«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كافكا والصفاء
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 12 - 2011

ويهب أصفياءه النوم. أين قرأت هذا؟ هيجل في أصول فلسفة الحق، بتخريج من الكتاب المقدس. كنتُ أتخيل أن النوم هو مَنْ يمنح الصفاء، لكنهم أصفياء من البداية، والنوم عطية أخري. حاولتُ مع القاموس. صفا صفواً وصفاءً، ويُقال صفا الماء ونحوه. طريد النوم المزمن، فرانز كافكا، محروم من الصفاء، ففي عرف كافكا النوم يهب الصفاء. رحم الله السيد لودفيك فِتجنشتاين الذي أرهب تاريخ الفلسفة الحديثة، وأرْهبني أيضاً، برياضيَّاته وأرقامه وكسورها، وأوقعنا، وأوقعني أيضاً، في الشرخ العميق بين الإشارة وما تشير إليه، واليوم لا أستطيع، كما في الماضي، الإشارة إلي فقرة كتبها السيد لودفيك فِتجنشتاين، يتهم فيها الأحمر بأنه اللون العابر في ذهنٍ يسمع كلمة أحمر، لكنَّ الأحمر ليس تفسيراً لجوهر الإشارة بواسطة كلمة. حرمت عيوننا نظرة الصفاء، كلمات للأم في
فيلم المومياء لشادي عبد السلام. باين الصفاء ده حكاية. تمطَّع أستاذ الفلسفة الساعة الثانية ظهراً في شتاء 1987 بسكشن بي في الدور الثالث، وتحنجَّل برشاقة سكولائية علي حبال الشناكل الصوتية، الفونتك يا جاهل، وقال بمتعة: لودفيك فِتجنشتاين. الإشارة وما تشير إليه، تلك هي المشكلة.
في قصة استعدادات حفل زفاف في قرية، لفرانز كافكا، يجتاز إدوارد رابون ممراً ضيقاً مفتوحاً من أعلي علي سماء واسعة واقية، وما أن فكَّر رابون في تعبير الوقاية، وهو الباحث الأبدي عن الوقاية تماماً مثل صانعه كافكا الذي تخيَّل يوماً أن عليه إذا أراد الخروج، حياكة ملابسه ونحت عصاته وتفصيل قبعته، وبعد هذا سيُفاجأ رغماً عنه في وسط الشارع بسقوط كل شيء عن جسمه، فيبقي هناك عارياً منبوذاً، إلا واحتدمتْ السحب وشرَّخ البرق أفقها وصوَّت الرعد في جنباتها، فقال بارداً لنفسه كما هي دائماً شخصيات كافكا: أنهايات ما أري هنا؟ خرج رابون من الممر الضيق إلي ساحة دائرية. كانت السماء تمطر الآن. علي الرصيف أمامه مباشرةً كانت هناك مجموعة من الأشخاص يمشون بإيقاعات مختلفة، وبين الحين والآخر يأخذ أحدهم خطوة شاذة إلي الأمام، ويُغيِّر مساره فجأةً، أو يٌعلق أحدهم قدمه في الهواء خائفاً من موطئ قدمه المستقبلي. تذكَّرتُ سريعاً قصة كافكا الأخري، التي تحمل عنواناً يبدو أنه كان عزيزاً علي قلب كافكا، طالما أنه عنوان يحوم حول الحيوان، القصة بعنوان تحريات كلب أو يوميات كلب، وفي تلك القصة تتعلق قدم من أقدام الكلب الأربعة في الهواء، خوفاً من شذوذ موطئ القدم، ولمَّا كان الخوف من شذوذ موطئ القدم، موسيقياً في تحريات كلب، فإنه أيضاً موسيقي في قصة استعدادات حفل زفاف في قرية، إلا الشذوذ الموسيقي لمجموعة الأشخاص في الساحة الدائرية يكاد يكون كارثياً، وهو مُعدي كما كان كلب واحد فقط يخرج عن انسجام النوتة الموسيقية، فأصبحتْ الكلاب جميعاً تتعثر في الموسيقي، بل هي في النهاية لا تعرف الموسيقي. تأكد الآن إدوارد رابون بأن ما تفعله مجموعة الأشخاص في الساحة الدائرية تحت المطر، لا ينتمي إلي شيء يُمكن تسميته بالمشي أو الوقوف، بل هو تحريك سيقان وأذرع خاو من المعني، فلا يعرف مَنْ يراه مضمون الرسالة الغامضة التي مع حدس وتخمين فائقين تبدو استغاثة. فتاة صغيرة