في عام 2006 أصدر محمود عبد الوهاب روايته "سيرتها الأولي" وبعد ثماني سنوات أصدر روايته الثانية "العيش في مكان آخر" منذ أيام قليلة، عن دار آفاق، بين الروايتين أصدر أيضا ثلاث مجموعات قصصية، مما أتاح له أن يغوص أعمق في تجربته الفنية، ويعكف علي أدواته لا ليصقلها فحسب، بل وهو الأهم- ليتأملها أيضا. ربما تكون "الحكاية" أحد أهم مرتكزات الكاتب، وباستثناء مجموعته "أحلام الفترة الانتقالية" 2013 فإن الحكاية لديه تقليدية، وهي ليست عيبا في حد ذاتها، حتي لو تعارضت ظاهريا مع ما يشاع حول الحداثة والتجريب والمغامرة. يعشق عبد الوهاب الحكاية ويعتمد عليها. الحكاية أو "الحدوتة" أو "القصة" -سمها ما شئت- هي البؤرة التي يعتمد عليها عمله وينطلق منها ويعود إليها. وإذا كانت روايته الأولي "سيرتها الأولي" هي حكاية إمرأة جميلة هي "نسمة" وعشق مستحيل ووصال لا يتحقق وحلم عصي، فإن روايته الثانية "العيش في مكان آخر" هي أيضا وعلي نحو من الأنحاء- حكاية إمرأة جميلة، بل إن إسمها يقترب من إسم الأولي "تسنيم" لكنها ليست مصرية إنما جاءت لعاشقها من أقصي الدنيا من جنوب أفريقيا، أما مسرح اللقاء فهو في مكة، إلا أنها مكة أخري، ليست نمطية، يعيد الكاتب اكتشافها، وينزع عنها ثيابها. أبادر بالقول أنني أتوقف عامدا عن المقارنة بين الروايتين "سيرتها الأولي" و"العيش في مكان آخر" فليس في نيتي القيام بهذا، لكنني أشير فقط إلي أواصر الصلة بين العملين، بما يعني عمق تجربة الفقدان والعشق المستحيل عند الكاتب. من جانب آخر يبدو لي من المفيد أن أشير بسرعة إلي المسرح الذي تتحرك علي خشبته كل تلك الشخوص المفعمة بالحيوية. ومنذ السطور الأولي نجح عبد الوهاب باقتدار في حقيقة الأمر في تقديم شخصية "الفندقي" الماهر، وفصل بحسم بين الكاتب/ الراوي وبين الفندقي، وتبدأ الأحداث برحيل مجموعة من العاملين بالوظائف الفندقية في مصر، للعمل في مكة، حيث يلتقي بقدره، هي "تسنيم" إمرأة متزوجة من جنوب أفريقيا، جاءت هي وزوجها لأداء فريضة الحج، شأنها شأن المئات من مواطنيها الهنود المسلمين. وعندما وصفت نجاح الكاتب باقتدار في تقديم شخصية الفندقي لم أكن أبالغ، فليس هناك أي تماه بين الراوي والفندقي، بل إن رحيله إلي جنوب أفريقيا أساسا كان من أجل تأسيس شركة سياحية لجلب الحجاج من جنوب أفريقيا إلي مكة برأسمال إمرأة أخري هي "فزيلة" تعرف عليها الراوي في مكة أيضا. ثمة حيوية لافتة وشخوص مفعمة بالحياة والتنوع يلتقيها الفندقي علي مدي الشهر الذي يمضيه في عدة مدن. هناك أكثر من عشر شخصيات رئيسية وعدد آخر من الشخصيات الثانوية سواء ممن تعرف عليهم وقام بخدمتهم واكتساب ثقتهم أثناء عمله في مكة، أو ممن رآهم للمرة الأولي في جنوب أفريقيا. هناك أيضا ناس يموتون ونساء يتبادلن الغرام معه، هناك صفقات تعقد ومشروعات تفشل، ومن بينها المشروع الرئيسي الذي سافر الفندقي بسببه. وخلف كل هذا أو قبله هناك تسنيم التي تكتشف أنها حامل من زوجها بعد ثماني سنوات من العقم، وهو الأمر الذي يغير من خططهما معا. تلك هي الأحداث الرئيسية لهذا العمل الفاتن بحق، والقائم علي الاستبعاد من أجل الإبقاء علي المجري العريض الذي تحفره الرواية، ومما يعزز اختيار الكاتب لأن يرتكز عمله علي الاستبعاد لغته الناصعة، شبه التقريرية، الساعية لتوصيل رسالة، ليست تلك اللغة العاطفية الحافلة بالمجاز مثلا، بل هي لغة "مشطوفة" تمنحه القدرة علي أن يبدو محايدا وليس متورطا، وتنأي به عمدا عن العاطفية، في عمل يبدو في الظاهر مجرد قصة حب وغرام مشبوب. وهكذا..فاللغة المحايدة الساعية لتوصيل رسالة ليست سوي حيلة فنية، والاستبعاد المتعمد للمجاز والتوشية، ليس أيضا إلا وسيلة كي تكون المواجهة بين الكاتب وعمله عارية إلا من تفاصيل العمل الروائي ذاته ودقائقه، وهو وسيلة أيضا تحرر الكاتب من الإنزلاق والتورط العاطفي المجاني. وهذا هو تحديدا ما أقصده بأن "العيش في مكان آخر" عمل قائم علي الاستبعاد من أجل الإبقاء علي المجري الرئيسي. أما تسنيم والفندقي "جو" فلم يكونا قد خططا بوعي لما جري بينهما، بل إنهما لم يمارسا الحب إلا في جنوب أفريقيا وبعد محاولات مضنية علي الأقل من جانبها- للتملص، فهي ليست عاهرة بل عاشقة، ثم إنها اتخذت قرار طلاقها من زوجها "أبو" وحدها وبعد أن سافر "جو" بالفعل عائدا إلي القاهرة ثم مكة. "العيش قي مكان آخر" عمل مترامي الأطراف" وشاسع ومتسع علي مستويات عديدة، فعلي مستوي المكان تدور الأحداث في مكةوالقاهرة وشرم الشيخ وكينيا ومدن عديدة في جنوب أفريقيا، وعلي مستوي الجنسيات تتشابك الرواية مع مصريين وسعوديين وخليجيين وجنوب أفارقة، وعلي مستوي المعاني المجردة تحفل الرواية بالصبابة والوجد، والذكاء العملي الفندقي، وانتهاز الفرص وتحقيق أكبر ربح في أقل وقت، تحفل بالفقدان وعدم التحقق والإحباط والفشل، مثلما تحفل بالغرام المشبوب ولحظات التوهج العذبة. واخيرا فإن الراوي/ الفندقي عاد إلي جذوره بعد أن نجا من عسف واضطهاد رؤسائه في مكة، وتنتهي الرواية بما يشبه اللحن الختامي للفقدان، لحن هامس خفيض وربما بارد. والإختيار الوحيد للراوي، الإختيار الوحيد الذي أتيح له أن يختاره بكامل إرادته هو أن يعيش في مكان آخر، ربما كان الوطن الذي استعد في آخر سطور روايته للرحيل إليه بعد أن دار كل هذه الدورة الشاسعة دون أن يحقق شيئا.