كيف تشتبك آليات إنتاج المعرفة بالتحولات التي شهدتها الدولة المصرية وعلاقتها بالمجتمع. هذا هو موضوع رسالة الدكتوراه التي تعدها الباحثة ملك لبيب في جامعة إكس بجنوب فرنسا، وبالأخص في سياق الاحتلال الإنجليزي لمصر. تعمل ملك بالأساس علي تاريخ تطور الإحصاء والمعرفة الاجتماعية في فترة الاستعمار الإنجليزي، من الربع الأخير للقرن التاسع عشر وحتي عام 1922. نقطة الانطلاق في رسالتها للدكتوراه كانت الإحصاء ثم بدأت تهتم بأشكال المعرفة المرتبطة بها، مع تأثرات بميشيل فوكو وتيموثي ميتشل. تعمل ملك علي أنسنة التاريخ، وتخليصه من هالة القداسة التي تصاحبه كلما ثار الحديث عن "الوطنية"، و"الاستقلال"، وغيرها من المفاهيم المجردة، لتجعله أكثر واقعية وأكثر قابلية للفهم. فيما يلي هذا الحوار معها. كيف بدأت التفكير في فكرة رسالة الدكتوراه؟ في الجامعة قرأت أعمال ميشيل فوكو، وبالتحديد سلسلة المحاضرات التي ألقاها في نهاية السبعينيات بالكوليج دي فرانس، وأثر هذا علي نوعية الأسئلة التي تشغلني. درست في البداية العلوم السياسية ثم اتجهت للتاريخ فيما بعد، ومن خلال قراءتي للتاريخ وصلني انطباع أن نوع التأريخ المهيمن في مصر هو التاريخ الاقتصادي الاجتماعي، ويتم فيه استخدام الإحصاءات والتصنيفات بكثافة ولكن ليس بشكل نقدي، كأنها موجودة بشكل طبيعي وليست مصنوعة، بينما نشأة علم الإحصاء لها علاقة بآليات الهيمنة والحكم، ومن المفارقات أن علم الإحصاء في إنجلترا قبل تسميته بهذا الاسم، كان يسمي "علم الحساب السياسي". وقرأت طبعاً تيموثي ميتشل وهو واحد ممن بدأوا العمل علي موضوع "حكم الخبراء" وكان لديه في كتابه هذا فصل عن الإحصاء، ولكنه لم يكتب دراسة معمقة عن تاريخ الإحصاء. في نفس الوقت اتجهت كتابة التاريخ في أوروبا في العشرين عاماً الأخيرة للتاريخ الثقافي، ومن الموضوعات البارزة في هذا الموضوع تاريخ المعرفة، وأجريت دراسات كثيرة فيما يخص الهند، عن علاقة الاستعمار البريطاني بالتعداد مثلا، والعلاقة بين المعرفة المحلية هناك والمعرفة التي جاءت مع الاستعمار. هذا لم يحدث فيما يخص مصر لأسباب لها علاقة بشكل كتابة التاريخ المصري، ولأسباب موضوعية، منها أن مدة حكم الاستعمار في مصر ودرجة تغلغله في المجتمع كانا أقل من نظيره في الهند. التعداد في الهند مثلاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان عنصراً مهماً من أجل إحكام السيطرة علي المجتمع الهندي، أما في مصر فلم يكن البريطانيون أول من قاموا بالتعداد أصلاً. كانت هناك معرفة إحصائية قبل دخول الإنجليز مصر، فأول تعداد تم إجراؤه في مصر كان في عام 1848، وكان يشمل الدين والجنس وكان هناك تقسيم علي أساس المهنة والجنسية أيضاً.المهم في الحالة المصرية أنه كانت هناك معرفة إحصائية قبل الاستعمار، وكانت جزءا من بناء الدولة. وعندما بدأت أزمة الدين في الظهور في عهد الخديو إسماعيل استتبع هذا وجود نظم معلومات معقدة وإنشاء قواعد بيانات حول موارد الدولة، كما كانت هناك إحصاءات لها علاقة بالصحة في الثلاثينيات والأربعينيات، وهذا كان مرتبطا بتسجيل المواليد والوفيات. في هذه الحالة، كيف تبدو أشكال الإحصاء التي أدخلها الأوروبيون إذن؟ بدأ دخول الأوروبيين مصر عن طريق أزمة الدين في عهد الخديو إسماعيل، في النصف الثاني من السبعينيات، وبالتالي فقد كان الأساس هو تكوين معرفة بالموارد المصرية وليس بالسكان. من النصف الثاني من السبعينيات بدأت تقام لجان استقصائية لإحصاء الموارد المختلفة في مصر. الأزمة الكبيرة كانت حساب متوسط ميزانية الدولة، فقد كان هناك تباين كبير بين العام والآخر حول إيرادات الحكومة. وبالتالي ثار سؤالان، أولهما عن مصادر الإيرادات المختلفة للدولة والثاني عن قدر الضغط الممكن علي الدولة لتسديد الديون. لا ننسي أن اللجان الاستقصائية كانت مكونة من ممثلين حكوميين عن الدول الأوروبية بالإضافة لممثلين عن البنوك الأوروبية، كانت هناك تشبيكة مصالح اقتصادية وسياسية إذن. وبدأت تأتي لجان أوروبية لمصر وتقيم الوضع المالي وهذا كان بداية لإنتاج المعرفة. يكتسب هذا أهميته علي ضوء معلومة أنه في هذه الفترة بدات تتبلور حركة سياسية ووطنية من خلال مجلس شوري النواب. وبدأ يصبح هناك خطاب حول أحقية مجلس شوري النواب بالرقابة علي موارد الدولة هو الآخر، نظراً لادعائه تمثيل عموم السكان. وهذا في مقابل الأوروبيين الذين لم تمر رقابتهم علي موارد الدولة بأي من القنوات السياسية، وقاموا بتهميش دور مجلس النواب تماماً، علي رغم ادعائهم أن إفلاس الدولة كان نتيجة لعدم وجود "حكم رشيد" في مصر. والرقابة علي موارد الدولة كانت تتم من خلال قنوات سياسية في أوروبا وقتها؟ بالطبع. كل الكلام عن الرقابة علي الميزانية هو أمر أساسي في الديمقراطيات الأوروبية. إنجلترا منذ القرن السابع والثامن عشر كان تمور بإصلاحات متعددة لتأكيد فكرة الرقابة البرلمانية علي المال العام، ولجعل اللجان البرلمانية هي التي تراقب. وحدثت نقاشات واسعة في فرنسا بعد الثورة حول من له الحق في الاطلاع علي البيانات الحكومية والتصويت عليها. إذن كيف كانت علاقة الاستعمار الإنجليزي بالسكان المصريين من حيث هم سكان؟ كان هناك كلام عن السكان ولكن بشكل غير مباشر. دعنا نقول أولا أن فكرة "المجتمع" كما نعرفها اليوم لم تكن موجودة وقتها. ولكن جزءا من السيطرة علي الموارد في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر كان يتم عبر إعادة هيكلة الضريبة علي الأطيان وتوحيدها. نظرا لأن الضرائب علي الأطيان كانت مختلفة تماماً بين مكان وآخر ولم يكن تحصيلها سهلاً. تم القيام بمسح للأراض فتكون نوع من المعرفة بالفلاحين وبأشكال الزراعة وأشكال الملكية وكيفية كسب الفلاحين لرزقهم وهل يشغّلون آخرين معهم أم لا. كانت هناك مستويات عدة من الحكم، هناك كبار الموظفين البريطانيين في مصر وهناك طبعاً الخارجية البريطانية. وكل الكلام عن الضرائب لما له من علاقة بموضوع الديون المصرية- كان يتم تداوله في هذه الدوائر كما كان موضوعاً للتفاوض بين إنجلتراوفرنسا أيضاً. إذن فقد كانت الأولوية