلة، الأغرب، أنه يؤثر البقاء موغلاً لسنوات طوال شغلته اللحظة الفاصلة، لصعوبة الجراحة قدر أنها دانية، تماماً كما جرى المرة السابقة أعد حاله للأسوأ، تقبل مقدماً ما يمكن أن يفضى إليه الحال، بل اتخذ من الخطوات العملية ما يمكن أن يتقى به بعض الصعوبات المتوقعة لما يمكن أن يحل بأهله، إلا أنه فى هذه المرحلة كان أقرب إلى الثقة بالدنو، بل إذا دقق وتفحص سيرصد رغبة ما فى المضى قدماً، بعد إيابه سينتظر ذهاباً آخر لا يدرى عن ظروفه شيئاً حتى الآن، يحاول درء هذا الخاطر عنه، رغم يقينه بوجوده، بإلحاحه عليه، خاصة فيما بعد مع اشتداد سعيه، لا يغمض عينيه، تواق إلى ما سوف يستجد، ما سيظهر فى مجال بصره، يتذكر ما قيل عن خطورة الليلة التالية للجراحة، أهمية العناية المركزة، أحد معارفه مخرج سينمائى شهير، نابغ، أجرى الجراحة، تم كل شىء بنجاح، لكن الممرضة المناوبة لم تنبئه إلى بدء النزيف، صباح اليوم التالى لم يجِب على من ناداه، يقصى عن ذهنه ما وفد عليه، ينتبه إلى تكوين محشور فى حلقه، يستدعى رقدة صاحب حميم يتقدمه عمراً، فى شوطه الأخير بمستشفى مطل على النيل خلال تمدده على ظهره، قبل احتضاره بساعات، متجه بنظره إلى أعلى، يصاحب تنفسه ما يشبه الشخير لكنه صادر عن الحنجرة، الناحية اليمنى من فمه معوجة، ينفذ من بين الشفتين أنبوب نحيل متصل بجهاز التنفس الصناعى المجاور، يضايقه هذا الجسم، يود الخلاص منه، لم يعرف مثل ذلك فى المرة الأولى، خلال المدة الفاصلة تغيرت أحوال وتبدلت معالم، منها اختصار مدة البقاء فى الرعاية وأيضاً البقاء فى المستشفى، يمر بذلك الآن، وإن كان ما زال يجهل معالم الوقت، غير أن ما يحدق البصيرة تجاهه، اتصاله الميسور بالذكريات، كأنه لم يغُص فى السبات البهيم مقداراً من الوقت يجهله الآن، لا يعرف.. أهو اليوم الثانى أم الثالث، لم يخطر له أنه اليوم نفسه، ما أثار قدرته اتصاله بشظايا وتوابع ما كان منه، لواع الباقى من الذاكرة، ما لم يعد فى متناوله، ظهور تلك الشذرات، الصور، يعنى عودته إلى سباته، كلما تقاطرت عليه يتقلص الأبيض، بينما يزداد المستطيل كثافة وحضوراً، معلق إلى السقف فى مواجهته، الآن ملامح الغرفة واضحة، ما يفصله عن المجاور ستارة بيضاء، المدخل المؤدى إليه مفتوح، فى المواجهة مكان شاغر لمريض لم يظهر بعد، لرؤيته مجال فكف عنده، لا يمكنه تحريك دماغه، أو الالتفات، يرى ما تطاله حركة عينيه فقط، بينما تتوالى صور، لحيظات، مشاهد غير متصلة ببعضها، يحيره سور حديقة فى بلد أجنبى، ينحنى إلى طريق موازٍ تتخلله أشجار قديمة، أين؟ متى؟ لماذا عبره؟ تؤكد أنه مر به، لماذا تغمره الأشياء الصغيرة فى وقت ظن أن التأملات الكبرى ستفضى به إلى أجوبة حاسمة لأمور حيرته طويلاً.
