لهذا السبب| الناشط علاء عبد الفتاح يقدم اعتذار ل بريطانيا "إيه الحكاية!"    وزيرا التعليم العالي والتربية والتعليم يناقشان الارتقاء بالشهادات المهنية للمعلمين    6 جولات دولية ل أمين "البحوث الإسلاميَّة" في 2025 تعزز خطاب الوسطية    إليسا وتامر وعاشور في أضخم حفلات رأس السنة بالعاصمة الجديدة    وزير الصحة يعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات رأس السنة الميلادية وأعياد الميلاد المجيد 2026    «التضامن» تقر توفيق أوضاع جمعيتين في محافظة القاهرة    رئيس جامعة القاهرة يتفقد سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بالكليات (صور)    ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه المصري في بداية تعاملات اليوم    سعر الدينار الكويتي اليوم الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 أمام الجنيه    اليوم.. وزير التموين يفتتح سوق اليوم الواحد في رمسيس    أسعار الدواجن والبيض اليوم الثلاثاء 30 ديسمبر 2025    الذهب ينتعش من أدنى مستوى في أسبوعين والفضة تتعافى    البنك الأهلى يخفض عائد شهادة 3 سنوات إلى 16%    رئيس مجلس القيادة اليمنى يعلن حالة الطوارئ 90 يوما وفرض الحظر على كافة الموانئ والمنافذ    وزير الخارجية: الحلول السياسية والدبلوماسية أساس تحرك مصر في القضايا الإقليمية    أمم أفريقيا 2025.. منتخب مصر راحة من التدريبات استعدادا لدور ال 16    وائل القباني: مصطفى شوبير حارس مميز.. ومصر قدمت أداء متوسط أمام أنجولا    حسام عاشور: مصطفى شوبير طلب الرحيل من الأهلي ونصحته بالبقاء    وفاة حمدي جمعة لاعب الأهلي السابق    بث مباشر كورة لايف.. مباراة الأهلي ضد المقاولون العرب بكأس عاصمة مصر    المدير الرياضي للزمالك: الانهيار الكامل خلال أيام قليلة.. وأعمل كمتطوع    وصول اللاعب رمضان صبحي لحضور محاكمته في قضية التزوير    إحالة سائق للجنايات بتهمة دهس شاب في النزهة    تأجيل محاكمة المتهمين بإشعال النيران في أنبوبة غاز داخل مقهى بطوخ    اليوم.. طقس شديد البرودة ليلا وشبورة كثيفة نهارا والعظمي بالقاهرة 20 درجة    وزيرا التعليم العالي والتربية والتعليم يناقشان تطوير مشروع الشهادات المهنية    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 30ديسمبر 2025 فى المنيا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    وزير الصحة التركى يتفقد التجهيزات الطبية المتطورة فى معهد ناصر للبحوث    باحثون: أجهزة اكتساب السمرة الصناعية تؤدي إلى شيخوخة الجلد    ألمانيا: تراجع أسعار الزبدة والزيت وارتفاع كبير في الشوكولاتة واللحوم خلال 2025    مع بداية عام جديد.. لماذا لا نلتزم بعاداتنا؟ وكيف نحول الخطط إلى سلوك يومي؟    اليوم.. عزاء المخرج عمرو بيومى    بعد قليل.. استكمال محاكمة 32 متهما بقضية خلية الهرم    محمود العسيلي: "عمرو دياب بتعلم منه وهو رقم واحد"    القبض على المتهمين بقتل شاب فى المقطم    إعلام فلسطيني: طائرات الاحتلال تشن غارات شرقي مخيم المغازي وسط قطاع غزة    أمين سر فتح بهولندا: دعم ترامب لإسرائيل غير محدود    هدى رمزي: مبقتش أعرف فنانات دلوقتي بسبب عمليات التجميل والبوتوكوس والفيلر    نجما هوليوود إدريس إلبا وسينثيا إيريفو ضمن قائمة المكرمين الملكية    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الثلاثاء 30 ديسمبر    زيلينسكي: لا يمكننا تحقيق النصر في