تلاطف كلباً صغيراً بأن يصنع ما يعتقد رابون استحالة فهمه من قِبَل الإنسان أو الحيوان، وهما مملكتان يستطيع كافكا أن يمر بينهما كما يمر إدوارد رابون إلي الساحة الدائرية. رجلان نبيلان كانا يتبادلان معلومات، واحد يرفع كتفيه إلي أعلي، يرفعهما ويخفضهما بتزامن أحياناً، وكتفاً دون الآخر أحياناً أخري، والنبيل الثاني يستمع إلي النبيل الأول بوقار وانتباه، وكأنه يصرف النظر بوقاره وانتباهه عن حركات صديقه التي يبدو أنها تحقق له نوعاً من الراحة الجسدية. توقفتْ الأمطار، وكان بلاط الساحة البازلتي يلمع، وقد تجمعتْ في أماكن متفرقة منه مستنقعات ضحلة من المياه. وقع نظر رابون علي سيدة ترتدي قبعة مثقلة بشرائط ومشابك وورود، وكانت ترفع رأسها إلي السماء حريصةً علي سند القبعة بأطراف أصابعها، وكأنها الوحيدة وسط الساحة التي أدركتْ توقُّف الأمطار. مر من أمام رابون بسرعة شاب يحمل عصا رفيعة، علي الرغم من شلل يده اليسري المنبسطة في ضمور علي صدره. من حين لآخر رجال يتجمعون حول مستنقعات المطر النظيفة، يدخنون محدثين بذلك سحابة من الدخان تمتد
وتتطاول وتظهر واضحة للعيون بفعل الأضواء الآتية من المحلات المرشوقة علي محيط الساحة. ثلاثة من الجنتلمانات، اثنان منهما يحملان معطفين خفيفين علي ساعديهما، يمشي الثلاثة ذهاباً وإياباً علي حافة الرصيف الدائري المرتفع، الحامي، فيما يشبه، للمحلات التجارية من فوضي الساحة. أمام مجموعة من المحلات الخاصة بالمخبوزات الخفيفة والقهوة، يتوقف الجنتلمانات الثلاثة، يعطي واحد من حاملي المعطفين الخفيفين معطفه فجأةً إلي الجنتلمان الذي كان يتمتع إلي تلك اللحظة بطلاقة يديه، يتقبَّل الجنتلمان المعطف، وكأنه إلي الآن كان الجنتلمان الآخر يحمل خطأً معطفاً لا يعرف عنه شيئاً. قال إدوارد رابون لنفسه وللمرة الثانية: أنهايات ما أري هنا؟ هناك عربات بعجلات رقيقة وعالية تجرها خيول بأعناق تلعاء إذا أرخي لها قائد الحنطور زمامها، وبأعناق مقوسة إذا شدَّ لها قائد الحنطور زمامها. كانت الحناطير تدورعلي محيط الساحة بسرعات متفاوتة قريبة جداً من أسفل الرصيف الدائري، وكانت عجلاتها الخشبية مُدعَّمة بأقواس من الحديد تحتك عند السرعات الحرجة بحجارة الرصيف الصلبة، فيتطاير شرر من قوة الاحتكاك. علي المقاعد المنجَّدة داخل الحناطير أشخاص يحدقون بصمت في المارة والمحلات التجارية. يحدث أن إحدي العربات تتجاوز عربة أخري، ويحدث أن تتجاور أعناق الخيول، وتدفع بعضها بعضاً، فيما يشبه غزلاً عنيفاً مصحوباً بصهيل مرتفع، فيشد قائد العربة بقوة علي شكيمة الحصان، فتظهر أسنان فكيه مفصولة بحديدة الشكيمة، وتسيل ريالته في الحال، وتتقوس عنقه، ويصرخ صهيله، ويرتفع بقدميه الأماميتين في الهواء، وأخيراً يُجهض قائد العربة ثورة الحصان. يعود المطر إلي السقوط. تحتمي السيدة المثقلة بشرائطها ومشابكها وورودها تحت تندة محلٍ للملابس، تتأمل حذاءها الذي ناله البلل، تصطدم نظرتها برابون، تبتسم له، يرد لها الابتسامة. كانت ابتسامتها فاترة. علي كل حال، فكَّر رابون، ربما كانت تريد فقط أن تنظر إلي لافتة محل المخبوزات خلف كتفيه. اعتقد رابون أن الدهشة علي وجهها قد تزول لو استطاع أن يروي لها قصة كاملة. عندما يعمل شخص ما بشكل محموم في مكتب، سيصبح حتماً متعباً لدرجة تمنعه من الاستمتاع