رئيسة
لا يدرى، هل بادر بنطق اسمها كما يفعل معظمهم هنا، أم سألها؟ ظهرت فى مجاله قادمة من الناحية اليمنى، نفس الجهة التى ستطل منها زوجته وابنته وابنه والمشرف الطبى فى السفارة الذى حضر الجراحة والدكتور فوزى الذى جاء من بيته الواقع على مسافة اثنتين وعشرين دقيقة بالعربة، كل منهم ظهر فجأة، أومأ من بعيد فيما عدا زوجته التى حاولت الاقتراب مبتسمة رغم كل ما تعانيه، غير أن رئيسة حاشتها بإشارة، واضح أن المدخل من اليمين، من نفس الجهة دخل فى نفس الليلة سرير متحرك ينطرح فوقه مريض قادم من غرفة العمليات للتو، لم يفق بعد، ما زال موغلاً فى السهوب، تمكن من رؤيته لحظة عبوره فى مجاله، هكذا كان وضعه عندما جاءوا به، يتقاطر آخرون، يمرون بسرعة، يعرف أنها أدق اللحظات، النقل من سرير الجراحة إلى سرير العناية، ضرورة الاحتفاظ بالأنابيب المتصلة بالمحاليل والأجهزة التى تنقل المعلومات الكاشفة المنبئة.
رئيسة من أوكرانيا، جاء والداها مهاجرين إلى الولايات المتحدة، الآن تستقر هنا وتعمل فى المستشفى، تعيش مع زوجها وطفليها فى كليفلاند، تبدو كأنها طفلة شبت فجأة، هشة الحضور، رقيقة التكوين، لكنها عندما تشرع تبدو منها قدرة وطاقة يعجب لهما، ما عرفه عنها تم على فترات، أوقات متباعدة مع ظهورها خلال رقاده، أول مثولها فى مجال بصره تتطلع إلى شاشة المونيتور المعلق فوقه، يعرف أنه موجود هناك من خلال أرقام، لا يمكنه الرؤية فيركز على انعكاسات وجهها، ما يبدو عليه، مرة بدا القلق جلياً، سرعان ما ولت إلى الخارج، تزامن ذلك مع شىء خفى ينهار داخله، شىء ما يوازى اللون الأصفر فى أوهى درجاته لكنها أخطرها إذ تنبئ بالبوار والوهن.
لم يتبادل معها فى الليلة الأولى إلا تساؤله عبر كلمة واحدة كلما تطلعت إلى المونيتور.
GOOD؟
تجيبه مومئة:
Yes Good.
أحياناً تكمل: very good.
هذه المرة عندما خرجت مسرعة اضطر إلى إغماض عينيه، لا يعرف ما يجرى داخله، لكنه مُلمّ بالأطر العامة، يعرف أنها أخطر ليلة، عاطف الطيب راح فى توقيت مماثل، كل لحظة تمر تنأى به عن مصدر الترقب، الحركة فى المكان لا تتوقف، باستمرار أصوات الأطباء، الستائر، فى الساعات التى أعقبت الإفاقة، جاء طبيب مصرى مع آخر أجنبى، وقفا إلى جواره، سأل المصرى عن الأحوال، لا يدرى هل هز رأسه أم لا، لم يكن قادراً على النطق، التيوبس يحشو فمه وجزءاً من حلقه، بدأ الأمريكى فى معالجته، احتك بحلقه أثناء سحبه، ترك أثراً كجرح وجفافاً، رئيسة تقترب من المنطقة المحاذية لرأسه، إذ يرجو جرعة ماء تتناول الدورق الصغير، يطلب ثلجاً مجروشاً نصح به الطبيب المصرى قبل ذهابه، يمتصه على مهل، يرطب حلقه، كم دام ذلك؟ لا يعرف، المؤكد أنه لم يعرف النوم إلا بعد أن طلب من رئيسة سُدادتَى أذن إذا توفرتا مما يستخدمها ركاب الطائرات، لم تعتذر، لم ترفض، إنما قالت إنها ستبحث، لعلها ستجد، لم يطُل غيابها، عادت إليه بسدادة لم يرَ مثيلاً لها، ربما توزعها شركة طيران لم يتعامل معها، سدادتان موصولتان بخيط متين أحمر اللون، وعندما وضعهما فى أذنيه غابت الأصوات تماماً، فكر على الفور فى الحفاظ عليهما واستخدامهما فى العودة جواً إلى مصر إذا مضت الأحوال على ما يرام.