الحرب بدون الدعم الأمريكي    تفاصيل مثيرة في واقعة محاولة سيدة التخلص من حياتها بالدقهلية    الإمارات تدين بشدة محاولة استهداف مقر إقامة الرئيس الروسي    محافظة القدس: الاحتلال يثبت إخلاء 13 شقة لصالح المستوطنين    ناقدة فنية تشيد بأداء محمود حميدة في «الملحد»: من أجمل أدواره    صندوق التنمية الحضارية: حديقة الفسطاط كانت جبال قمامة.. واليوم هي الأجمل في الشرق الأوسط    سموم وسلاح أبيض.. المؤبد لعامل بتهمة الاتجار في الحشيش    أزمة القيد تفتح باب عودة حسام أشرف للزمالك فى يناير    تحتوي على الكالسيوم والمعادن الضرورية للجسم.. فوائد تناول بذور الشيا    في ختام مؤتمر أدباء مصر بالعريش.. وزير الثقافة يعلن إطلاق "بيت السرد" والمنصة الرقمية لأندية الأدب    الكنيست الإسرائيلي يصادق نهائيًا على قانون قطع الكهرباء والمياه عن مكاتب «الأونروا»    مجلس الوزراء: نراجع التحديات التي تواجه الهيئات الاقتصادية كجزء من الإصلاح الشامل    أمم إفريقيا – خالد صبحي: التواجد في البطولة شرف كبير لي    وزير الخارجية يجتمع بأعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي من الدرجات الحديثة والمتوسطة |صور    ما أهم موانع الشقاء في حياة الإنسان؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    هل تجوز الصلاة خلف موقد النار أو المدفأة الكهربائية؟.. الأزهر للفتوى يجيب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 29-12-2025 في محافظة الأقصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فؤاد حجازي في "صهيل المحارم"
واقعية نقدية .. مبشرة ومحرضة

تكمن ملامح المبدع الحقيقي في قدرته علي التجاوز والعبور من مساحات الظل إلي فضاء الإبداع المبهر، من خلال ما يشتغل عليه من صياغات إبداعية جديدة، علي المستويين الشكلاني والمضموني، وهي تتوغل في مساحات الواقع الأكثر ظلاماً، فيغوص في مداخلها الضيقة كاشفاً عما يفسدها ويطفئ نور الحياة في جوانبها، وقد غرق مفسدوها في مستنقعات مصالحهم الخاصة، غير عابئين بما يدور حولهم، ولا يلتفتون إلي من يشاركهم تعب الحياة ونصب العمل والمتضررين جوعاً ومرضاً .
من هذا المنطلق، لا أكون مغالياً في شيء، إن قلت: إن المبدع، المثقف التقدمي (فؤاد حجازي) الذي انتصر بقلمه علي الفاسدين والمفسدين، وتفوق بإصراره علي تجاعيد الزمن، مصراً علي البقاء في المنصورة قلب الدلتا التي أنجبته واحداً من أهم مبدعيها، وأكثرهم اهتماماً بقضايا الوطن والإنسان، استطاع برؤيته النافذة، وقدرته الإبداعية المتقدة، أن يتصدر مبدعي زمنه: فأرسل قلمه حزمة ضوء تنير فاتنازيا الحياة، وهو يرجف الذاكرة ويفتح تلافيف العقل، يبث روح الأمل بأن مخاض الحياة.. الحلم.. وإن توقف، أو تأخر، فإنه قادم لا محالة، وهذا ما حاول أن يرصده في روايته ( صهيل المحارم) التي شكلت إحدي بشارات المستقبل، الذي أخرج القمقم من محبسه، ثائراً تقدمياً اشتغل بروح إيمانه، وثقة إبداعه علي تطهير الواقع من فساده ومفسديه.
والمبدع الفنان في روايته، يمارس لعبته الفنية المعروفة التي أصبحت علامة مميزة لشغله الإبداعي بصورة عامة، وهي الغوص في القاع الإجتماعي، حيث ينفض الغبار عن سلبياته ومتناقضاته، مشتغلاً علي أسلوب الواقعية النقدية لواقع معاش ينكأ مواجع الإنسان، ويرده هزيلاً، مريضاً، مستضعفاً .
ولعل وقفة صغيرة عند العنوان المراوغ (صهيل المحارم) تكشف كثيراً عن مفاتيح شغله علي الرواية.
