خلال 30 يوما.. إلزام ملاك العقارات بإخطار الضرائب حال استغلالها    تداول 11 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    الفلاشا.. نموذج ازدواج معايير الدولة العبرية    الوعي التكنولوجي.. وسيلة الأمان في العالم الرقمي    القاتل الأبيض.. 10 ألاف ضحية له يومياً في أوروبا    استقرار سعر الدولار في مصر مقابل الجنيه اليوم    محافظ جنوب سيناء يبحث دعم مستثمري الإنتاج الحيواني مع رئيس البنك الزراعي    «العمل»: «سلامتك تهمنا» لنشر ثقافة الصحة المهنية بمنشآت الوادي الجديد    رابط نتيجة الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني 2024.. الموعد وكيفية حساب الدرجات    رئيس تايوان يؤكد رغبته في العمل مع الصين    حافلات مان سيتي جاهزة للاحتفال بالدوري الإنجليزي فى شوارع مانشستر.. صور    دبلوماسية استثمار الأزمة.. مصر عززت ثوابت فلسطين من رحم العدوان على غزة.. الاعتراف الثلاثى بالدولة امتداد ل"ثلاثيات" القاهرة خلال 10 سنوات.. والقضاء الدولى آلية تعزيز الشرعية وإعادة الاتزان لنظام عالمى مختل    الصحف الأوروبية صباح اليوم.. كيكر: كومباني يقترب من تدريب بايرن وريليفو توضح أزمة أراوخو في برشلونة    تشكيل الإسماعيلي المتوقع لمواجهة البنك الأهلي اليوم في دوري نايل    "أطفال وقائد".. 4 اختلافات بين مراسم تتويج الأهلي بكأس أفريقيا والزمالك بالكونفدرالية (صور وفيديوهات)    الترجي التونسي: لنا ضربة جزاء لم تحتسب.. والحكم أثر على نتيجة المباراة    متى تقام مباراة لاتسيو ضد ساسولو في الكالتشيو اليوم الأحد ؟    نائب رئيس حامعة بنها يتفقد سير امتحانات الفصل الدراسي الثاني بكلية التربية    غدًا.. أرقام جلوس امتحانات الثانوية العامة 2024 بالمديريات    فلكيًا.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك وعدد أيام الإجازة    حكم نهائي في قضية زوج المذيعة أميرة شنب (تفاصيل)    قوافل بالمحافظات.. استخراج 7388 بطاقة رقم قومي و21 ألف "مصدر مميكن"    تسليم ملابس الحج إلى 46 فائزًا بقرعة الجمعيات الأهلية في جنوب سيناء    المشدد 5 سنوات ل3 متهمين بالتعدي على عامل وإصابته بعاهة مستديمة بمصر القديمة    ل أصحاب أبراج السرطان والحوت والعقرب.. مَن الأكثر عاطفة وتعرضًا للإصابة بالأمراض النفسية؟    الليلة.. "الأيام المخمورة" و"الكلب النائم" بالسامر ضمن مهرجان نوادي المسرح    زكى القاضى: الرئيس السيسى تصدى لإتمام مشروع توشكى وانحاز للوطن والمواطن    أحدث أفلام عمرو يوسف يقفز بإيراداته إلى 73.5 مليون جنيه.. تعرف على تفاصيله وقصته    جولات متنوعة لأتوبيس الفن الجميل بعدد من المتاحف هذا الأسبوع    فيولا ديفيس وجوي كينج يزينان السجادة الحمراء لحفل ختام مهرجان كان.. صور    اعرف قبل الحج.. الركن الثاني الوقوف بعرفة: متى يبدأ والمستحب فعله    وزير الأوقاف للأئمة والواعظات المرافقين لبعثة الحج: مهمتكم خدمة ضيوف الرحمن    برامج بيت الزكاة والصدقات تغطي احتياجات 800 أسرة بقريتين بالشرقية    وزير الري: تحسين أداء منشآت الري في مصر من خلال تنفيذ برامج لتأهيلها    قافلة طبية مجانية بقرية العلامية مركز بيلا    العمل: استمرار نشر ثقافة السلامة والصحة المهنية في المنشآت بالمنيا    وزير الأوقاف: التعامل مع الفضاء الإلكتروني بأدواته ضرورة ملحة ومصلحة معتبرة    نقابة الصحفيين بالإسكندرية تكرم الفائزين بالمسابقتين الثقافية والدينية (صور)    البورصة تصعد 1% منتصف