توفي الشاعر الأفرو- أمريكي " أميري بركة" في التاسع من يناير مطلع 2014 عن تسعة و سبعين عاما. ودعا بيت الشعر لندوة تأبين سوف تقام عن قريب. كنت قد سمعت اسم أميري بركة للمرة الأولي في أوائل التسعينيات من الأستاذ الدكتور محمد عناني الذي كان وقتها يحاضر المترجمين و المحققين في مركز اللغات و الترجمة بأكاديمية الفنون. ولم أسع للمزيد إلا حين ثار الجدل علي نطاق واسع حول القصيدة التي كتبها أميري بركة عقب تفجير برج التجارة في نيويورك في سبتمبر 2001 و هو اليوم الذي دخل وجدان الأمريكيين و استقر تحت اسم 9/11، و كان من جرائه التعبئة العامة وحس جمعي بالتوجس و الريبة من كل ما هو عربي أو مسلم أو كل من لا يؤكد وطنيته بإظهار الولاء المطلق للدولة و جيشها و تمظهر ذلك المناخ الضاغط في الإرهاب المعنوي الذي مارسه الأمريكيون بعضهم علي بعض وقتها، مذكرا بالحقبة الماكارثية. وقع من هم من أصول عربية إسلامية تحت ضغوط أكثر من غيرهم من الأمريكيين بالطبع ودفع كثير من الأبرياء ثمنا باهظا في صورة قمع وتهميش وإقصاء فعلي وصل حد قتل عائلة من أصل مصري بأكملها لم يكتشف أنها مسيحية إلا لدي التحقيقات. كتب أميري بركة الذي كان وقتها ينعم بلقب أمير ولاية الشعر في نيوجيرسي، (وهو تقدير يناله البارزون من الكتاب كاعتراف بإسهاماتهم) كتب قصيدة يتساءل فيها عمن فجر أمريكا أسماها: "أحدهم فجر أمريكا" (Somebody Blew Up America) يتساءل الشاعر في ما يزيد علي المئة سطر عن الذي فجر البرجين و يبدأ كل بيت منها تقريبا بالسؤال لكنه يقدم لسؤاله بالأبيات التالية: يقولون إنه إرهابي ما عربي بربري من أفغانستان وليس شخصا من الكوكلوكس كلان ولا أحد ممن يشعلون النيران في الكنائس الزنجية وليس أحداً من أغنياء حقول العبيد ولا ممن طهروا أمريكا من الهنود ليس أحداً ممن يقطنون "وول ستريت" ممن يدعون أنهم الله و هم الشيطان ممن ازدادوا ثراء من الجزائر وليبيا وهاييتي ولبنان ومصر وفلسطين. وتنتهي القصيدة بصرخة طويلة بكلمة "من؟" تلخص ما استعرضه الشاعر طوال القصيدة من أسباب و قرارات لأسماء بعينها وسياسات عبر تاريخ الدولة الاستيطانية يري أميري أنها تراكمت حتي أثمرت هذا الانفجار الرهيب منذ أن استحل الأمريكيون حيوات الأفارقة واستعبدوهم في مؤسسة الرقيق البربرية. شن الاعلام حملة مسعورة علي أميري بركة وطالبته السلطات بالاعتذار عن القصيدة والاستقالة من المنصب الشرفي الذي أسبغ عليه. فكتب مقالا مطولا تحت عنوان "لن أعتذر ولن أستقيل" يدافع فيه عن نفسه وعن قصيدته ويثبت من داخل القصيدة أنه ليس معاديا للسامية كما قيل وإنما يؤرقه أن 4000 إسرائيلي لم يذهبوا لأعمالهم ذلك اليوم ويتساءل عن هوية المصورين الإسرائيليين الخمسة الذين صوروا البرجين وهما ينفجران الواحد تلو الآخر و يستنتج أن حكومتهم قد أنذرتهم كما أنذرت الحكومة الأمريكية لكن الفارق أن الحكومة الإسرائيلية أجلت موعد زيارة شارون لنيويورك الذي كان مرتبا له و أنذرت مواطنيها. و يخلص إلي أن العملية مؤامرة مدبرة من الداخل الأمريكي وهو ذاته ما ترمي إليه القصيدة ولكن علي نحو أكثر تعميما و أكثر إدانة لتاريخ المستوطنين البيض منذ أن وطأت أقدامهم الأرض الجديدة من تطهير عرقي للسكان الأصليين واستجلاب الرقيق للعمل في حقول القطن و استباحة