يضعنا العنوان أمام معادلتين :
في المعادلة الاولي (صهيل) ودلالته واضحة ومعروفة، فالصهيل صوت الفرس، فما علاقته بالمعادلة الثانية (المحارم) جمع محرم والمحرم الذي حرمه الله علي المرأة من أخ أو عم أو خال، فهل يقصد المؤلف المحرم البشري الذي يصطحب أمه أو أخته في سفر ما أم نوعاً أخر من المحارم ؟
المؤلف لا يدعنا نغيب كثيراً في منحنيات الأسئلة والأجوبة فالقضية أبسط من ذلك، حيث أبدي بعض أعضاء مجلس المدينة أسفهم عن فضائح الحمير في الشوارع وهي تمارس الجنس جهاراً (حيث يتجمهر الناس، والنساء يدارين وجوهن خجلاً وبعضهن ينصرفن، والأولاد يضحكون ويتغامزون، والحوذي المنكوب عاجز عن فك الاشتباك بين حمارته وحمار حوذي آخر، وهذا التجمهر يعطل الناس عن الذهاب إلي أعمالهم، مما يتسبب في انخفاض الناتج المحلي، وفي عدم قضاء حاجات الناس، فضلاً عن تأثير هذه الفضائح علي الأخلاق العامة ص:48
ويدور نقاش حاد بين أعضاء المجتمعين لبحث هذه القضية المهمة، فيدلي كل منهم برأيه حسب اختصاصه: (قال مفتش الصحة: أحب أن ألفت الانتباه إلي النهيق الذي يتصاعد من الحمير، سواء بسبب منعها من مزاولة الجنس أو لسبب أخر.. وأنهم أدري مني بما يحدثه الضجيج من أثر علي الصحة العقلية) .
قال أحد الأعضاء، لابد من وجود محرم مع الحمارة، علق رئيس الرابطة (عريش عربات الكارو الصغيرة التي تجرها الحمير، مجهز لتعليق حيوان واحد، وليتعلق محرم في العربة التي تجرها حمارة، يستدعي الأمر تصنيع عربات جديدة، وفي هذا كلفة لا يقدر عليها أصحاب العربات.
قال عضو آخر: أقترح وضع كسوة علي الحمارة تحجب جسدها عن أي حمار مار .
قال رئيس اللجنة : لابد من وضع كسوة ايضاً علي الحمار، فربما كان فتنة لأي حمارة مارة، وإذا كان العضو الكريم اقترح وجود محرم مع الحمارة، فالعدالة تقتضي منا أن نقرر وجود محرمة مع الحمار طلب الطبيب الكلمة، فقال: وجود كسوة من عدمها لن تؤثر ، لأن الأمر مرتبط بغريزة تعبر عن نفسها.. حال نضوج الحيوان.
قال صاحب الاقتراح: نرفع توصية لمجلس المدينة لاستصدار قرار بمنع أي حمارة من العمل بعد النضوج .
قال رئيس الرابطة: سيتعطل من يملك حمارة علي العمل، قال اختصاصي علم نفس الحيوان: وقد يتسبب هذا في اكتئاب الحمارة، نظر رئيس اللجنة إلي الاختصاصي وقال: المحرم والكسوة، لن يضمنا عدم التهارش، فالحمار والحمارة يعبران عن مشاعرهما بصرف النظر عما يوضع فوقهما، وحتي الآن لم يتوصل العلم إلي وسيلة تمنع إظهار الود والألفة) ص: 49-50
وعندما يعجز المجتمعون عن إيجاد الحل المناسب لهذه المشكلة يطلب تأجيل مناقشة هذا البند، لإجراء مزيد من التشاور مع المختصين.
في هذا الاجتماع يضعنا المؤلف أمام مفاتيح العنوان ودلالته التي تتجاوز موضوع العلاقات الجنسية بين الحمير إلي آفاق أكثر بعد أن أفصحت عنها وبجرأة أدبية عُرف بها الأديب فؤاد حجازي الذي دخل بروايته إلي واقع محدد بناسه وعلاقاته ولكنه يملك آفاقاً رحبة وواسعة في الواقع الحياتي، وربما لم يدخله أحد من قبله بهذه الخصوصية، خصوصية ما يدور في مجلس المدينة الذي كان أحد العاملين فيه خلال فترة ماضية، فيكشف عن كثير من الممارسات الخاطئة في إدارات المجلس المختلفة، كإدارة تراخيص عربات الكارو والإدارة الصحية، وإدارة الإشغالات والمرور، مفسحاً للرؤي لدخول هذا العالم، والكشف عن طريقة تفكير العاملين فيه، وأساليب تعاملهم مع الناس وتجاوزاتهم لكثير من الأنظمة والقوانين من أجل مصالحهم الخاصة، مادياً ومعنوياً وحتي جنسيا.ً
وحتي يوغل الكشف في تجسيد العيوب، قسم الرواية إلي سبعة عشرة فصلاً، أعطي لكل فصل عنواناً كاشفاً ودالاً لمجريات أحداث الفصل نفسه، وهذه العناوين جاءت علي الشكل التالي :
1- الكشف . 2- الحملة .