للمسائل الاقتصادية في موضوع الإحصاء. نعم. فإلي جانب موضوع الضرائب حدثت محاولات لتوحيد العملة وتوحيد الموازين والمكاييل، حتي تكون التعاملات الاقتصادية بين الدولة والأفراد وبين الأفراد وبعضهم موحدة علي مستوي الدولة، ولا تخضع لتغيرات الزمن. مشكلة العملات أنه في مصر كانت تستخدم عملات قادمة من دول كثيرة وكانت مقننة. كانت هناك تسع عملات يمكنك التعامل بها في جميع المصالح، مثل الفرنك وأبو طاقة، وكانت هناك مشاكل في تصنيع العملات المصرية ولذلك كانت الثقة قليلة إزاءها، ومع المقارنة بينها وبين العملة الأجنبية تفقد العملة المصرية قيمتها. ما حدث هو أن الإنجليز خلقوا نظاماً مزدوجاً للعملة، هناك عملات الفضة المصرية وعملة ذهبية وهي الجنيه الإسترليني، للسلع التي تفوق قيمتها حداً معيناً، وبالتالي فقد كرس هذا للتبعية الاقتصادية لإنجلترا بالطبع. أما بالنسبة لمحاولة توحيد المكاييل والموازين، فلم يكن الموضوع ناجحاً تماماً. لنتذكر أن الكلام عن توحيدها بدأ من قبل الاستعمار، حيث كانت مصر تشارك في المعارض العالمية كمنتج للقطن منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبالتالي أصبح هناك كلام حول توحيد الموازين خاصة فيما يخص التعاملات الاقتصادية الخارجية. كان هناك نظام محلي للموازين والمكاييل، وكانت هناك محاولات لتحويله إلي النظام المتري ولم تنجح. لماذا؟ مشكلة الموازين أنها كانت تتغير من مكان لمكان، فالكيلة في قرية معينة ليست هي الكيلة في قرية أخري، لذلك حاول الإنجليز توحيد الموازين علي مستوي القطر وربطها بالنظام المستخدم في أوروبا. المحاولة فشلت لأنه كان هناك خلاف علمي وله علاقة بالقياسات، كما كان هناك خلاف في كيفية تطبيق النظام الجديد علي جميع المعاملات في مصر. كانت هناك عقد قانونية وعملية، قانونية لأنه حتي تفرض رقابة علي جميع الموازين كان لابد من موافقة جميع القنصليات والمحاكم المختلطة، وعملية لأنه حتي في الأوساط التجارية الإنجليزية كانت هناك مقاومة للنظام الجديد، فصحيح أن النظام المتري الجديد سيقوم بتسهيل المعاملات التجارية، إلا أنه سيربك السوق علي المدي القصير. مثلا، فإن جمعية ألكسندريا بروديوس اسوسييشن، وهي جمعية تضم أكبر موردين للقطن، رفضت تطبيق هذا القانون بدافع القلق. وبالتالي لجأ الإنجليز إلي إدخال معلومات عن النظام المتري في مناهج التعليم، ولكن التعاملات في القري ظلت بعيدة عتماما عن طموحات المركز. نعود لمجلس شوري النواب، ماذا كانت مصلحته في الاعتراض علي التدخل الأجنبي وقتها؟ كانت هناك مصالح مالية مباشرة، لأن كثيراً من أعضاء المجلس كانوا من طبقة الأعيان الريفيين، وبالتالي فقد أضرت الإجراءات المالية للأوروبيين بمصالحهم. كان هناك مثلاً قانون المقابلة التي سنه الخديو إسماعيل عام 1871 وكان يتيح لملاك الأراضي دفع ضريبة الأطيان مقدماً لعدة سنوات مقابل تخفيض الضريبة إلي النصف بشكل دائم بعد ذلك، وعندما بدأت الأزمة المالية الحادة بدأ الأوروبون في التفكير في إلغاء هذا القانون، ما