أدقق البصر عبر الذاكرة، أتطلع إلي مشهد متبق من زمن بعيد انقضي منذ نصف قرن وبضع سنوات، حجرة صغيرة في بيت جدي لأمي الذي لم أره لأنه رحل شاباً، كانت أمي طفلة بعد، ها أنذا أجلس إلي جوار جدتي، نحيلة، طويلة، أذكر الوشم الأخضر فوق جبهتها، لكنني أري ملامحها من خلال ضباب خفيف يخفي ولا يُظهر، نجلس في البيت الذي ولدت فيه منفردين، ليلة خلا فيها البيت إلا منا، خالي يسهر في الرحبة مع الرجال بعد صلاة العشاء، والدي يطوف بأقاربه ومعارفه للسلام والمؤانسة، تقاليد عتيقة متوارثة، إلي جانبنا صندوق مستطيل، غطاؤه منحني مزين بنقوش من قطع نحاسية، نطلق عليه اسم »السحارة«، يحتفظ فيه أفراد الأسرة بالملابس القديمة، بأغطية الشتاء، بقطع لها منزلة ومعَزّة خاصة، هذه السحارة كانت مخصصة لكتب جدي، بعضها مخطوطات، كُتبت بعناية، السطور بالأسود، العناوين بالأحمر، مازلت أذكر اسم مؤلف أحد المخطوطات »القاضي عياض« والآخر »ابن عربي«، لم أعرف عنهما شيئاً في ذلك الوقت، لكن شاء القدر أن يكون لي بكل منهما صلة وثيقة مع تقدم العمر.. عاش كل منهما منذ عدة قرون، في الأندلس، لكن بقيت مؤلفاتهما، تنقل من نسخة إلي أخري، تخطها الأيدي المجهولة، أحياناً يذكر الناسخ اسمه مقرناً بألفاظ التواضع، مثل »الفقير إلي الله«، »عبده المطيع«، يدون اسم وتاريخ الفراغ من العمل بدقة. أجلس إلي جوار جدتي، تصغي إليّ، لم أكن صامتاً، كنت أقرأ من كتاب أوراقه صفراء، مزود ببعض لوحات توضح أحداثاً معينة، سيرة بني هلال، ملحمة الهلالية التي ماتزال تُروي في صعيد مصر، يعرف الناس أبطالها وعاداتها، ينشد الراوي أثناء عزفه علي آلة الربابة ذات الوتر الوحيد، آلة يمكن للعازف الماهر، أن ينطقها بألحان شجية، تحتوي الحزن المصري القديم، الدفين، ذلك الحزن الذي يتكثف في الصعيد بشكل خاص، ما من آلة تستنفر كوامني مثل »الربابة« إنها آلة قديمة، رأيت رسومها علي جدران المقابر الفرعونية، ورأيت نموذجاً قديماً لها في متحف اللوفر، لعلها الآلة الموسيقية الأقدم في التاريخ التي وصلت إلينا وماتزال ترسل ألحانها من خلال أنامل هؤلاء الشعراء المتجولين، الذين يتوارثون النصوص الشفهية أباً عن جد، خاصة النص الشفهي لملحمة الهلالية، منذ سنوات رحل أحد العظام منهم، كان يحفظ النص الكامل للملحمة، أكثر من مليون بيت من الشعر، وكان إذا دُعي لقراءتها يستغرق حوالي أسبوعين، يصغي فيها الرجال كل ليلة، يستمتعون بالشعر والموسيقي، وينقسمون إلي فريقين، الأول ينحاز إلي البطل أبو زيد الهلالي، والآخر إلي الزناتي خليفة، مازلت أذكر بعض هؤلاء الشعراء في الأسواق التي كانت تقام علي مدار أيام الأسبوع في أماكن مختلفة، مازال بعضهم مستمراً في أعالي الصعيد رغم اندثار معظمهم بعد انتشار وسائل الإعلام الحديثة مثل الإذاعة والتليفزيون. في منتصف السبعينيات من القرن الماضي مضيت إلي مسقط رأسي، زرت خالي وأسرته، كان مريضاً، وهَن بصره وبدأ يشكو آلاماً صعبة، صحبني عند العصر إلي المضيفة، المكان الذي خصصته العائلة لإقامة الضيوف »الوافدين« الغرباء، لكل عائلة مكان لضيافة الغرباء، أو رجال الإدارة الذين ينزلون إلي البلدة لمهام معينة، مثل ضباط وجنود الشرطة الذين يفدون في حملات لها هدف محدد، أو مفتشي التعليم الذي يجيئون من العاصمة، أو حاضرة الاقليم للإشراف علي الامتحانات السنوية أو الغرباء من عابري السبيل، كانت التقاليد