عندما استيقظ كان الأبيض مختلفاً، أيقن بحلول النهار، يقف فى مواجهة طبيب التقى به اليوم السابق على الجراحة عندما صحبه الدكتور فوزى ليعرفه بمن تبقى من زملائه الكبار، إنه رئيس وحدة الرعاية دون الأربعين، لا يكف عن مضغ لبان، يقف أمام جهاز حاسب آلى، يدوّن أرقاماً ومصطلحات، يوليه ظهره.
سعال شديد منبعث من المريض الراقد فى المواجهة.
أين رئيسة؟ لم يرَها، يبدو أن نوبتها انتهت، يغمض عينيه، يتذكر الآن أنها وقفت إلى جواره، قالت إنه من المستحسن أن ينقلب وينام على جنبه، قال إنه لا يمكنه الحركة، أى شروع يجلب آلاماً لا يقدر على احتمالها، يعرف أنهم يعطونه قاتل الألم، عقار يخرس أشد درجات الوجع، فى الجراحة الأولى لا يذكر لحظات حادة رغم أن صدره كان مشقوقاً أيضاً! لماذا يتضاعف هذه المرة؟ ربما لصعوبة الجراحة وتعقدها، كل من أصغى إليه لم يخلُ قاموسه من عبارة Big SergUry.
أطلت عليه رئيسة، ملامحها رهيفة، طفولية، تقول كأنها تحدث نفسها: لا بد أن تتقلب.. هذا أحسن لك.
لم تنتظر معاونة، بيدين مدربتين، أمسكتا بحافتى الملاءة المفروشة تحته، بزاوية معينة تسحبها، يميل معها، يندلع من داخله ألم ويكاد يوقن أنه مجموعة قطع متلاصقة، كراكيب، الضلوع، العضلات، الأوردة، الشرايين، الصمامات الجديدة التى لا تزال فى بدايتها، عليه أن يحتمل، إصرار رئيسة فيه فائدة، تتطلع بعينيها الفسيحتين راضية عن وضعه، تلتفت إلى المونيتور، يسألها:
good؟
تجيب بلكنتها التى تستدعى إليه إيقاع الأوكرانية شبيهة الروسية:
Very good.
أين رئيسة الآن؟ متى ذهبت؟ هل كان ضرورياً إصراره على النوم، سد أذنيه، هل خطر لكل منهم أن يستفسر عن السدادتين؟
لا يعرف الزمن، تختلط عليه معالم الوقت، بل إنه لا يعرف اليوم، يستفسر من الطبيب الذى يوليه ظهره:
«كم الساعة الآن.. دكتور..»
يجيبه بدون الالتفات:
«السابعة والنصف».
«فى أى يوم نحن؟»
«الخميس..»
لم يكن بحاجة إلى الاستفسار، صباح أم مساء؟ كل ما يلمحه من حركة يمت إلى الصباح، الضوء السارى من المصابيح التى يبدو بعضها ويتوارى الآخر يغمر المكان، لكن ثمة ضوء أشمل رغم أنه بعيد، لا يصل إلى هنا لكنه محسوس، نهار جديد فى الخارج، رئيس الوحدة يصل صباحاً، تقريباً يمضى الوقت كله أمام الحاسب الآلى.
