وضعت فتنة أسوان أمام الجميع جملة من الأسئلة المعقدة والصعبة تتعلق كلها بالمستقبل المفترض لمصر وأهلها. وصعوبة تلك الأسئلة ينبع من أن تلك الأحداث، التي تفجرت علي نحو دام ولا إنساني، تضرب بعمق في الأسس التي ظننا أنها راسخة، وأن الانفلات الذي نمر به حاليا علي كل المستويات وإن كان مفزعا لكنه ليس مثيرا للقلق باعتبار أن استثنائية الظرف الذي نمر به، والكثيرون كانوا يحمدون الله علي أن التحولات التاريخية في المنطقة التي تبعت ما سمي بالربيع العربي لم تحطم المنظومة التي سارت عليها مصر معظم فترات تاريخها الطويل، الدولة المركزية التي يعيش شعبها منسجما مع نفسه بلا إثنيات أو عرقيات أو مذهبيات يمكنها أن تكون المدخل لحرب أهلية. تأتي فتنة أسوان بتداعياتها لتوقظنا جميعا من الوهم، الدولة التي كنا نقول عنها ضعيفة لكنها علي الأقل تتحرك بالحد الأدني من القوة والشرعية والقابلية في الشارع يتضح أنه لا يمكنها التعامل مع أزمات من هذا النوع، رئيسها وأعضاء حكومتها ينتقلون إلي مكان الحدث ويعقدون الاجتماعات لكن الاشتباكات سرعان ما تعود بشكل أكثر دموية بعد رحيلهم بدقائق، وفي بعض الأقول وهم متواجدون علي أرض الحدث، وتقارير صحفية أخري تقول أن محافظ أسوان عندما حاول التدخل وجهت له نصيحة بالرحيل لأن أحدا لا يستطيع حمايته، قوات الأمن تراقب من بعيد، والأطراف المتصارعة توجه لها اتهامات صريحة بأنها تركت الموقف يتأزم لأنها لم تتدخل من البداية، ولأن سجلها في التعامل مع مشاكل الطرفين المتحاربين ليس عادلا، وفي النهاية تتحرك المدرعات وقوات من الجيش، وهي الكلمة السحرية التي لا بد لنا، سواء أعجبنا هذا أم لا، من الاعتياد عليها، الجيش هو مفتاح الحل في كل شئ. عربة الكارو التي تحمل الجثث مكومة فوق بعضها ستظل عنوانا لفترة طويلة، لن تنمحي بسهولة، لأنها فوق قسوتها المبالغ فيها، تؤشر علي الموضع الذي نقف فيه، ليس من البعيد بالطبع أن الإخوان هم الطرف الثالث في تلك المأساة، وربما قطر أيضا بأموالها وحقدها الذي لا يهدأ، ربما، لكن الإخوان أو قطر أو غيرهما لن يكون بقدرتهما إثارة فتنة بهذا الحجم ما لم يكن لها وجود حقيقي، كل ما فعله الطرف الثالث، في حالة مسؤوليته، أنه لعب قليلا في تاريخ شائك وعلاقات متوترة. واحد من الأسئلة الأكثر أهمية في ذلك الملف تتعلق بالدولة المصرية، هل ما زالت هناك حياة في جسدها؟ هل نحن تلك الدولة المركزية القوية التي يمكنها فرض الأمن والأمان علي كل أراضيها؟ أم أن ما يحكمنا بالفعل هو المنطق القبلي، قبيلتين تشتعل بينهما الحرب وتفشل كل الأطراف في الوصول إلي حل، مجرد هدنة هشة لمدة تثلاثة أيام، وكأننا في حرب بين بلدين، ولا يبدو هناك من أمل إلا عندما تعلن قبائل أخري عن تدخلها للوساطة ساعتها يتسلل شعور بالراحة إلي نفوس الناس، بما فيهم الحكومة، الممثلة للدولة! من السهل بالطبع تعبئة وتدبيج مقالات عن الدولة المصرية وعظمتها واستمراريتها، والأغاني أيضاً من الأفعال الهينة، لكن ليت الواقع بتلك البساطة، ليس كافيا أن نردد بيننا وبين أنفسنا كل يوم "مصر هي أمي" مئة مرة أو ألف مرة، ليس كافيا أن نعقد حلقات الشعر لنتغزل في الأرض التي نعيش فوقها، لن يكون ذلك كافيا أبدا لمعالجة التفكك الذي لا يبصره إلا الأعمي.