تداولات اليوم    مكتبة الإسكندرية تشارك في "المهرجان الدولي للطبول " في دورته ال 11    منتخب المصارعة الحرة يدخل معسكرا مغلقا بالمجر استعدادا للأولمبياد    تقلبات الطقس: عودة الأجواء الشتوية ونصائح للتعامل معها    أبوالغيط يدعو إلى تكاتف الجهود للنهوض بالشراكة العربية الإفريقية نحو آفاق أوسع    وزير قطاع الأعمال يتابع تنفيذ اشتراطات التصنيع الجيد بشركة القاهرة للأدوية    محافظ الجيزة يكلف عفاف عبد الحارس مديراً لمديرية الإسكان    وزير الصحة يبحث مع نظيره العراقي سبل التعاون في تصدير وتسجيل الأدوية (تفاصيل)    ضبط قضايا إتجار بالعملات الأجنبية بقيمة 8 ملايين جنيه خلال 24 ساعة    مواجهة عربية محتملة.. كيف يتم تحديد منافسي الأهلي في كأس إنتركونتيننتال للأندية؟    استفزاز خطير.. كوريا الشمالية تتهم سيئول وواشنطن بالتجسس عليها    سعر الريال السعودى اليوم الأحد 26-5-2024 أمام الجنيه المصرى    دراسة: الغربان يمكنها التخطيط لعدد نواعقها مسبقا    وزيرة الهجرة تستقبل اثنين من المستثمرين المصريين بالولايات المتحدة الأمريكية    أدعية الطواف السبعة حول الكعبة وحكم مس البيت.. «الإفتاء» توضح    أنطونوف: بايدن يهين الشعب الروسي بهجماته على بوتين وهذا أمر غير مقبول    موعد عيد الأضحى ووقفة عرفات 2024.. ومواعيد الإجازات الرسمية لشهر يونيو    للقارة كبير واحد.. تركى آل الشيخ يحتفل بفوز الأهلى ببطولة أفريقيا    زاهي حواس: إقامة الأفراح في الأهرامات "إهانة"    الرئيس التونسى يقيل وزير الداخلية ضمن تعديل وزارى محدود    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صباحات الفراولة
نشر في أخبار الأدب يوم 28 - 06 - 2014

أصحو من النوم، أضع بيضتين في ماء فوق نار، أعد بعضاً من القهوة الايطالية في آلة الموكا التي نادرا ما أستخدمها في القاهرة؛ حتي قهوتي هنا مختلفة، فعادة أستخدم القهوة سريعة التحضير التي أضعها في قدحي كشاي، أو- نادرًا- ما أشرب القهوة التركية التي تقلب في الماء بصبر. حمام سريع قبل أن أخرج لأستقر إلي طاولة المطبخ، آكل البيضتين وأهين القهوة الايطالية ببعض الحليب: أهدتني شابة ايطالية لطيفة هذه القهوة، ولكن كان وجهها يظهر الامتعاض الشديد حين افسد مذاق القهوة المضبوط بالحليب الذي أضعه فيها. كنت حريصًا علي تذوق رشفتين من القهوة قبل صب الحليب، أتذوقها ببطء وبأناة وباستمتاع.
في حوالي الثامنة والنصف، أو التاسعة، بعد القراءة في الرواية أخرج لأبتاع بعضاً من الفراولة الألمانية الشهية، الصيف هو موسمها، قال لي أحمد فاروق (كافكا) صديقنا التسعيني المستقر في برلين منذ عقد ونصف، أن مذاقها يذكره بالفراولة المصرية قديمًا، نعم، لديه حق، كانت هكذا في طفولتي، قبل أن تُمسخ في مراهقتي، ويشيع استخدامها مقطعة مع رش السكر فوقها، ولكن كافكا-فيما أظن- لم يدرك التحسن الذي طرأ عليها في اواسط رجولتي، أتذكر أن أحدهم قد فسر لي الموضوع بانتقال من سلالة من الفراولة إلي سلالة اخري، ويأخذ الامر سنين قبل أن يتحسن المحصول، ربما.
الفراولة: فاكهة الجنة، لونها الأحمر وشكلها المخروطي كقلب، المسام الخضراء الدقيقة فوق سطحها، العصارة الشهية التي تجول بفمك وحول لسانك وأنت تقضمها بيسر، كانت واحدة من فاكهتي المفضلة، سواء كفاكهة أو كمربي، فيتراك الفراولة، هذه الأيام. لسبب ما لا أستسيغها كعصير، ولكن الموضوع يمكن تفهمه في ضوء أنني أحب المانجو حبا جمًا كفاكهة أو كعصير، ولكنني لا أتخيلها أبدا كمربي.
أمشي عادة قليلا في أرجاء كرويتسبرج، قبل أن أعود بحصيلة الفاكهة وبعض من الخضروات لسلطة طازجة، أترك كل شيء وآخذ اللاب توب إلي حيث كوتي كافيه، المكان متعدد الاعراق والتوجهات بالقرب من منزلي. هي منطقة تموج بالمهاجرين، وبالموسيقي العربية والتركية والكردية. بالأمس، أثناء صعودي للمنزل وبعض من وسن يتمكن من دماغي، شاهدت زفة عربية أسفل المنزل، خمنت أنهم جيراني الذين يشغلون موسيقي أم كلثوم بين حين وآخر في الظهيرة. كان موكب العربات عربيا في كل شيء، الزينات والأشخاص والضحكات واللغة، ولكنني شاهدت بدل العلم علمين فوق كل عربة، العلم الألماني.
اجلس في الكافية لأعمل قليلا وأتصفح الانترنت كثيرًا، لن أثقل عليكم بالشأن العام لأننا كلنا في الهم واحد، ولأن مسئول الصفحة ههنا قد نبهني، المهم، ما يزال لدي وقت قبل الذهاب لمعرض الفنون التي أخبرتني عنه صديقتي الألمانية، أتمم ما جئت لأجله، وأجرع الشاي العربي بالنعناع كما يسمونه، قبل ان انفذ خططي المعتادة بالمشي لاطول مدد ممكنة في مكان يحتفي بهذا الفعل، ولكن، قبلا، يخطر ببالي أن أحادثكم عن طعم الشاي، طعم مختلف، لم أعرف بالضبط- إن شئتم الحق- إن كنت أستسيغه أم لا، رغم أنني أشربه كل يوم كبغل. إذا ما افترضنا أن القوم هنا يحضرون نوعاً حقيقياً من الشاي، كيني أو سيلاني، فيبدو أنني المستهلك المصري المثالي، الذي تحدث عنه بهظ بيه في فيلم الكيف. أفكر في كل يوم، وأنا أطلب الارابيش تي أن أسأل عن بلد منشئه، ولكنني كنت أنسي، أو أتناسي.
أعيد اللاب توب إلي المنزل ثم آخذ وقتي للمشي، كان الأمر يشبه التحدي: لابد وأن أمشي شارع الكارل ماركس لنهايته.
كنت قد تمشيت بطول الطريق الطويل الذي يقود من كوتي كافيه إلي حيث الهيرمان بلاتز، الميدان الذي ينطلق منه شارع كارل ماركس، وهو غير طريق كارل ماركس الذي كتبت عنه قبل ذلك. كنت اتأمل من يقبلون علي، ومن اتخطاهم، بفضول لم يقتله التعود، ميزت مع الوقت اختلاف الحجاب التركي عن الحجاب العربي، أو هكذا ما تخيلت، رأيت نساء شقروات وسمراوات شهيات، ونساء اوغلن في السن، ومرأة قصت شعرها كرجل، وكانت ملامحها كرجل، ولولا ثديين بارزين لحسبتها رجلا، رأيت حتي سيدة تشبه تماما نبيل الدسوقي، الممثل القديم، ولم أعرف إن كان التعاطف شعورًا مناسبًا تجاهها أم أن هذا شيء طبيعي لا يفسد الحياة. رأيت رجالا متوسطي العمر، وبعضهم يزتدي ملابس تعود في هندامها إلي سني السبعينات، وذكرني هذا بمدرس قديم في مدرستي الثانوية، تاه في تلافيف العمر اللي الدرجة التي جعلته ما يزال يرتدي الشارلستون الواسع في سنين التسعينات. شابات في عبرت بالهيرمان بلاتز، ثم دخلت الشارع الطويل، وطوفان البشر ما يزال مستمرًا؛ كنت مولعًا بالمشي منذ حداثتي، كمولد من مواليد وسط المدينة التي أحيانا ما تقودك لكي تكون اكسل خلق الله أو لتكون مجنونًا بالمشي مثلي، حين اكون في الاسكندرية لي عادة محببة: أن أنزل من محطة سيدي جابر، لامشي في شارع ابي قير بطوله، حتي حديقة الشلالات، لأكمل في شارع فؤاد، حتي انحرف يمينا صاعدا الي محطة الرمل، ثم امشي بطول الكورنيش راجعا الي فندقي المفضل في كامب شيزار، في مرة أصيب أحد السكندريين بالارتياع لخطتي وقادني من يدي مجبرًا إلي حيث الترام.
