* يقتحم الراوي ما وراء الواقعية فيتمزق النسيج الواقعي ويمتزج القصصي بالحلمي والفانتازي واللاواقعي واللامنطقي وكل ما هو مرفوض من العرف الاجتماعي السائد * يجب أن نقرأ الرواية علي أنها نوع من التسجيل فهي تقدم أسطورة أخلاقية نابعة من حياة أهل البحر لا يسير هذا النوع من الروايات علي نهج منطقي عقلي، ولكنه، مع ذلك، يتناول قضايا اجتماعية، فتتبع القصة منطق الفن، وبهذا المعني، لا يكون هذا منطقاً علي الإطلاق، فمنطق الفن، غير منطق العقل، وغير منطق الحياة العملية، لا تنفصل في هذه الرواية التقنيات عن المضمونات، أو الدلالات، فكلها مندمجة ومتداغمة، بلا انفصال، ولذلك، فهي نوع من الكتابة التجريبية، من أهم سماتها، ظهور تيمة الملاحقة والمطاردة والكابوس والقهر الاجتماعي والنفي عن الوطن، بل عن الذات، وإلغاء الهوية، أو تعميتها، أو تشويهها، كما تظهر فيها تيمة الإحساس بالقلق، أو التهديد، أو افتقاد الأمان. ولذلك، يقتحم الراوي ما وراء الواقعية، فيتمزق النسيج الواقعي، ويمتزج القصصي بالحلمي والفانتازي واللاواقعي واللامنطقي، وكل ما هو مرفوض من العرف الاجتماعي السائد، كان رائد هذا الاتجاه، في مطلع القرن السابع، الروائي الأمريكي ويليام فوكنر وذلك في مجموعة رواياته الشهيرة، التي سميت "باليوكناباتاوفا"، وهو اسم لمقاطعة خرافية في الجنوب الأمريكي، ولكنها تمثل بالنسبة له، أكثر من مكان عرفه، فقد استطاع فوكنر أن يخلق عالماً خيالياً مكتفياً بذاته، ذلك لأنه استطاع أن يسيطر علي ماضي تلك المقاطعة، ويحتفظ بها، كذخيرة للأساطير والذكريات والآلام، وظل هذا موضوعه الرئيسي، ومع كل عودة إليه، كان يري فيه عالماً جديداً. أسطورة المكان وهذا ما قدمه محمد رفيع في «ساحل الغواية»، حيث اتخذ من تلك البقعة الصحراوية المطلة علي البحر الأحمر، ومن سكانها الذين يمثلون خليطاً من مجتمع الصيادين، والبدو، ومجموعة من الغجر المرتحلين، ينبوعاً عذباً، ينهل منه قصصه، فهذا المكان يمثل مشهداً للدراما والأحداث، كما يشكل أرضية لمنظومة أخلاقية معقدة، فيها تثمر الخرافة الشعبية، وفيها يظهر الماضي الذي يقترب من الأسطورة، فيثمر بذلك الإحساس العميق بعظمة التاريخ، وثقل أعبائه، لقد ارتبط الكاتب بهذا المكان الذي نشأ فيه طفلا، ارتباطاً شديداً، حتي سكنه المكان، ولم يفارقه في حله وترحاله، ولذلك، دائما ما نجد في رواياته، تداخلاً شديداً بين المكان والموضوع، ثم ساق إلينا حشداً من الشخصيات الحية، الفريدة، وهي شخصيات معقدة، أعصي علي التحليل النقدي، فلا تجدي معها مجرد الملاحظة العابرة، ولكن يتمثل المعيار، فيما يبعثه الكاتب في نفوسنا من انطباعات لشخصياته. فهي تحملنا علي الإيمان بها، والحفاظ عليها، لأن في هذه الشخصيات، طريقة فذة في الخروج علي حدودها الخيالية، ساعية إلي تحقيق وجودها المستقل في عالم الواقع، ودائماً ما يحتفظ المتلقي بانطباع عن سلوك تلك الشخصيات، بل يتذكر دائماً أدق التفاصيل لها، مثل ملامحها ومزاجها وملابسها ومثل هذه الانطباعات، تشكل المادة الحقيقية للخيال، لأنها انطباعات عن اللحظات النادرة التي تنمو فيها الشخصية، من