3 النتيجة . 4- المذكرة .
5- زينة . 6- المواقف .
7- النهيق. 8- الصهيل.
9- النظرات. 10- الجودة.
11- المحرمة . 12- المتأخرات.
13- التأشيرة. 14- التحقيق .
15- الحجز. 16- الجوع .
17- الشوار .
والمؤلف في تقسيمه الرواية إلي فصول معنونة، يحاول أن يعطي لقلمه فرصة أكبر للتوغل الكاشف في مداخلات كل إدارة من إدارات مجلس المدينة، حيث تتوزع المواقف التي أفسحت مجالاً لنهوض الكوميديا السوداء التي تابعت خط دراما الرواية ونقلته عن طريق الفصول من مستوي إلي آخر من دون أن تبتعد أو تنفصل عن الهدف العام الذي اشتغل الروائي عليه، وهو الكشف الناقد لكل ما يجري داخل غرف مجلس المدينة من حالات كان معظم أبطالها الناس المستضعفين أصحاب عربات الكارو والتي تجرها الحمير، فهم الشغل الشاغل لموظفي المجلس، حيث تبدو شخصيات العاملين في تفتيش العربات والمسؤولين عن سجل العربات والحصول علي رخصها، وتعرفهم لمساءلات شرطة المرور ومخالفات الإدارة الصحية .
(ولاحت عربة كبيرة، محملة بصناديق ورقية، أغلب الظن تحوي زجاجات من زيت الطعام وصابوناً ويجرها حصان وحمار وتسير في اتجاه الخروج من المدينة .
رفع خضر يمناه حتي وقفت العربة، وقال: ينفع ؟ قال الحوذي وهو يناوله الرخصة: الحصان الثاني عنده إسهال ربت خضر بإحدي يديه علي رقبة الحمار، وقال: لا يجوز، قال الحوذي: مرتبط بمواعيد.
تطلع يونس القفطي إلي خضر وأغمض عينيه، وأطاح برأسه للخلف، فقال خضر : كأننا لم نرك مرة ثانية، قال الحوذي وهو يهرول أمام العربة، وقد وضع جلبابه في عبه: ابداً وشرفك ص:10
وفي موقف آخر ومن خلال مستوي سردي قائم علي الحوار تنهض قضية التراخيص : ( جلس إلي كرسي بجوار المكتب، وقال الرخصة باسم الولد
- كم عمره ؟
- إحدي عشرة سنة .
- يلزم حضوره للتحقيق من إجادته لقواعد المرور وآدابه .
- ضحك الرجل وقال : عسل ..
- اعملها باسمك، وناوله استمارة ليملأ بياناتها .
سأل الرجل : رقم الدراجة؟
رد خضر : في المبايعة .
- ليست معي .
- ترفق بملف الترخيص، وطلب من راشد الناوي أن يلقي نظرة علي الدراجة في الخارج، وسوف يجد الرقم محفوراً علي الكارو)، وفي لقطة أخري يتوقف الراوي عند مرض الحصان المصاب بإمساك وتتداخل الصور بين إمساك الحصان والخواجة الذي ينقب عن الآثار ورغبته في شراء العربة ( انفرد سالم به، لكنه لم يره، فقد زغللت الفلوس عينيه، نهض سالم، دعك ظهر الحصان وبطنه، أحضر (سلاميكي) للتليين، وقربه من فم الحصان، لوي رأسه فخايله، وأخذ يفرك مقدمة رأسه حتي حرك فمه، ويتداخل السرد في حكاياته الخاصة وتركة للمدرسة ليبقي الحصان بؤرة الحدث (أحس
باستسلام الحصان، فاقترب من رأسه، وبعد أن شطفه بكذا جردل من الماء، وعندما رعش الحصان جسده نافضاً ما علق به من قطرات أدرك أنه استرد عافيته، وتأكد من ذلك حين حمحم، وضرب بأحد قائميه الأماميين الهواء ص:37
وفي موقف آخر يطالعنا الراوي بكتاب يصل إلي رئيس مجلس المدينة برفع الظلم عن الحيوانات التي تجر العربات ما بين أحصنة وحمير، فالحصان يتحض به الفارس، والذي لا يجف له لبد تحت سرجه يسمي الحمار بصبره وقيل في المثل : فلان أصبر من حمار في الحرب وهكذا نري أن الخيل والحمير كانت دائماً في معرض الشجاعة والإقدام، والصبر علي مكاره الحرب.
