اسمع يا خليل.. حكايتي مع سلمي بسيطة، في غاية البساطة، لكنني لم أنسها بسهولة. تخيل أنك تمشي في الشارع، ثم فجأة يظهر أمامك صندوق كرتوني كبير، ويُفتح من تلقاء نفسه وتنطلق منه أشياء سحرية وحدك تراها، مظلة تعزف ألحانا ثم تطير في السماء، قزم يرقص وهو يرتدي قبعة حمراء، تنين مجنح يطلق النيران من فمه، جنية لطيفة تحلق علي مستوي بصرك، فتحول غبار المدينة إلي ألوان قوس قزح، تحيل الشوارع المزدحمة والقذرة إلي شوارع يتجمهر فيها الناس ببهجة كما لو أنهم يستعدون لكرنفال. كان عبور سلمي في حياتي يشبه هذه التفاصيل، مع الفارق، أني التقيت في عالمها مع »مسرور« سياف »ألف ليلة وليلة«.. أنت لا تصدقني، لكن هذا ما حدث بالفعل، إذ بعد لقائي إياها بساعات ذهبنا إلي بيتها، وهناك فوجئت بوجوده، صاحب جسد ضخم، أسود، مفتول العضلات، يلعب بجنزير ثقيل من الحديد. سأحكي القصة من البداية.. في نهار مثل كل الأيام، المملة، الروتينية، المتشابهة، التي تبتلع عمري، استيقظت وفعلت ما أفعله كل يوم، تلك التفاصيل تبدو لي ثقيلة جدًّا، الاغتسال الصباحي، تنظيف أسناني، تسريح شعري، ارتداء ثياب نظيفة، تناول الطعام والذهاب لوظيفتي التي مضي علي وجودي بها أكثر من ربع القرن؛ إحساسي بثقل التفاصيل منحني إجابات عن أسئلتي عن خروج الناس من بيوتهم في هيئات مزرية، لأول مرة غمرني تعاطف حقيقي نحو هؤلاء الذين أصابتهم لعنة الملل مثلي، والتساؤل عن جدوي التمسك بالتفاصيل اليومية الروتينية البسيطة لمواصلة الحياة. في ذلك اليوم، أخذت معي دفتري الذي أكتب عليه سيناريو فيلمي الجديد. كلما شاهدتني زوجتي وأنا استعد للخروج من البيت أحمل الدفتر في يدي، نظرت إليّ تلك النظرة الساخرة التي أعرفها. هذه المرة كانت تكوي قميصي الأبيض، المكواة في يدها اليمني، ترتدي ثوب نوم خفيفًا ومن دون أكمام، قلت في سري إن موهبتها في التمثيل جيدة، لكنها مثلي لم يحالفها الحظ، كنت أعرف أنها تقول في سرها إنني السبب في فشلها، منذ أن أدت دور البطولة في الفيلم الأول الذي كتبت قصته، وفشل فشلًا ذريعًا. بعد ذلك توارت زوجتي عن الشاشة، وحين أقول توارت أعني أنها اختفت فعليًا، أنجبت طفلين وأنهت علاقتها بالعالم الفني، وتركتني وحدي أعيش أحلام كتابة فيلم يعيدني إلي دائرة الضوء. آه، صحيح، يجب أن أكون دقيقًا في تعبيراتي، لم أكن في دائرة الضوء كي أعود إليها.. المهم يا خليل، سأعود إلي حكاية سلمي، في هذا اليوم الممل مثل سائر الأيام، كنت أتوجه إلي عملي، ركبت المترو، ونزلت في محطة العتبة، ومشيت إلي شارع شريف، في هذا الصباح الصيفي اللطيف رأيت مشاجرة في إحدي زوايا الشارع، كان هناك ثلاثة شباب وفتاة، يدور بينهم عراك لا أعرف سببه، لكنه أثار فضولي لمعرفة أسبابه. أنا لست ذاك الشاب القادر علي التدخل لمواجهة شباب يعاكسون فتاة في الشارع، الأمر ليس كذلك، لكن من وسط بؤرة الظلام أو الزحام، كانت عيناها تلمعان وتتوسلان كي أقترب، كانت علي وشك أن تناديني باسمي، أو هذا ما تخيلته، لذا اقتربت، عبرت الجموع واتجهت نحو الفتاة، سحبتها من يدها وأنا أقول: »بْعِدْ انْتَ وهُوّا«، كان في صوتي لحظتها، قوة جبارة، حاسمة، هل تعرف تلك القوة التي تأتي إليك فجأة مثل قبس نور من إله غامض، فتجعلك مهابًا في أعين الجميع، كما لو أنني هرقل، أو شمشون الجبار، اتسعت الدائرة وعبرت أنا وهي مثل ملك وأميرة، أي والله.. كان اللغط يدور خلف ظهري، يشبه التحليلات الفلسفية بعد حدث كبير، لكن هذا التفصيل هامشي ومجرد استكمال للصورة، الحدث سيكتمل حين أقول لها: » ما رأيك لو نجلس هنا؟