لا أظن ان رهبة تملكتني وأنا اكتب عن أحد كتلك التي تصفر في جدران روحي وقلبي الآن ، وأنا أكتب عن " محمد مستجاب " الأب . يبدو الأمر مثل العدو وسط غابة مسحورة حيث تبطل قواعد الطبيعة ونواميسها .. حين يبدو الشجر والحيوانات المفترسة والزواحف والأمطار الرعدية وحتي الجفاف وجها يوميا للعالم بلا أي منطق ولا فائدة من استخدام العقل . القلب وحده يكفي في هذه المخاطر المهلكة، القلب والحدس الذي يخبرك ان هنا فخا مميتا وأن هذه الزهور الملونة الهادئة بإمكانها التهامك في غمضة عين، بينما هذا الثعبان الذي يصم فحيحه الأذن هو مجرد حيوان اليف كل ما يرغب فيه أن يتمرمغ قليلا علي جسدك وينصرف . مثل ذلك كله تبدو عوالم مستجاب السحرية للكتابة ، مثل ما كُتب ليبقي في هذا العالم ، يعلم القادمون لغابة الكتابة طرقا وحكايات، في هذه الغابة تبقي صحاري مستجاب وضباعه وأشياؤه كما تركها تحمل دهشة ألعابها ومنطقها، ويبقي سكانها من البشر مثل نعمان عبد الحافظ و ودّة و أم آل مستجاب ومستجاب الرابع الذي تهجره زوجاته جميعا ، والخامس الذي أكله الذئب وهو يحاول الحصول علي مكان علي اريكة الحكم ليصبح الحادي عشر والسادس والخامس وسن الجبل وغيرهم ممن وهب لهم كاتبهم روحا غير أرواحنا نحن البشر تلك الفانية المليئة بالثغرات والندوب . آل مستجاب في قيامهم وانهيارهم باقون، يمكنك فقط ان تعيد القراءة من البدء فتبث فيهم روحا جديدة، تحمل ذات الدهشة والقوة والبلاهة والصمود والتخاذل . أماكنه الضاربة في سطوره مثل كوبري البغيلي الذي أفسد عليّ الوقوف أمام أي ترعة ماء أو ممر للنيل دون ان أفكر في العظام والأسرار التي يحتويها قاعه ، مثل ديروط الشريف والبيت الذي ابتسمنا له ولوحنا له أنا ومحمد من القطار عندما مررنا من هناك ، وكأن مستجاب الأب يقف في شرفة البيت الذي كان يذهب اليه كلما اراد ان يتم عملا روائيا ، كان بطريقة او بأخري يقف في شرفة بيت ديروط يلمع مثل نجمة غائبة لكنها تترك وميضها لسنوات بعيدة . لكن شيئا من هذا لم يجئ علي خاطري وأنا افكر في الكتابة عن مستجاب الأب الذي أحمل له في قلبي كتابي " جبر الخواطر ، والحزن يميل للممازحة " في كتابة أحبها وأعيدها مرات بلا تملل وغيرها من مقالات مثل مجموعة مقالاته في " رقبة لا مؤاخذة الحمامة " بجريدة الدستور والتي استمرت سنوات حتي قبل رحيله بأسبوع ، الرسائل التي تصل لمحمد مستجاب الأبن حتي الآن عن مقال الأب في واحة العربي ، كلمات كثيرة أعرف أن الساحر كان سيفرح كثيرا لو تلقها في حياته ، لكني أعرف ايضا انها تصله هناك بطريقة أو بأخري . كثيرا ما أتوقف عند مقال له أو فكرة أو حكاية واتساءل بصوت عال ، هل كان يعرف حقا ما ستفعله كتابته ، وكيف ستبقي تحمل لنا الدهشة والإبتسامة وحتي المرار ! لم أقابل مستجاب الأب في حياته ، فقد بدأت إحتراف الكتابة بعد وفاته بعامين ، لكني كنت احب كتابته الحرة ، فوق النوعية كما يسميها النقاد ، تلك التي تلائم مزاجي في القراءة والكتابة علي حد سواء ، هو كان ماهر فيها كمرابي يهودي يضمن بحنكته أن يحوطك بالديون لتبقي . قرأت خبر وفاته في صحيفة كانت تصل لي بحجرة المستشفي التي بقيت فيها لشهور مع أمي حتي قررت في نهاية العام ان تعود للبيت وتموت في هدوء علي فراشها .. 2005 ، كان عاما طويلا وحزينا . ألمح وجعه في عيني وعين زوجي عندما نتكلم عن الراحلين . بدأت علاقتي بمستجاب الإبن عندما اقتسمنا جائزة عام 2007 ، وقفنا جوار بعضنا علي المنصة وسط الفائزين الآخرين والتقطت لنا صورة جماعية مع النقاد .. وغادر كل منا لحال سبيله ، بعدها بعامين هاتفته لأني كنت أجهز تحقيقا للجريدة عن أبناء الأدباء أرسل لي مشاركة وغادر كل منا مرة اخري لحال سبيله وفي عام 2011 قرأت اسمي في قائمة جائزة عربية وكان هو في منتصف القائمة ، ابتسمت وقلت لنفسي أن هذا الولد يتماس مع نجمي في الكتابة . وقرأت مقالا له بعدها ضمن ملف أعدته مجلة أدبية للإحتفاء بي كتب