بأجازته، ولكن حتي لو كان هذا العناء المضني من العمل شفيعاً بأن يُعامَل بمودة من قِبَل الآخرين، فإن هذا الشخص الما لن يضمن تلك المُعامَلة، بل علي العكس، شخص ما وحيد، غريب الأطوار، هو مجرد موضوع للفضول، وطالما أنكَ تقول: شخص ما بدلاً من أنا، فليس هناك مشكلة، ويستطيع الشخص الما هذا من أن يروي القصة بسهولة، ولكن بمجرد أن تعترف أن هذا هو أنتَ نفسكَ، ستشعر كما لو أنكَ مشلول أو مذعور. وضع إدوارد رابون حقيبته المغطاة بالقماش المتعدد الألوان إلي الأسفل، وهو يحني ركبتيه ليقوم بذلك. كانت مياه الأمطار تنسرب بصوت مسموع أسفل رصيف الساحة الدائري، ذاهبةً إلي بالوعات من الحديد الزهر الغليظ. تخيَّل رابون وهو منوَّم بصوت خرير المياه المنسربة، والنظرة إلي سياج البالوعة، أن قبضتين إنسانيتين تتشبثان بسياج البالوعة، ووجهاً تلتصق شفتيه بالسياج، والصرخة من أسفل إلي أعلي تصطدم بوجهه. ولكن إذا كنتُ أنا نفسي أفرِّق بين شخص ما وأنا، فكيف أجرؤ علي الشكوي من الآخرين؟ من المحتمل أنهم ليسوا ظالمين، ولكنني متعب من احتمال كل هذا. أنا حتي متعب لأنني أدور هنا في الساحة.
أنا حتي متعب لأن أمشي علي طول طريق المحطة دون جهد يٌذكر. حدَّث رابون بطل استعدادات لحفل زفاف، نفسه، وعلي طريقة كافكا ينفي رابون عن نفسه بحسم، الجهد القليل، ليترك لنا استحالة تصور جهود شاقة يبذلها هو نفسه لسعادته الشخصية. المحطة علي بعد مسافة قصيرة. إذن لماذا لا أمكث تلك العطلة في المدينة حتي أتعافي؟ أنا غير عقلاني. الرحلة ستمرضني حتماً، أنا أعرف هذا. غرفتي لن تكون مريحة بما فيه الكفاية، ونحن في النصف الأول من فبراير، والجو هناك بارد جداً. بالطبع أخذتُ احتياطاتي من الملابس، ولكنني سأكون مضطراً لمشاركة الناس عندما يذهبون للتمشية في وقت متأخر من الليل. يوجد الكثير من البِرَك هناك، مما يضطر شخص ما لأن يمشي بطول تلك البِرَك. بكل تأكيد هذا هو المكان الذي سأصاب فيه ببرد شديد. من ناحية أخري يجب أن أفتعل محادثة ولو قليلاً. لن أكون قادراً علي المقارنة بين بِرْكة وأخري في الساحة الدائرية، ولا بين بِرَك الساحة هنا وبِرَك بلاد نائية، فأنا لم أسافر أبداً، والكلام عن القمر المُقاتل بضوء مسلول جحافل براثن السحب، والشعور بنعيم الصحة البدنية، ونشوة الصعود الاجتماعي، أصبحتُ كبيراً عليه، إلا إذا كنت أسخر منه. الناس يمرون برؤوس منحنية، يحملون فوقهم مظلات. مرَّتْ عربة حنطور، علي المقعد الخلفي يجلس رجل بقدم ممدودة عن آخرها داخل العربة، والقدم الثانية مُتدلية خارج العربة تلمس أرض الساحة، بحيث يصنع بكعب حذائه وهم فرملة عابثة أحياناً، وأحياناً أخري يرفع قدمه في الهواء ويهبط بكعبه هبوطاً سريعاً علي أرض الساحة، صانعاً وهم زيادة سرعة العربة. يمسك السائق لجام العربة بانتباه. دارت العربة في طريقها بأمان. كان الحديد الواقي لعجلاتها الخشبية يحتك بسفل الرصيف العالي، وعلي الرغم من أثر الأمطار، إلا أن الشرر المتطاير من احتكاك عجلات العربة بحجارة الرصيف الصلبة، يلحظه شخص في حلبة الساحة، وآخر علي رصيف الساحة. للحظة عذَّب الجهل عقل رابون، لأن دوار الساحة جعله يخلط بين قدمي رجل العربة، القدم اليمني هي المتدلية خارج العربة أم اليسري؟ انزلق حصان عربة حنطور أخري علي قدميه الأماميتين. كان صوت حدوتي الحصان الحديدتين علي بازلت الساحة يخطف دقَّات قلب ضعيف. حاول سائق العربة بعد نزوله رفع الحصان من رقبته وصدره، والحصان يهمُّ مع صاحبه، ثم ينزلق مرةً ثانية. لمح رابون لمعة حديد الحدوة، وقدَّر أنها جديدة ، لم يعتد عليها الحصان بعد، وربما كان الرجل بساقه المتدلية من عربة الحنطور يزهو بكعب حذائه الجديد. ولد صغير يمشي بجوار سيدة قرب بوابة الساحة، وكان مُثاراً بجلطة ركبتي الحصان، والمطر الهاطل الآن، فأخذ يجري إلي بوابة الساحة، وهو يلاحق بعينيه المطر، وكأنه يجري إلي بوابة الساحة ليعانق هناك غزارة المطر. كان يقفز لأعلي في الهواء حتي يعانق أكبر كمية من الماء، بينما الأشخاص يمشون بحذر شديد علي حدود بِرَك الماء. نادته السيدة، وأمسكت بيده التي لن تتركها من الآن فصاعداً، فاقترب من البكاء. قال رابون في نفسه بين السؤال والتقرير: أصبح الوقت متأخراً. خلع ساعته عن معصمه بسرعة، لأنها بدتْ له غير ملائمة، لكنه لا يعرف إن كانت تشير إلي الوقت إشارة صحيحة، وسأل بانفعال شخصاً كان قريباً منه عن الوقت، وكأنه حريص علي ضبط ساعته في التو واللحظة، لكنه ما أن عرف الوقت، إلا وصنع برأسه وملامح وجهه، تعبيراً عن فقدان لن يدركه حتي إذا الوقت قبل الآن بكثير أو قليل أو بعد الآن بقليل أو كثير. وضع ساعته دون النظر فيها أو ضبطها في جيب معطفه، ورفع مظلته والتقط حقيبته. لكنه عندما كان علي وشك أن يخطو خطوات إلي بوابة الساحة، اعترض طريقه مجموعة من النساء في عجلة من أمرهم مما جعله يستسمحهن في أن يمر أولاً، وأثناء قيامه بذلك نظر إلي وجه واحدة منهن، وأخذ دون إرادة منه أو رغبة، يُذكِّر نفسه بهذا الوجه، وكانت تلك الذكري شاقةً عليه قليلاً، وألهته عن الاتجاه الذي رغب في أن يتبعه. قال: من الآن لا يجب عليّ أن أجهد نفسي ولو قليلاً، فحقيبتي الصغيرة ليست بالخفيفة، والرياح تهب تجاهي مباشرةً، جاعلةً معطفي يرفرف ورائي، ومظلتي تنثني، لتشدني للخلف. كان عليه أن يتنفس بعمق. بدا لرابون أنه سيمر بوقت سيئ طويل خلال أسبوعين قادمين. يمكنك القول: إنها فترة محدودة، وحتي لو نما الإزعاج بشكل أكبر من أي وقت مضي، ومع ذلك تحمل الأوقات التي يجبر الشخص نفسه علي تحملها مُكافأة زوالها فجأةً في اللحظة الأخيرة فقط بعد طول مُراقبتها. سيحاولون تعذيبي، سيحتلون كل الفراغ حولي، سينسحبون بعيداً عني تدريجياً، وبشكل نهائي، بفعل المرور الرحيم لتلك الأيام، حتي دون اضطراري لمساعدتهم علي ذلك، وسيحدث ذلك كما لو أنه أمر طبيعي تماماً. أستطيع أن أكون ضعيفاً وهادئاً، وأسمح بحدوث كل شيء لي، بالتالي سيصبح كل شيء علي ما يرام خلال الواقع المجرد لمرور الأيام. وفيما عدا هذا أستطيع أن أفعل ذلك بالطريقة التي اعتدتُ أن أفعلها بها، عندما كنتُ طفلاً صغيراً، مهما كان الخطر. أنا حتي لست في احتياج إلي أن أذهب هناك بنفسي، فهذا ليس ضرورياً بالمرة، سأرسل فقط جسمي، وإذا ترنَّح خارج باب غرفتي، فلن يدل هذا الترنُّح علي الخوف، بل علي العدم، ولا هي علامة علي الإثارة إذا تعثَّر ذلك الجسم علي السلالم. لو سافر وحده، ينشج كما تفعل الأجسام، وهناك يأكل عشاءه. أما بالنسبة لي أنا نفسي في تلك الأثناء، فسأرقد في سريري، وألتحف بلحاف أصفر مكشوفاً للهواء الآتي من نافذة الغرفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.