صهل الحصان ونبه العجوز لما يبيته لهما السائق لكنهما لم يتفاديا الاحتكاك به فاحتك بهما ومضي مسرعا والسائق ومن معه يضحكون بصوت عال ويصفقون الحصان الأول صرخ الواقفون يطلون من نوافذ البيوت المطلة علي الشارع ، والمرتكزون علي سور الشرفات ، وكذلك فعل السائرون علي أقدامهم بالطرقات أو الجالسون أمام متاجرهم ، الكل نادوا عليه قائلين: احذر وحاذر الحصان سيصطدم بك ويدهسك. أما الحصان فقد كان لونه أسودا غطيسا ولا شعرة واحدة فيه تشذ عن هذا اللون ، لا ذيله ولا شعر رقبته ولا حتي حوافره ، أما عيناه فلم يكن لهما لون يمكن تحديده ، لم ينتبه هو للنداء عليه ولا للصراخ لهذا لم يتمكن من تحاشي الاصطدام به فطار في الهواء وسقط فوق الأرض ، ولا قطرة دم واحدة انبثقت من جسده فترحم الناس عليه وتمنوا أن لا يكون مصيرهم كمصيره ، لكنه قاوم وقام وسار علي يديه وقدميه ، أما الحصان فقد تخلص من "عريش" العربة التي كان يجرها والمحملة بالزلط وطرح الأرسان عنه وأسقط اللجام وداس عليه .. سمع الناس صوتا كان آتيا إليهم من جهة الحصان الذي اختفي ولم يعد له أثر ، استطاع البعض ترجمة هذا الصوت إلي كلام ككلام البشر والكلام يقول: الذي يستحق أن يضع البردعة علي ظهره ويدخل اللجام فمه ويحيط بعينيه هم الناس. ثم وصل الناس كلاما جديدا فهموه كلهم: انتظروني كلكم فأنا عن قريب قادم لأفعل هذا. الحصان الثاني عبثا حاول أهل المدينة أن يروا حصانا آخر غير هذا الحصان ، لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل ، وارتبط هذا الحصان بالحنطور وأيضا بالحوذي العجوز إن ظهر أحدهما ظهر هذا الحصان ، فقال البعض أن السيد الوزير المحافظ أراد عامدا متعمدا عدم إلغاء رخصة هذا الحنطور ونبه علي رئيس وحدة المرور بمدينته أن لا يتعرض أحد من رجال المرور كبيرا كان أو صغيرا في الرتبة لها فهو معلم من معالم المدينة ، فاقتنع البعض بهذا القول ولم يقتنع البعض وقالوا: مدينتنا لا يزورها سائحون ، فكيف تكون معلما؟ وقال البعض ودافعوا عن قولهم هذا بإصرار غريب: أن الحنطور يذهب ويجيئ بأطفال بعض المسئولين الكبار منذ زمن بعيد أيام كانوا بدورهم في دور الحضانة وأيامها كان هذا الحصان في علم الغيب وكانت أمه رضيعا تسير بجوار أمها وهي تسحب نفس الحنطور ، حتي إذ انتهي أجل الجدة والأم حل محلهما هذا الحصان مكانهما إلي اليوم. تعددت الأقوال والروايات عن هذا الحصان حتي بلغت تسعة عشر حكاية وكلها تستحق أن تذكر وتسجل كميزة تتميز بها هذه المدينة لكن بقي الحصان يجر الحنطور يعتليه العجوز في زمن اندثر فيه الحنطور ، أما لون الحصان فكان بنيا فاتحا وشعره أصبح أبيضا بفعل الزمن ، وذيله أصبح قصيرا أما شعر رقبته الذي يحيط بها فقد كان ينقص يوميا ويتساقط ، وكان الحصان ينتقل من شارع لشارع دون أن يعترضه أحد من رجال المرور من كبار الضباط أو من جنودهم