خلال الحركة، أو الكلام، والوجود الكامل، وسعالم ساحل الغواية» له علاقاته الاجتماعية الخاصة، وصفاته الأخلاقية النابعة من العرف، ولذلك، لا نعد «ساحل الغواية» من الروايات الاجتماعية التقليدية، التي تهتم بالتناقض الأخلاقي بين الطبقات المتصارعة التي تتقابل أحياناً، وتنصهر في مجتمع عالي التنظيم، وليست هذه التوترات، ناشئة بالدرجة الأولي، عن التصادم بين طبقات تعي أدوارها التاريخية، ولكنها تعكس تمايزات في الأشخاص الفرديين، أكثر مما تعكس حالة الطبقات الاجتماعية، فليست هناك مثلاً طبقة ثرية، وإنما نجد بقايا أرستقراطية قديمة، وليس هناك بروليتاريا صناعية، ولا مثقفون مترابطون، بل نجد واحداً أو اثنين فقط من المثقفين الإقليميين، وليس هناك إلا شريحة ضئيلة من الطبقة المتوسطة، فهي أرض مزروعة بالفقر، مع بقايا طبقة ثرية. ولذلك، يمكن القول إن العشيرة، لا الطبقة، هي التي تشكل الوحدة الاجتماعية الأساسية، في هذا العالم، فالاعتزاز بالأسرة، واحترام الكبار، كلها دوافع أقوي من السلوك، ومن أي علاقات طبقية، ومثل هذه الدوافع متوقعة بالتأكيد، في مجتمع يتعلق الحاضر فيه بأذيال الماضي، فكل أسرة من أسر ساحل الغواية، إنما تمثل نوعاً متميزاً من السلوك، يرتكز علي قانون أخلاقي خاص به، ولذلك، يجب أن تقرأ هذه الرواية، علي أنها نوع من التسجيل، فهي تقدم أسطورة أخلاقية، نابعة من حياة أهل البحر، الذين ارتبطوا بالبحر، كما ارتبط بهم، وأخذ منهم، أكثر مما أعطاهم، حتي "تراصت جراح القلب فوق بعضها، كسطورنكتب عليها مواجعنا: قد ايش يا بحر تاكل..وترمي مع زبدك أرامل..وقد ايش يا بحر تشبع..ولا تسطر قلوبنا مواجع"، تتلخص الرواية في نبوءة قالتها عرافة، تحذر سلمي من مصير مأساوي، يمكن أن يحدث لها مع حبيبها مهدي، كما حدث من قبل، لحبيبين سابقين، تنبأت لهما عرافة أخري، بذلك المصير المأساوي وقد تحققت النبوءة فيهما، فخشيت العرافة علي سلمي، من أن تلاقي المصير نفسه، فأعطتها سائلاً أزرق اللون، صبته لها من ودعة، في قنينة صغيرة، وقالت: "سلمي..هذا لك خذيه واحتمي به..هذا سم المضاجعة، لم يظهر في فم الودع، إلا لجدة جدتي..رشفة صغيرة منه، تجعل جسدك مسمماً إلا علي من يحبه قلبك"، وتنتشر تلك النبوءة بين البنات، ويتفشي سر "سم المضاجعة"، ذلك الرمز الذي ساقه المؤلف، لكسر عرف اجتماعي سائد، وهو أن البنت لابن عمها، تتوازي مع تلك الأحداث، قصة غواية أخري، تحدث لمهدي حبيبها، الذي تعرض لخديعة، دبرها له صاحب العمل الأجنبي، فقد أوهمه، بواسطة جهاز تخرج منه أصوات وخيالات، بأنه المهدي المنتظر، وأن ما يراه أمامه ويسمعه، هو الوحي، جاء يبشره بذلك، ويكشف له أخوه حجاج حقيقة الخدعة، فيقوم الأخوان بسرقة الجهاز، ودفنه في الرمال، ثم يذهبان لخيمة في الصحراء، يقطن فيها صالح، وهو صديق لحجاج، ولكنهما لم يجداه، ويتشكك المتلقي في وجود حقيقي لصالح هذا، فهو بين الحقيقة الخيال، ويتحول صالح إلي رمز، فهو المعادل الموضوعي لظاهرة السراب، التي تظهر للعطشي في الصحراء، ويقص حجاج علي أخيه قصة صالح، فقد كان من مقتفي الأثر، ثم تعلم الصيد علي يد حجاج، فعمل بها، وترك