في مرة كتبت رواية كاملة عن فعل المشي، وكان اسمها، ولا عجب، القدم. وعندما يبلغني بعض القراء بحبهم لها أسعد جدا، كانت القدم تجربة موغلة في التجريب كعادتي، واستعارت السياق المتشظي لعقولنا أثناء المشي كبناء، فأحيانا نفكر في ذكريات متداخلة، واحيانا يقطع هذا التيار انتباه وقتي لحادث في الطريق، أو تأمل لواجهة محل أو لبشر يعبرون الطريق.
كان السرد مترادفاً باستلهام لتشظي الحكاية عند القرآن، حين يذكر ذات الحكاية في مواضع متفرقة، وإن كان وفيا لجذور الحكي الاوروبية مع ذلك، وبينما انا امشي في الكارل ماركس، لاحظت مثل هذا التداخل من ميراث شرقي وغربي معًا، في سياق آخر هو المصدر الذي نعب منه لنصنع جداولنا الصغيرة التي تخصنا: الحياة.
كانت التجربة اكثر ايغالا من اليوم الثاني والعشرين مثلا، التي اعتمدت اللعب علي تكنيك مشابه: كيف نتذكر الاشياء وكيف ننتقل بعقولنا من تفصيلة إلي أخري بلا ترتيب، ولكن إن كانت الحكاية في اليوم الثاني ذات موضوع بعينه، وأنا ألعب في تفاصيله وكرونولجية سرده، فقد كانت القدم هي التشظي الكامل، حول حكاية صغيرة صلبة كنواة في داخل النص.
كنت أفكر أنه، بما أنني عنيد كبغل وسأتمم الشارع الطويل لآخره، فسيلزمني أن أنحرف يسارًا في أي نقطة اختارها، قبل آن يتوجب علي أن أنحرف ليسار آخر، قد يكون بطول احدي القنوات التي تفصل ما بين الجزر الصغيرة البديعة التي هي برلين، حتي اصل لنقطة توازي مكان منزلي. أملك حاسة جغرافية أثق بها، واتركها لتأخد قدمي، كواحد من مواليد وسط المدينة الذين دربوا علي فنون الابحار في الشوارع، وتوخي أقرب النقاط التي يمكنهم الوصول عبرها إلي الهدف، أو لتجنب منزل أو محل أو ناصية بعينها مثلا.
في المرة الأولي التي وصلت فيها أدنبرة قبل سنين بعيدة، أتذكر أنني قد مشيت بلا هدي غير قياساتي المنطقية (في زمن لم تكن فيه الهواتف الذكية أو برنامج الجوجل مابز شائعًا)، لمدة 4 ساعات متواصلة لأصل لذات النقطة التي بدأت منها، غير بعيد ابدا عن مدرسة الجورج هارييت التاريخية، قريبا من مكان سكني آنذاك.
ساعتها عبرت بشارع البرنسيس آن دون ان اعرف اسمه، وهو ذات الشارع الذي بدأ فيه فيلم ترايسبوتينج الشهير، وحيث يتفرع منه شارع يوجد به بار بديع اسمه الرويال اوك، وهو نفس البار الذي عبر به بلال فضل مثلي، حين زار ادنبره، واظن ان ذلك تم بغير ترتيب بعينه، مثلما فعلت بالضبط.
علي العموم، أكملت الطريق حتي آخره، حتي تعديته ووصلت الي بداية طريق سريع يقود الي المطار وهامبورج، فقفلت راجعًا، ودخلت إلي الطريق الذي توجد علي ناصيته محطة قطار نويكولن، لأمشي في منطقة جميلة، مليئة بالاشجار والهدوء، لاخذ قهوة سريعة في مكان لطيف، قبل أن اكمل رحلتي عبر الزونين شتراسه.
كان الشارع بديعًا لدرجة لا تصدق في الربيع، باشجاره الوارفة وجمال ابنيته، ويمكنك ان تراقب ساحرًآ اختلاط لافتات المحلات العربية بحقيقة كونك في اوروبا، ولتفكر ساخرًا أنها منطقة محسوبة حتي الآن علي الطبقة الوسطي- رغم ارتفاع اسعارها في السنين الأخيرة- وهي أكثر جمالا وسحرًا ونضافة من حالة مناطق النخبة في مصر الآن مثل المعادي أو الزمالك، وذات روح مدينية حقيقية اكثر من تلك المجتمعات العمرانية المغلقة علي نفسها في اطراف القاهرة، خاصة بتلك الشوارع الجميلة الصغيرة التي تتفرع منه. رأيت حافي الشوارب وبعض المنقبات والمحجبات، مع بعض الألمانيات من الجيل الثاني اللاواتي كن يحملن هذا المزيج القاتل: الجمال الشرقي والبشرة الغربية، الدلال الذي اعرفه في الجنوب مترابطًا مع حسن الذوق الشمالي. اخبرني كافكا لاحقًا أن هناك رواية جميلة تحمل اسم شارع زونين وقامت احدي صديقاته بترجمتها، كنت فضوليًا لأعرف إن كانت الرواية تتناول الجالية العربية والتركية والكردية هناك، ولكن كافكا أخبرني أن الموضوع تاريخي وليس معاصرًا.