«. كنت أشير بيدي نحو مطعم فاخر، يقدم قهوة وإفطارًا لذيذًا عند الصباح، وقائمته مزدحمة بوجبات لحوم ودجاج عند الظهر وفي المساء. حين جلسنا في المقهي، طلبت هي بيكاتا بالمشروم، آه فعلًا هذا ما حدث.. » بيكاتا علي الصبح«، هكذا قال الجارسون مندهشًا من الطلب، ردت عليه سلمي بقوة: »آه الصبح.. وانت مالك؟«. عاد الجارسون بعد أقل من الساعة، وضع أمامها طبق بيكاتا بالمشروم والأرز، كنت حينها أشرب قهوتي، وأحكي لها عن الفيلم الذي أنوي كتابته. لم يبدُ أنها مهتمة بما أقول، كانت تأكل بنهم، بدا لي أنها جائعة جدًّا، ورغم هذا لم تكمل الطبق كله، ونادت الجارسون وطلبت أن يضع لها ما تبقي منه في علبة بلاستيكية. لم تحكِ عن الحدث الذي أدي لتعارفنا، الشباب الثلاثة الذين اجتمعوا حولها وحاولوا التحرش بها في أحد الشوارع الجانبية، بل غيرت مجري الحديث حين حاولت معرفة إن كانت تعرفهم، أو أن كل ما حدث مجرد صدفة.كل ما قالته لي: » هذا يحدث معي دائما«. جملة مبهمة لم تضف عليها أي توضيح، ما الذي يحدث معها دائمًا، التحرش؟ أم لقاء شخص غريب مثلي؟ قامت إلي الحمام، تمليت من قوامها المعتدل الأميل للطول، كانت بيضاء تلك الدرجة من لون البشرة القشدي، شعرها طويل فاحم السواد. عيناها السوداوان ذكرتاني بشطر بيت الشعر القائل: »الوجه مثل الصبح مبيض.. والشعر مثل الليل مسود«.. وجنتاها مرتفعتان، وذقنها رقيق، شفتها السفلي وردية وتتدلي قليلًا إلي أسفل. كانت ترتدي بنطلونًا من الجينز الضيق، وبلوزة ذات لون برتقالي شاحب، وهي عائدة كان نهداها يرتجان مع كل خطوة، خمنت أنها ترتدي حمالة صدر رخوة، تجعل ثدييها يتقافزان. لم تكن قد تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها، علي ما أظن، وكنت قد تجاوزت الخمسين بكثير من الأعوام. كيف أشرح لك يا خليل.. سلمي لديها تلك الطلة الملكية، ربما هي ليست فاتنة الفاتنات، لكنها تمتلك نظرة مترفعة تتحدي العالم بسخرية واضحة، لكن ليس هذا هو المهم فقط، سلمي خلقت في داخلي حالة من الفرح، أنا عاجز عن الشرح، أو الوصف بدقة لما حدث معي، لكن دعني أكن محددًا، كي لا يلتبس عليك الأمر، لا، ليس الحب ما أعنيه، ولا الرغبة، هذا لا يعني أنني لم أرغب بها، بل علي العكس هذا كان متاحًا منذ الساعات الأولي، بعد أن غادرنا المقهي قالت لي بوضوح: »أنا تحت أمرك«، جملة غامضة نوعًا ما، ممكن أخذها علي أكثر من وجه، لكنني ابتسمت وقلت لها، إن لدي رغبة بالمشي علي كورنيش النيل، رحبت بالفكرة وسرنا معا لمدة ساعتين. لم أعرض عليها أن نترافق للسرير لأسباب نفسية تتعلق بطقوسي فيما يتعلق بالجنس، أي: أمن المكان ونظافته. فكرت أين سأذهب معها؟ وأين سأكون علي راحتي، أنا لا أحب ممارسة الجنس إلا في بيتي، حتي علاقاتي وخياناتي الزوجية قمت بها في غرفتي، خليل.. أنت رجل وتدرك أن الجنس والخوف لا يجتمعان، في المرات التي حاولت فيها ممارسة الجنس في أماكن أخري غير بيتي، فشلت فشلًا ذريعًا، لكن يبدو أن الأمر يتعلق بتجاربي الأولي مع الفنادق الرخيصة، وما حدث بها من فضائح. لا أريد الخوض في الماضي الآن، سأعود إلي حكايتي مع سلمي وأوضح أن السبب الأول في تفضيلي المشي علي الجنس هو عدم توافر مكان آمن، زوجتي لن تذهب للمبيت عند أمها كما يحدث مرتين في الأسبوع، هذا لن يحدث إلا بعد يومين، وعليّ الانتظار إذن، والحفاظ علي علاقة جيدة مع سلمي. لا أستطيع الجزم بأن سلمي بائعة هوي، أخبرتني أنها تعمل سكرتيرة في شركة، وأنها تدرس في الجامعة المفتوحة، ضحكت وهي تخبرني عن دراستها، أبديت تعجبي، حينها قطبت حاجبيها واعتبرت أنني أستهزئ بها. لم أذهب للعمل في ذاك اليوم، أنا موظف حكومة ولديّ فائض من الإجازات. سأستفيد من كل تلك الإجازات في نزهات مثيرة مع سلمي أعيد فيها