ترتب عليه أن المالك الذي دفع الضريبة مقدماً سيعود ليدفعها كاملة بعد ذلك، ولن يخصم منه نصفها. بالإضافة للمصالح المالية المباشرة، فقد كان هناك صعود لحركة دستورية شابة لم تكن محدودة بمصر. كانت هناك حركة دستورية أيضاً في الأستانة، وفي مصر، بعد أن لم تكن هناك سوي صحف محدودة، بدأ ازدهار الصحافة علي أيدي الشوام الذين أسسوا صحفاً مثل التجارة وأبو نضارة زرقا. وقد حاول الإنجليز منع تلك الصحف التي تنشر معلومات حول الوضع المالي لمصر، في إطار محاولتهم لاحتكار الرقابة علي الحكومة. كانت هناك إذن مصالح مالية مباشرة وخطاب دستوري يتشكل علي مستوي الدولة العثمانية، وهو ما جعل المعارضة للإنجليز وقتها تتركز علي موضوع إقرار الميزانية والحق في الرقابة عليها. هل يمكن وصف هذا بالحركة الوطنية؟ هناك وجهات نظر متباينة. هناك وجهة نظر الرافعي الذي يقول إن هذه كانت بدايات حركة وطنية، ووجهة نظر عكسية تماما تبناها مؤرخون أوروبيون قالوا إن الخطاب الوطني الذي طوره الأعيان كان مجرد ورقة من الخديو ليعيد تأسيس سلطته. وهناك المؤرخ والاقتصادي عبد العزيز عز العرب الذي كتب قائلاً إن مصر كانت تشهد وقتها صعود للوطنية الاقتصادية. أنا أميل لوجهة النظر هذه. فالأعيان هم مجموعة كونت ثروات وحاولت التأسيس لوضع سياسي ما، خاصة عندما بدأت سلطة الخديو في الضعف، وفكرة وجود خطاب وطني لا تتعارض مع فكرة وجود مصالح اقتصادية تصاحب هذا الخطاب الوطني. أما التصور الذي بمفاده يحرك الخديو جميع الخيوط في يده فهي فكرة الأوروبيين وقتها. الخديو كان قد بدأ يصبح أضعف من هذا، لا يمكن أن يكون هناك الخديو الذي يخبئ المال ويتحكم في النخب. هذا تصور استشراقي. لا ننس أنه كان هناك، في الفترة من 1875 إلي 1882، تركيز قوي علي شخص الخديو. و محاولات السيطرة المالية علي الموارد المصرية كان يصاحبها تصور أن الأزمة المالية حدثت بسبب إسراف الخديو وربط هذا بأزمة أخلاقية شخصية لديه، في حين أنه كانت هناك أزمات هيكلية حقيقية وضغوط مالية كبيرة من البنوك الأوروبية. وكيف كان خطاب الأعيان إزاء الحركة العرابية؟ كانت هناك فترتان. هناك الفترة التي انتهت بعزل الخديو عام 1879 وحل مجلس شوري النواب بسبب المقاومة التي كان يبديها للإصلاحات الأوروبية، وهناك مرحلة ثانية وهي عامي 1881 و1882، والتي شهدت صعود الحركة العرابية، وهي حركة يتشكل قوامها بالأساس من الضباط المصريين المحتجين علي الإجراءات التعسفية ضدهم، والتقت بالنواب الذين كانوا جزءا من الحركة الأولي، وشاركت فئات أخري في الاحتجاجات وإن لم يكن بشكل منتظم، كان هناك الموظفون الذين تضرروا من السياسات الأوروبية، وهناك نقاش حول ما إذا كان الفلاحون قد شاركوا أم لا في الحركة العرابية. ولكن مع تصعيد المواجهة بين عرابي وبين والخديو والمراقبين الأوروبيين فقد اصطف بعض الأعيان مع الخديو. صحيح أنهم كانوا يخافون من التدخلات الأوروبية ولكنهم كانوا أكثر خوفاً من أن تتضرر مصالحهم من المواجهة، وفي النهاية وجدوا مصلحتهم مع الخديو.