عني مقال اسمه " الملكة " لا أظن أن أحدا سيكتب عني طوال حياتي مقالا بكل هذه الرقة والعذوبة والقسوة والجمال .. أفكر احيانا أن المقال كان تعويذة الرجل الذي أحببته فيما بعد وتزوجته للوصول لقلبي .. هو الذي أهداني يوم الخطبة مقالا آخر عن كتابي الأقرب لقلبي " كراكيب " الأمر يعيد الرجفة ذاتها لقلبي أنا التي تحب الكتابة وتقايض بها العالم كله ، تهبني الكتابة حبيبا بمقاس احلامي ، يهديني كتابة ، ويشتري لي خاتما منقوشا عليه اسمه بأموال وفرتها له الكتابة المقطع السابق كان خارج السياق ليعيدني للمحراب ، لاني وبضربة حظ سعيدة احببت كاتب ابن كاتب وورثته معه - بحق نسب الكتابة - كل الحكايات ، هو الذي يجرب أن يزهو بنفسه أمامي ويخبرني ما أخبر به أبوه العالم عندما اسماه علي اسمه محمد وقال للجميع وقتها ذ انه الوريث " زوجي يخبرني بزهو انه الوريث ، وابتسم أنا بخبث دون ان اعلق كما يفعل الشريك الواثق من نصيبه في تلك التركة .. في بيت الزوجية صور كثيرة علي الحائط لمستجاب الأب ، بريشة فنانين كبار ، بورتريهات ، وصور احتفاء بجوائزه ، لدينا حتي المنسوجات التي كان يحب أن يعلقها ، في بيتي هنا مكتبته ، واوراقه وكلماته التي تعيش معنا / بيننا انا ومحمد .. لا يمكنني أن اصف مشاعري وأنا اسحب كتابا من مكتبته الكبيرة التي تحتل نصيب الاسد بين كتبي انا وزوجي .. لن يعرف أحد الطريقة الهشة التي احمل بها الكتاب بين يدي ، أشعر بخجل شديد وأنا أتعامل مع اشياء مستجاب الأب ، ذلك الذي عرفته من الكتابة وحكايات عائلته عنه الحكاية الواحدة أسمعها من خمس او ست ابعاد فتبدو مجسمة مثل رواية الأصوات صوت الابنة والابن والزوجة والأصدقاء تختلف في منطق الحكي لكنها تبقي ذاتها محملة بمحبة لرجل مختلف ، يجمع القسوة والطيبة ويمزجهما فتصبح طفولته وهمومه ومسئولياته اتجاه مشروعه وأسرته واصدقائه مثل أمور يسحبها في ذيل جلباب صعيدي اعتز به واعتاد أن يرتديه ، حكايات متطرفة عن طيبته وقسوته عن سعة روحه لإستقبال الكتّاب الشباب الموهوبين وحكايات عن غضبه وعصبيته في التعامل مع آخرين ، لم يكن هناك قاعدة لم يأمن أحد نوبات تقلبه هو وحده يدير الأمر كيفما اتفق هو الطيب والشرس ، القوي والهش الذي يأخذ من الدنيا كل ما يقدر والذي يترك لها كل ما ترغب ، وصار عليّ ان أخيط صورة احبها وأثق فيها لأنقلها لمستجاب التاسع عشر الذي سأحمل في سجل السحر اسمه حين اكون وقتها أم مستجاب التاسع عشر ربما لأن العد في هذه العائلة لم يصل للأرقام بعد العشرين دائما تصل لهنا ثم تبدأ العد من البدء . أعيش وسط كتب رجل كبير بقامة حكيم وبعصا ساحر وبقلب طفل وإرادة جيش له حيلة واسعه في دخول طروادة وفتح عكة وهي الإرادة التي ورثها منه فعلا محمد الإبن ، والتي تملئني كثيرا دهشة وفخرا به . مستجاب الأب الذي منح لي شفرات صغيرة عن عائلته قبل ان اقابلهم ، فكنت أعرف عن ام زوجي أنها إمرأة شديدة المراس وقوية وتقول الأسطورة أنها بطلة تشارك في جانبها من المعركة بكل بسالة وأنها حتي تفك الأنابيب وتعيد تركيبها . مستجاب الذي كتب عن اوجاعه ومحنه في الإبتلاءات الكثيرة التي أصابته في دهس قطار قدم ابنه الكبير أحمد ، والمرض القاس الذي عض ابنته سوسن لسنوات طويله أنهكت روحه وقلبه وقلوبهم جميعا ، كنت افكر كيف ستبدو عائله عانت كل هذه الإبتلاءات ، بيت به أربع أبناء وعدد يملأ القلب من الأحفاد ، ومحبة ونظام صارم لم اره في اي بيت اعرفه كل هذا الميراث الذي تركه مستجاب الأب حاملة شعله الكرم والعطاء زوجته نادية وابنته دينا وابنها يوسف وزوجها سيد وابنتها مريم وسوسن وعمرو وفريدة واحمد ونور ووفاء وسمية ومحمد الثالث وأنا وزوجي كل هؤلاء البشر وحكاياتهم والأوراق والكتب والروايات والصور والصناديق التي تمتلأ بخط يده ورائحته ومئات الولائم التي ألتففنا حولها جميعا والضحك والحزن وكل ما يمكنه أن يهب الحياة ويوثقها في هذه الحكاية وهذا البيت بيت آل مستجاب .