ومنذ سنوات قليلة، فاز حمار مدينتنا بلقب أحسن حمار في العالم في المعرض الزراعي العالمي وأصبح مطلوباً من الجيوش التي تضطرها الظروف إلي خوض حرب في الجبال ذات المسالك الوعرة فحمارنا الوحيد القادر علي السير فيها محملاً بالمؤمن والعتاد.
أين هذا، مما نضعها فيه اليوم، نضعها في موقع الإهانة، وجر القمامة، يجرها الحيوان المسكين أمام المجازر والحظائر.
ونواصي الحارات، ويتحمل روائح كريهة، عفنة، لا يطيقها بشر أليس هذا حراماً .
نربأ بكم أن تتقوا الله في أنفسكم، وفيما ملكتم، وتعملوا علي رفع الإهانة عن الخيل والحمير، ونهيب بكم عدم الترخيص لعربات القمامة) ص:40
بمثل هذه الأساليب الساخرة والمرمزة ينتقل الراوي في فضاءات دوائر مجلس المدينة كاشفاً عن كثير من الحكايات السلبية التي ربطها لجزء يراه بعضهم غير مهم، بينما هي في الواقع عالم يرتبط بكثير من الأسر والحياة الاجتماعية المرتبطة بعربات الكارو وأحصنتها وحميرها ومن يعيش علي وارداتها والطلب إلي إيجاد مواقف لها) ص:44، ثم يحيلنا الراوي إلي مشهدين يحملان كثيراً من المعاني، مشهد النهيق التي اجتمعت لجنة الثقافة والإعلام من أجله)ص:48، ومشهد الصهيل وحاجة الحمير إلي الغذاء ص :58،59، ويأتي الموقف الأكثر سخرية والذي يشير إلي أن الله أحب المدينة (لأنه حباها بالأرقط فعنده القدرة لجر عدة عربات في شوارع مختلفة في وقت واحد، كما أكد كثير من شهود العيان، إلا أن التقنية المتوفرة لديهم حالياً، لا تمكنهم من تصنيع عربة حنطور تستطيع السير في عدة شوارع في وقت واحد) ص:73
ولا يغيب مرض الحمير والأحصنة وعلاقة ذلك بصاحبه كما حدث مع مرض حصان سالم، ص:78 ، وموعده مع آية، ص:79 وألا يسير الأرقط دون محرمة بجواره، ص: 80، وشكاوي المتأخرات، ص(84-86-87-89-90) ومرض الزوجة، ص(96،98) وفي التحقيق تنكشف كثير من الحقائق (لم يصدق نفسه حين واجهه المحقق بما جاء في أقوال راشد الناوي ننصحك بعدم قيد من سقطت تراخيصهم، ولما نفي ذلك عاجله) ولماذا قيدت أسماءهم في كشوف الصرف، فأجاب، ليحصل منهم المتعهد عند ذهابهم بصرف حصتهم علي الضريبة) ص:99، إلي آخر التحقيق الذي يكشف عن كثير من الممارسات الخاطئة التي نقلها المؤلف من الفضاء الواقعي الذي عاشه شاهداً مقرباً لكل ما حدث بحكم عمله في القطاع نفسه، ثم نقله إلي الفضاء الروائي متابعاً وكاشفاً وناقداً فاضحاً لمثل هذه الممارسات التي أساءت إلي الإنسان العادي البسيط الذي ارتبط رزقه بعربة بعجلتين يجرها حمار أو أربع عجلات يجرها حصانان ليقع وحيواناته تحت سلطة وسلطات رجال مجلس المدينة، يطاردنهم برزقهم ورخصهم وتحديد مواقفهم، مما جعل فصول الرواية بأحداثها السلبية، وشخصياتها التي أتقن المؤلف رسمها، وترسيمها من الخارج المظهري، والداخل النفسي متابعاً دورها بحساسية الفنان المرهف، مستغلاً تقانة أسلوبه الإبداعي، المنحاز دائماً إلي الحق والعدالة، وحتي يحقق الهدف كثيراً ما كان يميل إلي مزج الجد بالهزل، والسخرية البيضاء بالسوداء الموجعة والمؤلمة مما يثير المتلقي ويضعه أمام عينيه، فتدفعه الأحداث المؤلمة وما تفرزه من أضرار نفسية وربما جسدية إلي رفضها والثورة عليها، مشكلاً بذلك حالة متوقدة ومتوثبة من حالات الإبداع الناقد والمحرض، الذي لا يكتفي بالنقل التلغرافي، أو التصوير العادي، وإنما يدخل عمق الأحداث، ويتشابك معها، حتي يظهرها علي حقيقتها من دون مواربة، فيقف موقف الناقد الواعي والملتزم.