المريض المواجه لم يكف عن السعال، مع تقدم الوقت، جاءوا حوالى أربعة، تحول السرير إلى مقعد، لامست قدماه الأرض، أحاطوا به عند انتقاله إلى السرير المتحرك، يخلو مكانه، يجىء آخرون للتنظيف، بعد منتصف النهار، بعد الفراغ من أول عملية سيجىء مريض آخر، ليلة واحدة فقط فيما عدا الحالات المعقدة مثله، تمتد إلى ليلتين، يتعاقب عليه من لا يعرفهم، ممرضة أخرى حلت بدلاً من رئيسة، ما زال التنفس صعباً، لم يتوقف عند ملامح الممرضة البديلة، لم يحتفظ منها بأى تفاصيل، عندما جاءت رئيسة فى المساء ابتسم مرحباً، وعندما توقفت متطلعة إلى المونيتور، سألها:
Good؟
أومأت مجيبة:
Very good.
ودونت شيئاً فى الحاسب الآلى الموضوع على منضدة مرتفعة قرب نهاية السرير، تابع حركتها، السرير المقابل شغله مريض آخر، ليل تالٍ يبدأ سيقضيه هنا أشد وعياً من الأمس، أكثر شعوراً بالآلام التى لم يخمدها المسكن القوى.
موسيقى
استدار الاثنان بالسرير المتحرك الموثق إليه بحزامين، الأول عند الصدر، الآخر يلتف حول الساقين، قال أحدهما إنه السرير الذى ستجرى فوقه الجراحة، طلبا منه الانتباه، صحيح أنه موثق جيداً لكن الحذر ضرورى، الاندفاع سيبدأ بسرعة لا تلحظ فى البداية لكنه سيتزايد إلى درجة لا يمكن تخيلها، كلما أوغل فى الممر الأسطوانى المؤدى إلى المرحلة التالية، مع تمام عبوره سيتخلص تماماً من أى موسيقى متبقية فى ذاكرته.. بدون ذلك لن تبدأ العملية.
مستلق تماماً على ظهره، كأنه جزء من السرير البيضاوى، المستطيل الموازى تماماً لعرض الجسم وطوله، كأن صوت الرجل آتٍ من مكان آخر، له كيان مستقل لا يصدر عن أحد، يحاول رؤية ما يقع عليه البصر من عناصر، الغالب على الألوان، أبيض، أزرق، درجة من الزرقة المشعة بالضوء، الجدران من مادة صناعية كأنه فى سفينة فضاء، لكَم تساءل عن اللحظات التى تسبق عبور الوعى إلى السبات العميق الذى سيدوم عدة ساعات، وقد يستمر إلى الأبد، كافة ما يبصره الآن ربما آخر ما يراه، لا يمكن التنبؤ أبداً بمن سيكون إلى الجوار فى اللحظات الفاصلة، أو طبيعة الوضع، كذا التوقيت الذى سيجرى فيه العبور، مما عرفه عند ذهاب الأقربين، أن المؤازر، المتواجد فى مثل هذه الأويقات هم الغرباء الذين لم يلازموا طويلاً، فى حالته الآن يتجسد المعنى، إنه موفد إلى بلد بعيد، معظم من يتعامل معهم لا يعرف أسماءهم إلا بعد التدقيق فى السطور المكتوبة، المؤطرة بغلاف شفاف، المعلقة إلى العنق، بعضهم ينطق اسمه بمجرد الدخول، لكنه لا يلتقط الحروف أو التفاصيل لسرعة الحديث وغرابة اللكنة.