الصغار ، فالكل يعرف أنه حصان الحنطور الذي يركبه أبناء كبار المسئولين صغار السن ، والحصان سعيد بالأطفال الصغار الذين يركبون داخله وكانت سعادته تكون أكثر بكثير إن صادفته مجموعة من الصغار بملابسهم البالية ، فيتسابقون فيما بينهم ليلحق كل واحد منهم بالجلوس بعد أن "يتشعبطون" فوق الحديدة الواصلة بين العجلتين الخلفيتين والأكبر حجما من الأماميتين والتي لا تتسع لأكثر من أربعة منهم فيرفع من ركبوا أصواتهم بكلام ليغيظوا من لم يستطع الركوب بينما يجري من لا يتمكن من اعتلاء هذه الحديدة بصوت جماعي إلي ترديد: "كرباج ورا يا اسطي" ، "مغموس بويه يا اسطي" .. وشهادة حق أجمع أهل المدينة ولم يشذ عن هذا الإجماع أحد منهم أن الحصان كان ملتزما بتعاليم المرور فهو يسير دائما علي الجانب الأيمن في أي شارع وأي حارة ويعرف القواعد المرورية ، يقف دائما إن ظهرت إشارة حمراء ولا يتكاسل عن السير إن تحولت الإشارة خضراء ويستعد لمواصلة طريقه إن كانت صفراء ، وذات يوم وقبل أن تغطس الشمس استوقفه شرطي شكله ينبأ أنه غريب عن المدينة منقول إليها من مدينة أخري بعيدة فانصاع الحصان وتوقف واقتدي به الحوذي العجوز فأخبرهما أنه سيأخذهما إلي قسم المرور دون الحنطور إلا إن دفعا المخالفة المالية التي قدرها ولما كانت المخالفة كبيرة قال لهما: ليس أمامكما من سبيل إلا تسليم الرخصة وعندما تأتيان إلي وحدة المرور وتدفعا قيمتها تستردانها ، فهكذا تقول التعليمات. أخذ الشرطي الرخصة وحرر المخالفة وتركهما لينصرفا هز الحصان رأسه قائلا: علينا منذ هذه اللحظة أن نتوقع أن مضايقات الشرطة لن تنتهي. عقب الحوذي لحصانه العجوز الذي سقط الكثير من شعره مستفسرا: ما رأيك إن ذهبنا إلي الترعة فالجو اليوم شديد الحرارة؟ لم يعترض الحصان بل رحب بالفكرة فاتجها إليها وأسرع الحصان في مسيره لأنه كان متشوقا "لغطس" في ماء الترعة قبل الغروب ، وإذ وصلا إليها نزل الحصان أولا ثم تبعه الحوذي ثانيا بكامل ثيابه ، استغرقتهما النشوة من حلاوة الماء فأخذ الحوذي يجرف الماء بكفيه ويرش بها الحصان والحصان يبادله رش الماء برأسه وعنقه ، حتي أنهما لم ينتبها إلي أن الشمس قد اختفت وحل الظلام ولا قمر ينير المكان ولا نجمة ، فخرجا الاثنان من الماء وسارا معا عائدين إلي حجرتهما بالحي الفقير وساكنيه من الفقراء وهما يتذكران الأيام السعيدة التي قضياها معا ، فقابلهما "ميكروباص" تنبه الحصان أنه سيصطدم بهما عامدا كأن بينه وبينهما ثأرا ، صهل الحصان ونبه العجوز لما يبيته لهما السائق لكنهما لم يتفاديا الاحتكاك به فاحتك بهما ومضي مسرعا والسائق ومن معه يضحكون بصوت عال ويصفقون ، نظر الحصان حيث سقط صاحبه فرآه ساقطا مكوما علي أرض الشارع والدماء تنزف من جروحه وعيناه تنظران إليه مستنجدة فجاهد ليصل إلي صاحبه زحفا حتي وصل إليه فنظرا إلي بعضهما البعض ولم يتكلما.