قرب المساء كنت أنتظر صديقتي الألمانية أمام محطة المترو، وكلمة المساء مخاتلة تمامًا، لأن الغروب في برلين الآن يكون في حوالي التاسعة والنصف مساءً تقريبًا. جاءت برشاقتها وأناقتها المعتادة، مضينا إلي حيث المعرض، واحد من حلقات معرض أشمل في طول العاصمة الألمانية وعرضها مخصص للمصممين، دخلنا إلي بناية كلاسيكية أنيقة، وبدأنا في استعراض العديد من اللوحات.
سألت بينزي- فرانشيسكا- مديرة الجاليري التي لفت نظرها ولع مشترك ما بيني وبين الالمانية بلوحة ما، عن اسم الفنان، اجابتني بانه رسام وكاتب ومصور الماني يدعي توماس جرويتز، ثم مضت باحترافية لتسرد عن لوحات اخري موجودة في المكان، كان القاسم المشترك بينها جنسية الفنانين الفلندية. قلت لها غير فاهم اذن هو مهرجان للفنانين الاجانب؟ قالت لا، هذا الجزء هنا- واشارت الي صالات متسعة عبرناها من قبل- هو مخصص للمهرجان، هنا بقية الجاليري، وهذا معرض مقتنيات خاص، يمتلكه رجل اعمال فنلندي ثري، ويخصص اغلبه لعرض اعمال الفنانين من بلاده.
كان رجل الأعمال الفنلندي، تيمو ميتينن، قد ابتاع هذا البيت بكامله قبل أربع سنوات، هذا البيت، 3 شارع ماربورجر، هو واحد من مبان نادرة ظلت موجودة من قبل الحربين العالميتين، أنشئ هذا المنزل في العام 1896- تقريبا هو من نفس عمر بيت عائلتي الكبير- وكانت تمتلكه سيدة يهودية تركته للنرويج إبان الحرب العالمية الثانية، ثم رجعت لتستقر به حتي وفاتها، ثم ليبتاعه الثري الفنلندي الشقة الواسعة الفسيحة التي تقيم بها إلي صالون دالمان، بنفس اسم السيدة الأخيرة، مسلما إياه للمهندس كارل فيلي، الذي أسعدني الحظ بوجوده في المعرض. تقودني اليه فرانزي وتقول له إن الاستاذ روائي مصري مهتم بسماع حكاية ترميم المنزل. منحني من وقته بكرم شديد، وظل يشرح لنا- أنا والصديقة الألمانية- خطوات ترميم المكان، وكيف استعانوا بنفس المكونات الأصلية من منازل أخري للحفاظ علي السمت التاريخي، ريما الاستثناء هو الحمامات، طبعا.
اللطيف في الأمر أن الثري يجيء هنا للاستقرار اسبوعاً أو أسبوعين كل صيف، بقية الشقة التي هي جاليري تعمل فقط في يوم السبت من كل اسبوع، وهناك باب يغلق ما بين الجزء الذي يقيم به الثري وبين الجاليري، بل ويؤجر المكان كشقة للعطل الصيفية ايضًا، ألف يورو كاملة في الاسبوع، وإذا سألتني، فالمكان يستحق. ليس فقط لنظافته وأناقته، بل لكمية الأعمال الفنية المتناثرة في كل ركن من الشقة.
نشكر المهندس ثم نمضي لنشرب شيئًا قبل آن نعود إلي المنزل، أنظر في ساعتي، هي الحادية والنصف مساءً. أفكر في أن أصدقائي في القاهرة، لو عرفوا أنني أبدأ في النعاس في حوالي الحادية عشرة والنصف مساءً لفكروا جديا في عرضي علي طبيب أو ما شابه، ولكنها صباحات الفراولة المبكرة.مقتبل العمر، وفي مقتبل الحياة، يرتدين الهوت شورت كاشفات عن جمال فتيّ مازال يحتفظ بفضوله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.