الآن لا يدقق فى شىء، لا يعنيه شىء، ينعدم التوقع عنده، ما لم يتعجب له حتى، تلك الرغبة فى أن يمر كل شىء بسرعة، أن يمضى إلى الغياب مختصراً كافة الخطى، لا يتعلق بالمرئيات، بالأشياء الملموسة، لم يدهش لحديث الرجل عن الموسيقى رغم غرابته، إنهم يشرحون كل شىء فى اليوم السابق، ما سيجرى حتى الدخول فى السبات، تفاصيل الجراحة من الأسرار، لا يعرف إلا الخطوط العامة، كذا المخاطر المتوقعة التى وقع على تحمل مسئوليتها تجنباً لأى مشاكل قانونية ربما يثيرها أهل المريض، يبدو أنه يقترب عند نقطة ما، يلزم السرير ما يشبه القضبان، خط مرسوم موثق يتصل بالعجلات التى يبدو أن عددها تزايد، لم يعُد هناك أى وجود للرجلين، بينما يختفى استواء السقف ويحل التقوس، يخفت الضوء لكن غلبة اللونين لا تزال، أبيض، أزرق، مع بدء اندفاع السرير البطىء غير المدرك، يسمع ما يشبه التصفيق، ثمة حفل فى مكان ما على جانبى النفق، لكنه لا يستطيع التعيين، طبيعة الجمهور، أحد الحاضرين: «الله.. الله»، يمكنه التحديد، حفل غنت فيه أم كلثوم «رق الحبيب»، ربما فى نفس العام الذى ولد به، ربما قبل وفادته بشهرين، عندما أصغى إلى هذا التسجيل بالتحديد، أدرك أنه مغاير، إنها لا تغنى بل ترفرف، عندما يخف الإنسان ويشف، إنها لا تلامس الأرض بخفيها ولا بقدميها، بقدر ما يعنيه رفعة أدائها، بقدر ما يتوقف عند تعليقات السميعة قادمة من الصالة، كأن الحفل قائم الآن، تتداخل ردات الفعل، هذا ليس لأم كلثوم، حفل لصباح فخرى، لا.. لصبرى مدلل، مؤكد أنه جالس بحضرة محمد باجدوب فى قصر الباهية، مستحيل، إنه فى مواجهة ذلك المطرب الطنجاوى، غاب عنه اسمه، يرى جيداً مئذنة الكتيبة، الجوق فسيح، أغطية الرؤوس، الملامح الذكورية، الأنثوية، غير أن المطرب يتوجه إليه هو، وعندما أنشد ما قاله الشثرى:
افهمنى قط.. افهمنى قط
انخلع قلبه، وفط من مرقده، لحظة ترددت عليه مراراً، قفلت الآن، تختفى فى موضع ما، يتبعها رضوان أفندى، الأصلع، شجى الصوت، إذ يغلق النوافذ ويبدأ فى الشجو: مصر التى فى خاطرى وفى دمى.
كأنه قفز من يسار ترام يندفع فى شارع الخليج الخلو من الخلق، تتداخل الأنغام، يحاول التمييز مع السرعة يدرك ما يجرى، كلما ولى نغم يعتم النفق المؤدى، يثقل الهواء، يخطر له النداء لفك الوثاق الذى لا يدرك موضعه أو مربطه الآن، أصوات أولئك المجهولين «المطيباتية» من خلال الأسطوانات الأولى لمحمد أفندى عبدالوهاب، لصالح أفندى عبدالحى، لأمير الطرب عبدالحى حلمى، «الله.. الله يا سامى أفندى».
يدرك الآن مع خروج نغم الكمان مع تواريه إلى الأبد، أن العازف المجهول هو سامى الشوا، يذرف دمعاً، يئن الدمع الذى نتج عن عزف الكمان فى حفل نيويورك، أول الخمسينات، يتداخل مع نغم صادر عن آلات لا يعرفها، أصل من أصول الجاز عبر مكان ما فى غينيا بيساو، أما جميل بك الطنبورى فلم يكن أمره سهلاً، لم يفارقه إنما انخلع منه، كذلك الحال مع تاتيوس أفندى، ومحمد القبنجى، وخاتشادوريان، أما موسيقى الراجا، خاصة عند تصاعدها وتفاعلها فلها شئون، كذا ماريا كالاس والمؤثرة وسائر الرباعيات الوترية والأنغام مجهولة المؤلفين الموازية لصفرة المغيب عند نهر اليانجستى، وإيقاعات الرحل عند الغجر، والقبائل المضطرة إلى مفارقة الألف، أما ما جعله موقناً من الدنو فمفارقة ليلى وصوتها اللؤلؤى، صعب المتعين، وصمت أعقبه تردد بعده آهات وهدير الرهبان البوذيين على برك التأمل وتخوم ما لا يمكن تعيينه من سهوب الروح.
الحلقات السابقة:
الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [1]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.