القديمة تقضي باستضافة الغريب لمدة ثلاثة أيام، يقدم إليه الطعام يومياً وسائر ما يلزمه، وفي صباح اليوم الرابع يسأله العمدة أو شيخ البلد أو أكبر الرجال سناً عن اسمه والبلد الذي جاء منه ومقصده، أي ما يسمح بالتعرف عليه، هذا لا يجوز قبل تقديم واجب الضيافة إليه، هكذا تقضي التقاليد المتوارثة، لكن مع تغير الزمن، وظهور الأخطار، ورسوخ الإدارة وتنوع أجهزتها، أصبح من الضروري معرفة الضيف الوافد وتحديد هويته، حتي لا يكون أحد المطاردين من السلطة لسبب إجرامي، أو سياسي، ماتزال جهينة بلا فنادق حتي الآن، تعددت المضايف فيها بعد تيسر أحوال عدد من العائلات الذين نزح بعض أبنائهم إلي الاسكندرية، أو بعض الأقطار العربية للعمل. أثناء جلوسنا ذكر أحد المعمرين جدي لأمي، قال إنه كان شيخاً جليلاً، مهيباً، أما صوته لم تعرف النواحي القريبة والبعيدة مثله، كان صوته جميلاً، مؤثراً، يبدأ هادئاً ثم يلعلع بمدح الرسول، قال الرجل إنه مازال يتردد عنده، مازال يذكره. مازلت أحدق في تلك اللحظة، بداية تعرفي علي القراءة، إلي إصغاء جدتي، إنه بداية العصر الذهبي للقراءة عندي، عندما رأيت غلاف »البؤساء« لفيكتور هوجو، توقفت أمامه، كان بائع الصحف والمجلات في ميدان الحسين بالقاهرة القديمة يعرض كتباً أيضاً، كانت مترجمة إلي العربية مطبوعة في بيروت، اشتريتها بخمسة قروش، مازلت أذكر ملمس الورق، وشكل الحروف، بل والرائحة الخاصة للكتاب، مكونات الكتاب وشخصيته تظل جزءاً من ذاكرتنا، من النص الذي طالعناه، لم أقرأ البؤساء لكنني عشتها، لحظة إصابة جان فالجان كأنني المصاب، تألمت جسدياً، فيما تلا ذلك قرأت »أحدب نوتردام« مترجمة، مطبوعة في سلسلة روايات الهلال، مشيت يومين محدودباً مثله، وعند النوم أبكي لآلام جلده، أما أذناي فقد كادتا تصابان بالصمم مثله، في الثامنة قرأت »مذلون مهانون« لدستوفيسكي، وحتي الآن تعاودني مشاعر التعاطف العميق مع الأب الذي أهين أمام ابنه، وفي السنوات التالية قرأت روايات القرون الوسطي المترجمة، والصراع بين النبلاء، وعندما أتشاجر مع أحد زملائي في المدرسة أنطق بعض العبارات التي أتقنتها مما قرأت وتمنيت أن أكون ناطقها، مثلاً: »إنني ألقي قفازي في وجهك..« ولم يكن لديّ قفاز.. ولا زميلي الذي أتشاجر معه، بل إنني لم أعرف القفاز إلا عند سفري إلي الاتحاد السوفيتي بعد الثلاثين، جملة أخري تتردد في ذاكرتي: »إنني أدعوك للمبارزة..«. كان زملائي يتطلعون إليّ في دهشة، أي مبارزة، وأي شهود عليهم أن يختاروا؟ كنت أنطق العبارة منفعلاً، مستعداً للموت دفاعاً عن شرفي، ويبدو أن مشاعري كانت تخيفهم، فذهب بعضهم إلي أستاذ التاريخ الذي قامت بيني وبينه مودة، كان يستفسر مني عما أقرأه وينصحني أحياناً بعنوان محدد ، ذهب زملاء الدراسة إليه وقالوا له إن الكتب التي أقرأها أصابتني بالجنون، وأنني أقدم علي أمور غريبة، مثل دعوتي للمبارزة، وتفوهي بعبارات فصحي، ابتسم الأستاذ محمد الذي غابت ملامحه عني كما غابت ملامح جدتي، قال: »ليتكم مجانين مثله«. من ديون الشعر الأجنبي أنت ما كُنت، أنت، ما رأيت، أنت ما سمعت. الذاتُ والموضوعُ أنت، الفاعل والمنفعل هنا وهناك، في كل الجهات أنت دائرة تُخلق كل إمكانات الإحساس حجر الصوَّة لكل الأشياء الممكنة الموجود، إلاه كل الموضوعات الممكن تخيلها، أنت الساعة الساعة أنت الشاعر البرتغالي: فرناندو بيسوا ترجمة: المهدي أخريف