اكتشاف القاهرة من جديد.. تجولنا في شوارع وسط البلد، وأمسكت سلمي بذراعي ونحن نعبر الشارع، وفي كل مرة كنا نضحك كثيرًا. ثم تناولنا الآيس كريم من محل العبد، كانت سعيدة، وكنت سعيدًا، وفي آخر اليوم، كان علي كل منا أن يعود لعالمه، لكنني لم أقوَ علي فراقها قبل أن أتيقن من رؤيتها من جديد.. هل هذه حماقة، آه ربما! رفضت سلمي في البداية أن أمضي معها لأعرف أين تسكن، أعطيتها مبلغًا من المال قبل أن تغادرني، وضغطت علي يدها في شبه توسل كي أوصلها إلي بيتها. صعدتُ معها في المترو، ثم نزلنا في محطة «الجيزة»، ثم ركبنا »ميكروباص« مضي بنا في مجاهل لم أرها في حياتي، وبعد أن نزلنا من الميكروباص ركبنا في توك توك، ثم بعد نزولنا من التوك توك أخبرتني سلمي أن علينا المشي قليلًا وسط طريق ترابي ومتعرج، مليء بالحفر، وعلي جانبيه بيوت متلاصقة بشكل عشوائي. إنه عالم جديد بالنسبة إليّ، بدت لي سلمي في تلك اللحظة مثل وردة ملقاة في القمامة، وبدا لي الصندوق الكرتوني الذي انفتح في وجهي صباحًا، أشبه بصندوق حديدي يصدر غازات سامة. تحسست دفتري الذي أكتب فيه سيناريو الفيلم الجديد، حسنًا، ها أنا أمام حكاية واقعية، لا بأس، ربما يأتي كُتاب السيناريو إلي هذه العوالم كي يستوحوا منها قصصًا لأعمالهم. بيت سلمي عبارة عن ثلاث غرف متلاصقة مثل عنابر السجن، لا توجد فيه كهرباء، ولا ماء. كل شيء فيه ملفوظ إلي الخارج، حتي أطباق الألومنيوم والأواني المحروقة التي يطهون فيها طعامهم متروكة أمام باب البيت. لا أستطيع وصف والدة سلمي بدقة، من الممكن للكاميرا أن تنقل لك صورة تلك المرأة، لكن لغتي لا تسعفني. حسنًا يا خليل، دعني اختصر عليك، والدة سلمي عاهرة سابقة، باترونة حالية، شيء من هذا القبيل، حين شاهدتنا نقترب، كانت تجلس علي مصطبة البيت، ترتدي قميص نوم وشعرها منكوش، في يدها سيجارة، أسنانها متآكلة ومنخورة، بدأت أحس بالخوف حينها، من غير المعقول لهذا الكائن البشع أن ينجب ذاك الكائن البديع، نقلت بصري بين سلمي وأمها، في الحقيقة كان هناك شبه في عظام الوجه وتدلي الشفة السفلي، بادرت بالصراخ في وجهها: »جايبة مين معاكي النهاردة؟«، لم ترد سلمي، ألقت في حضن العجوز علبة سجائر سحبتها من جيب بنطالها الجينز، ثم مضت وهي تشدني من يدي نحو الداخل.. هل وقعت في عصابة؟ لكنني لم أرغب بالفرار، كنت أحس بخدر لذيذ. سحبتني سلمي إلي إحدي الغرف، اقتربت مني وحاولت فك أزرار قميصي. - لا.. لا، ليس الآن. بدت مندهشة لرفضي، هي لا تعرف لمَ أتيت معها إذن، ولمَ أعطيتها المال. قلت لها: » يوم الخميس عندي في البيت«. هزت برأسها إشارة بالموافقة، قادتني من يدي لأغادر المكان. في الخارج كان يوجد رجل أسود ضخم الجثة يشبه السياف مسرور في »ألف ليلة وليلة«، لا أدري، أحسست بأنني رأيته من قبل، هل كان ضمن الذين تشاجرت معهم سلمي في الصباح؟ لم أتمكن من الجزم بالأمر، أشياء كثيرة تخيل إليّ منذ هذا الصباح. اعترض مسرور طريقنا، وهو يلوح بيديه بجنزير حديدي ضخم، كان علي وجهه أمارات شر وشراسة لا تخطؤها العين. قالت سلمي، إن هذا أخوها الأكبر. اقتربت منه وهمست في أذنه بكلمات لم أسمعها. مشيت معي في الطريق الترابي، وركبت التوك توك معي أيضًا، ثم رافقتني إلي الميكروباص، حينها رفضت أن ترافقني أكثر وطلبت منها العودة إلي بيتها. خليل.. الحياة مملة بعد الخمسين أليس كذلك؟ لا، لم ألتقِ مع سلمي مرة أخري، أعطتني رقم هاتف لا يجيب. ومن المستحيل أن أعرف طريق بيتها من جديد، كما أنه من المستحيل أن يتكرر اليوم الواحد مرتين. مجموعة قصصية بعنوان " بئر ستوكهولم" تصدر قريباًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً