تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العيش في مكان آخر
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 06 - 2014

وافقني أحمد حبيب ونحن نسبح في حمام السباحة بهيلتون شرم الشيخ علي ماعرضته عليه من فكرة السفر إلي جنوب أفريقيا، وفي الحقيقة فقد تعجبت لذلك، حيث إن أحمد شخص لا يحب المغامرات، وكنت أتوقع منه تثبيطا لهمتي، وإبرازا لعيوب ومخاطر الرحلة، ولكني برغم عرضي للفكرة لم أستطع أن أقول له أي شئ عن تسنيم، بل حكيت له فقط عن عرض "فزيلة" (فضيلة) مثلما ينطقونها هكذا هناك، لا يوجد عندهم حرف "الضاد"، هو علي الدوام "زين"
كنت قد رجعت إلي القاهرة في إجازة بعد مضي تسعة أشهر فقط علي بدء تسلمي العمل في مكة، لم أستطع أن أنتظر إلي آخر العام، وليس هذا فقط، بل طلبت إجازة شهرين بدلا من شهر واحد، هم يعطون الموظف هناك شهرا مدفوع الأجر، وأنا أخذته وزدت عليه شهرا آخر بلا أجر. لم أستطع البقاء أكثر، أحسست أن كل ما أفعله في مكة هو أنني أؤجل الحياة.
سألت أحمد متعجبا لماذا وافق علي فكرتي بل وشجعني عليها، قال لي ما حسم ترددي:
لو معملتش اللي نفسك فيه حتفضل طول عمرك تقول يا ريتني عملته
بهذه الطريقة كان الأمر قد قضي فخرجت من حمام السباحة واتجهت إلي غرفتي، بدلت المايوه بشورت جاف وتي شيرت وأخذت طريقي إلي السنترال العمومي خارج الفندق، أعطيت الموظف رقم موبايل تسنيم ودخلت الكابينة أنتظر الجرس.
تسنيم أفتقدك بشدة كيف الحال؟
ردت علي ببرود في البداية:
هالو كيف حالك؟
لم أفهم، سألتها وفي صوتي خيبة أمل بسيطة أقاومها بضراوة:
ألا تعرفينني؟
دقيقة واحدة من فضلك
لم تنقض إلا ثوان معدودة سمعت فيها أصواتا متداخلة ثم جاء إلي صوتها حميميا صارخا، جاهدت لكي تسيطر علي حده الأقصي، كانت تعلم أني في القاهرة، وأنني أدرس إمكانية الذهاب إليها، لكنها صرخت لأنها لم تكن متأكدة من استمرار شعوري نحوها، بالتأكيد فكرت في أني نسيتها منذ آخر مرة تحدثت إليها فيها من مكة، كانت قبل موسم الحج لأنه أثناء فترة الحج نفسها ومنذ أول الأفواج الواصلة إلي آخر الأفواج المغادرة، لا يكون لدي أي منا الوقت لأي شئ آخر غير العمل، حيث يمتد العمل منذ الصباح إلي أن يسقط المرء من الإعياء في أي وقت من أوقات الليل، فيستأذن زملاءه الذين حضروا إلي العمل متأخرين قليلا في الصعود للنوم، ومن شدة التعب والإحساس بضغط العمل لا يستمر المرء في النوم مدة طويلة، ولذلك بعد خمس ساعات علي الأكثر يكون قد استيقظ واستعد للنزول إلي مكتب الاستقبال.
ظنت تسنيم أني ربما أكون قد عدلت عن الفكرة، أو قابلت فاتنة أخري من فاتنات جنوب أفريقيا ظروفها أكثر ملاءمة من تسنيم ووقعت في هواها، كان أمامنا تحديات كثيرة تجعل قصتنا تقترب شبها من قصص الحلم الأمريكي، البطل الذي يستطيع أن يفعل أي شئ وكل شئ من أجل الفوز بحبيبته، يقتحم معسكرا به آلاف الأشخاص ويقتلهم جميعا، ثم يحملها بيد واحدة وباليد الأخري يمسك في الحبل المدلي من الطائرة الهليوكوبتر التي تبتعد بهما عن مرمي النيران إلي أعلي وإلي بعيد، ولا تنال منه أي رصاصة صادرة من فلول المقاومة في أثناء طيرانه، بل تخطئه كل الرصاصات.
لما قلت لتسنيم أني لم أنسها وأنني لا أزال علي عهدنا الذي تعاهدناه يوم غادرت مكة مع "أبو" استطعت أن أميز بوضوح دفقة الدفء التي شملت كيانها كله، لكنها قالت لي إنها كانت تتوقع تراجعي ليس بسبب قلة أو زيف مشاعري، بل لما سردته من قبل، وأنها كانت ستسامحني لو لم أحدثها من الأساس، وكانت كاذبة ولا شك، كانت تحصن نفسها باليأس بديلا عن خيبة الأمل، قالت لي هذا فيما بعد.
أمضيت في القاهرة أسبوعين مع عائلتي، وحجزت تذكرتي علي الخطوط الكينية، كانت أرخص من مصر للطيران، فبينما تبلغ رحلة الأخيرة خمسة آلاف جنيه لم تزد الكينية علي ثلاثة ألاف وخمسمائة، لكنها إحتوت علي ترانزيت مرتين، مرة بدون مغادرة الطائرة في الخرطوم، والثانية في نيروبي لمدة ساعة يتم فيها تبديل الطائرة، وكنت في الحقيقة أفضل الترانزيت علي الخط المباشر، حتي لو كان لا يشتمل إلا علي التجول في مطار غريب.
حادثت تسنيم ثلاث مرات من القاهرة، كانت المرة الأولي ساخنة للغاية، قلت لها إنني لن أستطيع أن أنتظر شيئا أكثر من ذلك، ضحكت وسألتني عما إذا كنت اشتريت التذكرة أم لا، قلت لها إني سأفعل ذلك في اليوم التالي وأنني سأحضر في الغالب يوم السبت 21 سبتمبر إلي جوهانسبرج، غير أني سأضطر إلي السفر إلي ديربان في نفس اليوم لمقابلة "فزيلة" وقضاء بضعة أيام من أجل الاتفاق علي العمل، ثم العودة إليها ثانية، وافقتني بحماس وقالت إنها ستنتظرني في المطار لتساعدني علي أخذ الطائرة الداخلية إلي ديربان، وأنني يجب أن أوافيها بميعاد الوصول حتي تدبر لي الأمر بيسر، وقلت لها إني سأحدثها بمجرد أن تكون التذكرة في يدي.
المرة التالية كان في صوتها هدوء غامض.
قلت لها إني حجزت بالفعل في طائرة منتصف الليل وسأصل إلي جوهانسبرج في الثانية عشرة من بعد ظهر السبت 21 سبتمبر، كان باقيا علي الرحلة ثلاثة أيام، وهي قالت لي أن أكلمها مرة أخيرة يوم الجمعة ظهرا وحددت لي وقت صلاة الجمعة في جوهانسبرج، ذلك الوقت الذي سيكون فيه "أبو" خارج البيت.
قلت لها:
هل هناك شئ غريب في كلامك أم أني أتوهم؟
قالت لي أنه ليس هناك أي شئ غريب وأنه لا يجب علي أن أقلق علي الإطلاق، وكل ما هناك أنها تريد أن تسمع صوتي ثانية مؤكدا علي ميعاد وصولي.
لم أقتنع بما قالت علي الإطلاق، لكن لم يكن لدي أي شئ أقوله، فهي لم تقل لي أي شئ جديد، ولكن حماسها به شئ غريب، من غير المعقول أن يكون أبو بجوارها، لأنها هي التي حددت لي ميعاد يوم الجمعة كي لا يكون موجودا، ماذا يحدث إذن؟
تسنيم!
عاجلتني بعدة قبلات سريعة متوالية أرجعت هاجسي مرة ثانية إلي أقل حيز ممكن، وأقفلت الخط وقد عاد اطمئناني إلي شبه ما كان عليه، إلي أن جاء يوم الجمعة.
آلو تسنيم
آلو حبيبي، كل أمورك علي ما يرام؟
نعم
إذن سأنتظرك في المطار ورتبت لك رحلتك إلي ديربان بعد وصولك المطار بثلاث ساعات ونصف، كي أشبع منك قبل أن تغادر، ونتكلم قليلا.
عندك جديد صح؟
راوغتني بضحكتها الغنوج التي أرضتني كثيرا من قبل.
لن أقول لك شيئا إلا في كافيتيريا المطار.
أوصلني أحمد حبيب بسيارته اللادا الصفراء إلي مطار القاهرة، وانتهت إجراءاتي بسرعة لم أتوقعها، ووجدت نفسي في الطائرة. أخذت أفكر في دراسة الجدوي البسيطة التي أعددتها من أجل لقائي بفزيلة، وعملت حساب زوجها الذي من الممكن جدا- أن يشكك في إمكانية نجاح المشروع. كان هذا زيادة في الاحتياط من جانبي، ففزيلة كانت كل شئ في أسرتها الكبيرة، لم أحتج في مكة إلي مناقشة الأمر مع زوجها، بل هي من قام بإقتراح إنشاء شركة سياحة جنوب أفريقية يكون مقرها الرئيسي ديربان، مكونة منا نحن الإثنين، سأقوم أنا بكل العمل، سأترك الفندق الذي أعمل به وأعيش في ديربان، أقوم بالحجز للأفارقة الراغبين في أداء الحج والعمرة، وأجمع الأموال، وأتراسل مع نفس الفندق الكبيرفي مكة، وأدفع تأمين المواسم الكبيرة وهي الحج والعمرة من حساب خاص لها في لندن، نظرا لصعوبة إخراج "الراند" وهو العملة الوطنية هناك من البلاد، جراء القيود الوطنية بعد ثورة مانديلا، علي التعامل بالدولار وإخراجه خارج البلد، إلا بشروط صعبة، وعلي الرغم من منطقية "البيزنس" إلا أن دهشتي إزدادت من مدي توفيقي في إحداث هذا التناغم السريع الذي حدث بيني وهؤلاء الناس، والذي جعلني أحوز ثقة العشرات منهم بسهولة، كنت أطمع بالتأكيد في مغادرة مكة والعيش في مكان آخر، وهو ما جعلني أبذل جهدا لنيل ثقة العديد من الجنوب أفارقة، لأني خمنت أن ذلك المكان ربما يكون هو محطتي التالية، مثل معظم الذين جاءوا مكة، وهم يسعون إلي الخروج منها إلي مكان أفضل.
قالت لي فزيلة في إحدي أمسياتنا في جناح الفندق في مكة، إنها ستجعل شراكتها بإسم إبنها "رياز" (رياض) بدلا منها، لأنها منشغلة بالفعل في البيزنس مع زوجها، حيث يعملان في المقاولات والتشطيبات معا، ليس للمنازل، بل للشركات والمقرات الإدارية الكبيرة.
عرفت من ذلك الحديث شيئين: الأول إن فزيلة تثق بي بالفعل، خمنت أن مبعث هذه الثقة هي مساعداتي الصادقة لها في مكة، وفي الحقيقة فإنني كنت أساعد كل الذين من أصل هندي ويتكلم الإنجليزية، فقد إخترت نوع زبائني المفضل من بين جنسيات العالم، بينما اختار معظم الزملاء هناك الزبائن العرب سعيا وراء ضخامة البقشيش، ولم أكن أعبأ كثيرا بالبقشيش بقدر استمتاعي الكبير بالتعامل مع هؤلاء الناس، فهم يتكلمون مثلنا نحن المصريين، تزيدهم العواطف والأمنيات الطيبة حماسة في كلامهم إلا أنها يمكن أن تفتر بعد ذلك، كرماء للغاية فيما يتعلق بالطعام، يقدرون المساعدة جدا، نساؤهم جميلات ناعمات طبيعيات للغاية في التعامل ليس لديهن هذا التحفظ العربي فيما يتعلق بالكلام مع الغرباء، وهذا هو السبب في أنني لم أكن أحس معهم بالغربة التي كنت أحسها طول الوقت هناك، كأنني كنت أحادث مصريين ولكن بلغة أجنبية، وكأني بهم كنت أهرب من مكة.
بادلتني فزيلة إذن المودة بمثلها مثلما حدث مع معظم الجنوب أفارقة الذين عرفتهم بعد ذلك، أما الشئ الثاني الذي عرفته من عرضها فهو أن البيزنس يشغل حيزا أساسيا في حياتها هناك، فهي تريد أن تعلم إبنها شيئا جديدا عن طريقي، فقد كان في التاسعة عشرة، وهي فرصة له أن يكتسب رزقه من مجال خارج نطاق عمل الأم والأب، وهو مجال جديد نسبيا في البيزنس علي مجتمع "الجنوب أفارقة من أصل هندي" أولئك الملونين مثلنا، الذين قفزت بهم ثورة نيلسون مانديلا إلي الصفوف الأولي.
كانت البلاد مقسمة قبل الثورة إلي ثلاثة أعراق ولكل عرق طبقة، أعلاها الأوروبيون وبخاصة من هولندا وبلجيكا وهم أبناء المستعمر الأبيض الذي حدث البلاد وجعلها قطعة من أوروبا، تحتل هذه الطبقة أعلي المناصب الحكومية والجانب الأكبر من الاستثمارات الذكية كاستخراج الذهب واستخلاصه والتعامل مع
التكنولوجيا علي سبيل المثال، يليها طبقة الملونين ويمثلها الهنود والباكستانيون وهم جميعا مسلمون، يعملون في التجارة بكل أنواعها من توكيلات السيارات إلي توكيلات السجائر، وإستيراد التوابل من الهند وخلطها وعمل توليفة البهارات للفنادق والمطاعم، وفي أدني المراتب يقبع السود أصحاب البلد، ويحتلون بجدارة كل ما له علاقة بأعمال الخدم، ويعيشون في أفقر الأحياء، أما الأقل حظا منهم فهم العاطلون الذين يعيشون في بيوت من الصفيح علي جوانب الجبال، ولكل فئة من الفئات السابقة أحياؤها السكنية، ومن المجرم قانونا علي الهندي أن يتواجد في أحياء البيض، وكذلك من المجرم علي الأسود أن يتواجد إلا في حيه السكني، فحتي أحياء الهنود محرمة عليه.
مثل السود حوالي تسعين بالمائة من تعداد السكان، ومثل البيض تسعة ونصف بالمائة، والهنود نصف بالمائة، لكن كان بيدهم الاقتصاد.
وبهروب البيض بسبب انتشار الجريمة والعنف بعد الثورة، باعوا ممتلكاتهم بأرخص الأثمان إلي من يكتنز الأموال: الهنود، فاشتروا الأحياء السكنية الفاخرة بفيلاتها وقصورها بأقل من ربع ثمنها أحيانا، ودخل أبناؤهم المدارس الأجنبية التي كان البيض يعلمون فيها أولادهم، لكنهم عانوا في نفس الوقت من ازدواج الهوية الثقافية، ولذلك حرص الكثير منهم علي إستمرار أولادهم في المدارس الهندية الإسلامية إلي جانب المدارس الأوروبية، للحفاظ علي الجذور.
انتقل خيالي إلي تسنيم، إلي صورة أكثر إمتاعا من صور العمل، وأخذت أسترجع صورها التي كانت ترسل لي بها وأنا مقيم في مكة، صورتها علي شاطئ المحيط الأطلنطي في "كيب تاون" وهي تستند إلي كرسي بامبو مرتدية شورت وردي، وساقاها تلمعان في ضوء شمس العصاري، والجزء العلوي من المايوه الأبيض مبتل، متناثرة عليه وصدرها الخمري مبتل بقطرات المياة المالحة، وشفتاها مزمومتان كثيرا إلي الأمام، في اتجاه الكاميرا.
صورة أخري لها في اليونان تجلس علي سلم حجري، وأخري كلاسيكية بعض الشئ في بريتوريا، بجانب صندوق بريد أزرق، ذلك الذي كان يستقبل رسائلي.
قطع خيالي ميكروفون الطائرة: برجاء ربط الأحزمة، نستعد الآن للهبوط في مطار الخرطوم.
استقرت الطائرة ساعة واحدة علي أرض المطار دون أن نغادرها، كان الركاب يصعدون مرتدين في أغلب الحالات- الأزياء السودانية، بينما أنظر معظم الوقت إلي الأضواء البعيدة من شباك الطائرة، التي لم تلبث أن أقلعت من جديد.
كنت أشاهد الظلام من شباك الطائرة لبضعة ساعات لم أنم فيها أبدا، إلي أن ظهر ضوء النهار فبدأت أتبين نهر النيل الذي سرعان ما اختفي كما ظهر حيث بدأت الطائرة في الهبوط في مطار "نيروبي"
هذه المرة نزلنا من الطائرة وصرت أتمشي داخل صالات المطار، كانت التماثيل الصغيرة وأنواع السجاد بألوانه الأفريقية هي أكثر ما شاهدت، وكان المطار بسيطا للغاية، لكني سرعان ما وجدت إسمي يتردد في الميكروفون، ذهبت إلي حيث قال الصوت، وجدت ضابطا كينيا يرشدني إلي قاعة وقال إنهم سيسألوني بضعة أسئلة فقط قبل أن أركب الطائرة، بدا لي الموقف في غاية الغرابة لكن لم يكن لي إلا الانصياع.