مهنته، وعندما فقد ابنيه وزوجته، اعتزل البلدة، وعاش في خيمة معزولة في الصحراء، بالقرب من شاطئ البحر، يري أطيافاً وخيالات، ويتحدث مع أشخاص غير موجودين، وهنا، يدخل بنا الراوي في المنطقة الرمادية، التي تقع بين الحلم والصحو، وبين الواقع والخيال، والحقيقة والسراب، ثم تتقاطع الحكايتان المتوازيان، في نقطة لقاء سلمي ومهدي، حين يزفهما أهل البلدة لبعضهما، ثم يغادر مهدي، بعد تلك الليلة، بلا عودة، بعد أن ترك بذرة التغيير في رحم سلمي، وهنا، يدخلنا الكاتب في سرد افتراضي، عنون مقطعه بكلمة: "غداً"، تضع سلمي مولودها، بلا أب، وحيدة، وهنا، يستلهم الراوي قصة مريم، لينبئ عن ميلاد جديد للمسيح، الذي سيملأ الدنيا عدلاً، بعد أن مُلئت جوراً، فهذا هوالمهدي المنتظر، الذي سيراق دمه، تكفيراً عن آثام أهل تلك البلدة فتذهب عنهم الغواية، ولكنها تظل منطقة مليئة بالأسرار، استخدم فيها الكاتب لغة رائعة، تشبه لغة السحر، وذلك، ليخلق جواً من الأساطير والأسرار والغيبيات. المكان معشوقه فغرام الكاتب بتلك المنطقة، لا يقل عن غرام إرنست همنجواي، بمدن القارة الأوروبية، وغرام فوكنر بهذه البقعة من الجنوب الأمريكي، المطلة علي نهر المسسيبي، ولذلك، امتلك جغرافية المكان، لأن المكان معشوقه، وكما قال همنجواي، إذا لم تكن لديك جغرافية الشيء، أي المسطح المكاني، فليس لديك شيء، لقد مزج الكاتب بين الحس المكاني، والإحساس بالحقيقة، مزجاً متخيلاً، فنشأ من هذا المزيج حياة، وهنا، احتاج الكاتب إلي عنصر ثالث؛ هو الإحساس بالمشهد، ذلك لأن الأمكنة ليست وحدة جغرافية، والحقائق مطروحة متناثرة، لا انسجام بينها، فإذا تدفق خلالها تيار الخيال، مثيراً فيه الحياة، نبضت الصورة كلها، ودبت فيها الحركة، فالوصف لحمته وسداه، الحقائق، منظورة ومسموعة وملموسة، فيتحول المكان إلي كائن نابض بالحياة، والكاتب العبقري، هو الذي يبعث الانسجام بين المكان والحقيقة، ولنتأمل هذ المقطع الرائع الذي يصف فيه الكاتب تلاً علي البحر، تعلوه البيوت: "كان ذلك الضوء قادماً من بضعة بيوت أعلي تل مائل، يكاد يسقط في ماء البحر، يفصله عن ذلك التل، مجري مائي ضيق، حيث أحاط البحر بذلك التل من مئات السنين، وانصب في واد منخفض، مكوناً بحيرة كبيرة، بها من خصائص البر، ما لها من خصائص البحر، هذه البحيرة التي أسماها الناس الوادي الذي نزل فيه الماء، فالتلال الصغيرة اللائي كن في صحراء الوادي، صرن اليوم جزراً صغيرة، ومرتعاً للنوارس والكابوريا"، فقد بعث الكاتب الحياة في تلك اللوحة، حتي كاد المتلقي يشتم رائحة البحر، ويلمس بيده النوارس والكابوريا، لم يتجل جمال رواية "ساحل الغواية" في الأشياء الحاضرة فحسب، بل في الغائبة أيضاً، فقد جعل الكاتب من الصمت لغة، تكشف الجوانب الشاسعة والخفية من الحياة، لقد أعادت الرواية، عبر الفن، تأويل عالمها المتفرد، عالم البسطاء والمهمشين، باحثين عن عزاء لالتئام جروحهم وأرواحهم، باحثين عن تواصل حميم، يعينهم علي تحمل عبء الحياة والموت، باحثين عن إدراك لمعني وجودهم الأساسي، وهكذا، يكتشف الكاتب منطقة جديدة لإبداعه، تحيلنا إلي الفهم، وعشق الحياة.