فقدم سرداً روائياً كاشفاً عن كواليس مما حدث في مجلس مدينته، فيجمع بين رؤية الفنان للواقع الذي يراه يشد المجتمع إلي الخلف، ويغرقه في أقبية الفساد والرشاوي والتسلط علي رقاب العباد، وصلابة المبدع المثقف الرافض لكل شكل من أشكال الظلم والتقشف وقد جمع الرؤيتين في وحدة نقاء الإنسان المصري وحكمته، وروعته في الشغل علي حياة أكثر حرية وتقدماً فكانت الواقعية النقدية قاسماً مشتركاً في معظم ما كتبه من قصص وروايات، التي لا هم لها سوي العمل علي طريق السرد المحرك وأساليبه المنبهة، وأفياء المقهورين وتوثيق الأزمنة التي عانت من فساد المسيطرين والمهيمنين ومن خلال المكان الذي غالباً ما تكون حدوده ضيقة في الفضاء الروائي، بينما هي أكثر اتساعاً وشمولية في الفضاء الواقعي الذي يأخذ من جوانبه المظلمة، فيغوص في أعماقها، مسلطاً ضوء إبداعه فتشع الزاوية الضيقة تنير المساحة الكلية، وبذلك تتضافر جهوده الإبداعية، وتتدفق مواقفه وهو يواجه واقعاً أسود ومظلماً لابد أن يخرج المتعبون منه علي فضاء الحياة الناهضة علي أعمدة الحق والعدالة، وهذا ما حققته رواية "صهيل المحارم"، فالصهيل صوت المظلومين المحرومين، وما المحارم إلا رمزاً يتجاوز الخيول والحمير وعلاقاتها الجنسية والتي تقود عربات الكارو وهي محارم المجتمع بأكمله وقد أهينت بفعل الفساد وممارسات الفاسدين وما مجلس المدينة إلا زاوية من زوايا المجتمع الكبير الذي لابد من تطهيره من كل ما يفسد الحياة، ولذلك كان لابد للصهيل أن يرتفع ويقوي حتي يتحقق العدل وتسود المساواه في كل شيء، ولذلك اشتغل فؤاد حجازي بإخلاص علي مشروعه الإبداعي، التقدمي، الذي هو بالأساس مشروع حياة فاضلة تنقل إنسانها الكادح إلي ضفاف أكثر أمناً وعدلاً وحرية، وكما قال عبد الفتاح عبدالرحمن في تقديمه للرواية نفسها (في صهيل المحارم لا يضع بقلمه فانتازيا تأثراً برجف الذاكرة، أو هجس النفوس إنه يقتطع من جسد الحياة ما هو مألوف، حتي يكاد لشدة ألفه يصبح عادياً، كوجه شائه من الإيلاف والرتابة .
فكيف حين يقدمه لنا، تقشعر منا الأبدان، وترتجف النفوس؟ فما لم نكن ندركه تحت طائلة الحاجة، والسعي في متطلبات لقمة العيش، أدركناه من خلال كتابات فؤاد حجازي التي هي دعوة بإطلاق صرخة للحياة مع كل من لم يخرجوا من مخاض الميلاد الجديد بعد. وإن من يضعون دينامية الأدب، يعرفون جيداً أن تسليط بقعة من الضوء علي مساحة مظلمة في حياة الإنسان تعتبر رغم ضآلة حجمها آية كبري من آيات الفن الخالد) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.