جلست وحدي في قاعة غاية في الاتساع لعدة دقائق قبل أن يظهر ضابطان كينيان ويسلمان علي ثم نجلس معا ليبدءا حزمة أسئلة حول سبب زيارتي لجنوب أفريقيا ومن أين أتيت وكم سأمكث هناك، وعلي الرغم من أن كل شئ كان واضحا في جواز السفر إلا أنني أجبت علي كل سؤال باستفاضة محاولا قدر إمكاني أن يظل الحديث وديا كما بدأ، إلي أن وصلا إلي طلب غريب، قال لي أحدهم:
ما نوع العملة التي معك؟
دولارات
أعطنا إذن- عشرة دولارات
كان الطلب صريحا مباشرا لم يترك فرصة لأي تأويل، وفي مثل هذه الظروف التي تحتاج قرار سريعا والصواب لا يكون فيها واضحا من الخطأ فإني أدع غريزتي تقود بدلا من حسابات العقل، وبسرعة أعلنت لهما رفضي، فقال لي أحدهم:
يمكن أن نحتجزك هنا بأبسط تهمة ولن تذهب إلي جنوب أفريقيا.
أعطتني غريزتي قدرا هائلا من الشجاعة لأقول لا، وأني علي استعداد لأي شئ لكني لن أدفع شيئا أبدا، وسأكون قادرا علي الاتصال بالسفارة المصرية واتهامهما بالاتهام المناسب، وكانت غريزتي علي صواب، فقد تكلما بصوت خفيض بالكينية لمدة ثوان لم تزد، ثم أعطياني جواز السفر وقال لي :
رحلة سعيدة
حوالي الثانية عشر ظهرآ حطت بنا الطائرة في مطار "جوهانسبرج"، وقبلها ظلت الطائرة تحلق وتدور في فضاء مدينة الذهب كما يسمونها هناك، بدا الطيار يستعرض جمال البلد، الجبال ذهبية اللون تلمع بانعكاس ضوء الشمل عليها، نقترب أكثر فأري منتجعات سياحية، بيوت لها أسقف من القرميد الطوبي ومساحات خضراء شاسعة تحيط ببحيرات زرقاء اللون. أحسست أني أقع في هوي ما أري، كما تزايد الخوف بداخلي بشكل واضح، فعلي الرغم مني بدأت دقات قلبي تتسارع، تسنيم بالأسفل، سأراها بعد قليل. وقفت في طابور الجوازات وسرعان ما جاء دوري لتختم لي الموظفة السمراء تأشيرة الدخول لمدة شهر، كانو قد قالو لي في القاهرة إن التأشيرة تعطي من مطار جوهانسبرج وليس من السفارة.
ما كدت أدخل المبني الداخلي للمطار حتي رأيتها في إنتظاري، كانت لأول مرة بدون جلبابها النبيتي اللامع الذي كانت ترتديه في مكة طوال الوقت، مع طرحة بنفس اللون تغطي الرأس والعنق، كان رداء غير جذاب علي الإطلاق، مطرز من الأمام بنقوش بيضاء تتدلي إلي أسفل بطول الجلباب، هذا إن لم تكن بلبس الإحرام.
كل شئ في تسنيم كان مختلفا ذلك اليوم، كان ترتدي بنطلون جينز أزرق و"تي شيرت" أبيض، وفي قدميها "سابو" أزرق في أبيض، وعلي شعرها البني متوسط الطول تشبكت نظرتها الشمسية الكبيرة.
هي التي هتفت بإسمي لتلفت إنتباهي، هل لم أكن لأعرفها لو لم تبادر هي؟ علي كل حال لقد رأيت شيئا مختلفا تماما عما اعتدت رؤيته قبلا، إمرأة جميلة، والأكثر من ذلك، لقد أسرعت نحوي، واحتضنتني، وطبعت قبلة سريعة علي فمي، سريعة، لكن مفعمة.
جلسنا في الكافيتيريا، ولعدة دقائق ظللنا ننظر إلي بعضنا البعض ونبتسم، ها نحن في طريق الجنون ماضيان بكل شجاعة، أو رعونة.
قالت لي وهي تغمز لي:
إعذرني لأنني لا أستطيع أن أقبلك أكثر، معارفنا كثيرون في جوهانسبرج، قد يراني أحد، بالإضافة إلي أن اللون يحدد العرق والدين هنا، ولذلك فأنا لمن يراني في أغلب الظن مسلمة، وأنت شخص غريب لا تبدو بملامح هندية، سنلفت الأنظار.
