نعيش في داخل قصة رعب واقعية، نحن الأبطال والبشر والأشباح، تأتينا أخبار الموت المجاني في الشوارع كل يوم ونحن نحتسي مشروبنا الصباحي ونستعد للخروج، وربما نكون ضحية لحادث يتابعه آخرون وهم يحتسون مشروبا آخر، تتلاحق أخبار الأحداث في مصر، بينما أقرأ إجابات الروائي أحمد سعداوي علي أسئلة أرسلتها له عقب فوزه بالبوكر عن روايته "فرانكشتاين في بغداد" وكأن واقع العنف ودورته الحتمية واحد في كل مكان، وإن كان للعراق تجربة أكثر عنفا وحدة وتركيبا، مرت أسابيع قليلة لكن أحداثاً متلاحقة مرت علي العراق. بغداد 2005 هي محور رواية سعداوي الفائزة بالبوكر، تخرج شخصية "الشسمه" هذا الكائن الأسطوري المخلق من بقايا ضحايا الانفجارات من مدينة سعداوي التي عاش بها ومارس عمله الصحفي كمراسل للعديد من الجرائد والوكالات الأجنبية والمحلية، وكانت ملهما له في كتاباته الشعرية، عاد إليها بعد حصوله علي البوكر ليجد أحداثها تزداد عنفًا واحتدامًا. تعيش في العراق في ظل ظروف خاصة دفعت الكثير من الكتاب والمثقفين للهجرة.. كيف تري الكتابة والعمل الثقافي في ظل العنف والخطر في عالمنا العربي الآن؟ الأمر في كل الأحوال متعلق بالخيارات الشخصية. أنا مقيم في بغداد ولم أغادرها منذ ولادتي، إلا لسفرات قصيرة، ولا يبدو أنني أرغب بتركها في الفترة القادمة إلا لأسباب قوية، ومع ذلك فأنا لا أغري أحداً باتباع خياري الشخصي. ولدي اصدقاء غادروا بشكل نهائي خلال السنة الماضية، ولم أستطع إلا أن أبارك لهم خطوتهم، بسبب معرفتي بظروفهم الشخصية. لا يمكن، في الوضع العام، أن نتوقع انتاجاً ابداعياً منتظماً، مع ظروف مضطربة كالتي يعيش فيها العراق، ومن المؤكد أن هناك نسبة من المعاناة "غير الابداعية" تفرض نفسها علي المبدع في سبيل أن يستمر وينتج ويتواصل ويطور مشغله الخاص، وبالذات مع الرواية التي تتطلب السيطرة علي مزاج نفسي واحد لفترة زمنية طويلة تستوجبها الكتابة الروائية، مقارنة مع كتابة قصيدة او قصة قصيرة. هنا تحضر أيضاً قضية الأساطير والأوهام الشخصية، فأنا أحب أن أكون قريباً من الواقع الذي أكتب عنه، وربما أجازف في سبيل هذا الأمر، ولكن ربما يتحطم الوهم الشخصي في لحظة ما قادمة لسبب من الأسباب، فاحمل حقيبتي وأغادر. رفضك لدعوات التكريم من السياسيين في العراق هل له علاقة برؤيتك حول علاقة المثقف بالسلطة؟ هل تجد أن علي المثقف أن يكون علي مسافة من الحياة السياسية واختلافاتها؟ في أجواء سياسية محتدمة كما هو الحال في العراق فإن اي شيء يستثمر للكسب السياسي، ومنها لقاء مع روائي نال جائزة. وهذا وضع غير مناسب لي بالمرة. خصوصاً مع حقيقة أن هذا السياسي او ذاك يتجاوز سلسلة من العتبات للوصول إلي والتقاط صورة ينشرها في صحيفته او فضائيته، وهذه العتبات تحوي صورتي كمواطن أولاً، وصورتي كمثقف ينتمي الي طبقة او شريحة نوعية. لماذا يتجاهل هذا السياسي او ذاك، وبالذات من القابضين علي السلطة، وضعي كمواطن، ووضعي كمثقف، ويتذكرني كروائي حصل علي جائزة دولية. لماذا لا يقوم السياسي وصاحب السلطة بعمله أولاً في تخفيف وطأة العنف في الشارع العراقي، وتوفير الخدمات الاساسية للمواطنين، أو علي الاقل الدعوة لهذه القضايا الاساسية والمناداة بها. لو قاموا بذلك فهذا أبلغ وأهم تكريم يمكن أن أحصل عليه في بلدي. تكريم لي كمواطن أولاً. سأستقبل بكل رحابة أي سياسي يأتي الي بيتي، وساقدم له الشاي والقهوة. استقبله كمواطن. أما ان أذهب اليه فلا. اللجوء إلي الأسطورة ليس غريبا علي أوطان لها تاريخ وجذور أدبية عميقة لكن هناك أيضا تيارا من الكتابة الغرائبية العراقية.. كيف تري علاقة روايتك بهذا التيار؟ أنا أدين بفهمي للأسطورة الي الفيلسوف الروسي إلكسي لوسيف، وكذلك لبعض فلاسفة وكتاب ما بعد الحداثة، حيث الأسطورة ليست بناءً معرفياً منفصلاً عن "العقلانية" وانما متداخلة معه، وربما يرقد شكل من أشكال الأسطورة في العمق من العقلانية نفسها. الأوهام المجتمعية والأوهام الشخصية تساهم بشكل فاعل في تسيير حياتنا، ومنها نخلق أساطير تساعدنا علي العيش. ولهذا فالأسطورة ليست نصاً من التاريخ، وانما واقع معاش تتنفسه بشكل يومي. اكرر دائماً في أجوبتي مثال الخروج من البيت في مدينة يهيمن عليها العنف؛ فأنا، كشخص، أري أنني أعيش في حكاية أنا بطلها. ولهذا أتخيل وافترض، دون استناد الي اي منطق عقلاني، أن بطل القصة لا يموت في منتصف القصة، وإنما في النهاية. الشعور بأني أنا بطل قصتي لن أموت اليوم، يشجعني علي الخروج والمجازفة بالذهاب الي العمل. ويشجع، في واقع الحال، الغالبية من الناس للاستمرار بالعيش. إنه نوع من الأوهام المفيدة. هذا المستوي من "الاسطورة" إن جاز التعبير، هو ما يشغلني في التأمل الشخصي والكتابة أيضاً، أما عن غرائبية العراق، فلا اعتقد أن مجتمعاً ما من مجتمعاتنا العربية يخلو اليوم من الغرائبية والأسطورية، وربما تسارع الأحداث في العراق يجعلها حاضرة بقوة وبارزة. استحضر الكاتب العراقي سمير طاهر اسم الكاتب العراقي فاضل الغزاوي ممثلا لهذا التيار في مقالة له عن روايتك؟ ما يكتب اليوم من روايات في العراق منقطع بشكل كبير عن الأفق المعرفي والتقني والجمالي الذي كتبت فيه الروايات في أجيال سابقة، وبالذات جيل الستينيات، الذي رسم ملامح الثقافة العراقية بقوة طوال العقود الماضية. ولكننا اليوم نعيش تحت أفق ثقافي مختلف تماماً. اما اشتغالات الفنتازيا والاسطورة في الرواية العراقية، فهي موجودة وحاضرة بنسب متفاوتة في العديد من الاعمال القصصية أو الروائية، ولكن الرواية في العراق، خلال الخمسة عشر سنة الماضية، اتخذت مساراً مختلفاً بالاتصال أكثر بأفق الاشتغالات العالمية، والتواصل مع مختبر التقنيات الهائل الذي تطرحه الرواية عالمياً. عناصر التشويق وسلاسة اللغة والسخرية تجعل روايتك قريبة من "القاريء العادي" إن جاز التعبير، لكنها مع ذلك استطاعت حصد جائزة أدبية كبري، ويري البعض أن هناك فارقا بين الأعمال ذات الشعبية "البيست سيلر" والأعمال ذات العمق وإنه لا يمكن أن يحقق عمل الانتشار والشعبية والإشادة النقدية أيضا؟ أعتقد أن كل كاتب، في أي مكان، ومن أي ثقافة كانت، يطمح أن تصل كتبه الي القراء ويتفاعلوا معها. لا يوجد كاتب يرغب بأن لا تتم قراءة كتبه. الكتابة فعل تواصلي. والروائي ليس شخصاً معزولاً في جزيرة، وحتي لو كان في جزيرة فانه سيكتب ويلف ما يكتبه ويضعه في قنينة ويرميه للبحر، علّ قارئاً ما سيفتح القنينة ويقرأ. ولو تصفحنا المكتبة العالمية، فسنري أن الكثير من الاعمال الروائية العظيمة كانت أعمالاً مقروءة علي نطاق واسع. ولا أعرف من أين جاء الوهم القائل بأن الأعمال الجيدة يفهمها ويتذوقها قلة فقط. وربما هو واحد من أوهام الحداثة التي تجاوزتها ما بعد الحداثة اليوم. النقطة الأهم، برأيي، تتعلق بمنظور الكاتب نفسه، فهل هو يكتب من أجل قطاع واسع من القراء الكسولين الذين يستخدمون القراءة كعلاج للأرق أو إزجاء الوقت في محطة مترو، أم يكتب للنخبة الضيقة من أصدقائه وحلقة النقاد والاساتذة الجامعيين. هل يضع منظوراً واضحاً لطبيعة القراء في ذهنه، أم يكتب ما يراه هو مناسباً، أو علي حد تعبير جيمس كاميرون الذي يقول بأنه دائماً ما يذهب لإخراج الأفلام التي يحب هو أن يشاهدها في السينما. هناك أعمال بكل تأكيد مقروءة علي نطاق واسع ولكنها لا تحوي اي قيمة أدبية عظيمة، وهناك أعمال غير مقروءة ومحصورة في نخبة ضيقة وهي أيضاً أعمال مصطنعة وقيمتها الأدبية موهومة ومبالغ فيها. بالنسبة لي، أنظر إلي العمل الروائي "الذي أرغب بكتابته وقراءته كما في مثال جيمس كاميرون" علي أنه عمل تركيبي كبير، وعلي المستوي الدلالي هو عمل من طبقات ومستويات. يتواصل القارئ العام مع مستوي السطح، ويدخل القارئ النوعي الي طبقات أعمق. ولن أحلم أبداً بكتابة عمل يلقي كل مفاتيحه في وجه القارئ ويتكشف عارياً أمامه.