أفهمك تماما تسنيم ليس هذا هو المكان المناسب.
ماذا تتوقع أن تحرز في ديربان؟
سأناقش التفاصيل مع فزيلة، ولا أتوقع أن أصادف مشاكل رئيسية.
تعلم يا "جو" أن هذه الشركات تتكلف مبالغ كبيرة.
لقد تناقشت مع فزيلة قبلا، وليست لديها أي مشاكل في التمويل علي الإطلاق.
أسمع عن هذه العائلة، عائلة "بيكر" هي عائلة ناجحة في كل أعمالها، ولكن لماذا صممت علي أن تراك يوم السبت بالتحديد؟
تقول إن لديها فرحا عائليا وتريد أن تقدمني إلي الناس
تغير وجه تسنيم قليلا لكنها حافظت علي إبتسامتها الشقية، وسألتني إن كنت تحدثت مع فزيلة عنها، فلما أجبت بالنفي قالت لي إن فزيلة تمهد لبقائي في ديربان وستسعي لتزويجي إحدي قريباتها لا شك في ذلك، لم أقل لها أنني أعلم ذلك جيدا فقد تحدثت في الموضوع مع فزيلة من قبل. كان الموضوع محرجا بالنسبة لي، ولكن أسعدتني غيرتها علي أي حال، واستبعدت أن تكون فزيلة قد فكرت في هذا، الأمر بيننا بيزنس وثقة، ألا يكفيان؟
قالت لي إنهما قد لا يكفيان، غيرت الموضوع لأصرف انتباهها، كان لدي ما أريد معرفته بشدة وإن ظللت أقلل من أهميته داخل نفسي، سألتها:
الآن قولي لي علي السر.
جو، شئ غريب يحدث في جسمي منذ شهرين ولم يحدث مطلقا من قبل.
لم تأتني الدورة منذ شهرين
ما هذا؟
نعم، قد أكون "حامل" يا جو
ولكنك قلت إنك لم تحملي ولا مرة منذ أول زواجك من أبو منذ ثمانية أعوام، فهل يمكن هذا؟
بدا صوت تسنيم يختنق وهي تتكلم، وأمكنني أن أري عينيها تملأهما الدموع، ثم انداحت دمعة واحدة ولكنها كبيرة، علي خدها الأيمن الأقرب لي، مددت يدي وبإصبعي رفعت الدمعة من علي خدها ووضعتها علي شفتي، ثم كأني تذوقتها فسألت:
أليس هناك مزيد؟
ضحكت ضحكة منكسرة قليلا، ثم نظرت لي والسؤال الكبير يملأ عينيها الإثنتين: وماذا بعد؟ قلت لها مادامت لم تتأكد بعد فليس أمامها غير الذهاب للدكتور وحسم الأمر، قالت إن النتيجة ستكون في أغلب الظن إيجابية، ولنعتبرها كذلك منذ الآن فماذا سنفعل؟ وماذا أنا فاعل؟ قلت لها لا أدري الآن فالإقامة تحتاج مني إلي تثبيت أوراقي أولا، وهي حتي لو إختارت الطلاق في آخر الأمر فسيكون أمامها وقت لإتمامه، وستكون أيضا مسئولة عني في الفترة الأولي، فأين سأسكن وكيف ستبرر هي وجودي في حياتها؟
إنتهينا إلي أنني في جميع الأحوال- مطالب بتقنين وضعي أولا، سواء تسنيم في حياتي أم لا، واتفقنا علي أن أحادثها دوريا أعلمها بتطورات الموقف هناك، أعطتني تذكرة الطائرة ورفضت أن تأخذ ثمنها، صممت علي دفعها، عندئذ قالت لي هامسة أنني أستطيع أن أدفعها عندما أعود من ديربان، إتفقنا علي ذلك، سألتها متي يجب أن أصعد إلي الطائرة، قالت لي ضاحكة:
منذ خمس دقائق
أمسكت بيدها ونحن متجهان إلي البوابة الداخلية، وهناك وقفنا للسلام الأخير، قالت لي:
أحبك
قلت محاولا إسباغ الكوميديا علي الموقف:
لم يحدث شئ بعد، ستحبيني أكثر لاحقا
خبطتني خبطة خفيفة علي صدري ثم قبلتني ذات القبلة السريعة المفعمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.