انسانيتهم، مرورا بسكوت حكومتهم علي محارق هتلر و موافقتها الضمنية علي التمييز ضد اليهود قبل دخولها الحرب بعد قصف بيرل هاربور. من الناحية الأدبية تبدو المقالة الدفاعية تأكيدا و استكمالا لما ورد في القصيدة لكنها تنتهي بفقرة مثيرة للتأمل يقول فيها:"أقول كل هذا لأنني أشعر أن هذه الدولة بل هذه الأمة بل والعالم بأسره، في حاجة ماسة جدا للقيم الإنسانية العميقة التي يحملها الشعر للناس و يعلمهم إياها. كل ما كان يطالب به أمثال "كييتس و"دي بوا" الشعراء. يطالبونهم بالحقيقة والجمال. يطلبون أن يكون الشاعر علي صورة النموذج المبدئي للشاعر، ان يكون مثل أوزوريس و أورفيوس اللذين كانت تقع علي عاتقهما مسئولية استقبال الشمس وهي تبزغ بالأغاني و الحكايا حتي يطلع النهار كل يوم فينير عقول البشر و يضيء العالم". كيف يتسني لنا إذن قراءة تلك المعادلة العجيبة؟ شاعر يؤمن بأن الشعراء هم من يغوون الشمس بالطلوع كل يوم بالاغاني و الحكايات و في ذات الوقت ينغمس في تفاصيل سياسية تماما يعبر عنها في قصيدة تنتمي الي مجال الخطابة أكثر مما تنتمي للشعر و يدعو للقصاص العنيف؟ لابد أن الأمر مرتبط في هذه الحالة و شبيهاتها (وهن كثر) بالتوتر الذي يفرضه واقع بعينه علي العلاقة بين الحقيقة و الجمال و إن ظل المنتج النهائي رهين مدي امتياز الشعر نفسه من عدمه كما يظل أسير تعريفنا لكلمة "الحقيقة". لقد كان صاحبا نوبل الأيرلنديان من الشعراء، وليام بطلر ييتس و شيموس هيني كلاهما من أعظم المدافعين عن قضايا بلادهم داخل أشعارهم و في كتاباتهم النثرية. لكننا في حين نجد ييتس يتساءل في قصيدته عن ثورة عيد الفصح خائفا نادما: "هل دفعت كلمات كتبتها بأناس للقتل؟" يدعو أميري بركة إلي "ضرورة أن يكون لدينا شعر يقتل". ولا يجد أي غضاضة في الدعوة للعنف كشكل وحيد للقصاص من كل مظالم التاريخ. وفي حين يحول هيني الكونستابل الانجليزي، رمز احتلال بلاده، إلي رجل يخافه الأطفال الكاثوليك الصغار فيمس فينا حسا إنسانيا شاملا يدعونا للتماهي مع الصغار و كراهية الاحتلال و التعصب لا كراهية الانجليز و الكنيسة البروتستانتية، نجد بركة يحث علي نحو مباشر علي العنف ضد من يشعر أنهم مسئولون عن كل ظلم وقع في المجتمع في قصائد السحر الأسود علي سبيل المثال. يقف المرء حائرا بعض الشيء أمام تلك القصائد لو كان يشعر بالفجيعة و يعصره الألم لدي مشاهدة عالم ينتشر فيه الظلم علي نحو أصبح من ثقل وطأته لا يثير العجب فكثير ممن يحلمون بعالم حر من الاستعباد و الاستغلال و غلبة الأقوي أصبحوا يتشككون في إمكانية رؤية تلك القيم علي أرض الواقع فالأمور تبدو كما لو كانت الانسانية بأسرها قد تاهت عن قيم الحق و العدل تعلي من قدرها بالكلام و حين الفعل تتصرف وفقا لقانون الغاب. الأقوي يفرض سيطرته و يحدد معاني الحق و العدل بل و الجمال كذلك. كان أميري بركة عاملا مؤثرا في حركة "الأسود جميل" التي قاوم و ما زال يقاوم بها السود في أمريكا معايير الجمال الأبيض المفروضة وفي قصيدة عنوانها " كعبة" يعبر عن تلك الفكرة علي نحو مباشر بقوله: "عالمنا أجمل من عوالم الآخرين مع أننا نتألم و يقتل بعضنا بعضا. نفشل أحيانا في السير علي الأثير نحن أناس جمال ذوو خيال أفريقي مليء بالأقنعة و الرقص و الترانيم لنا عيون أفريقية وأنوف و سواعد أفريقية رغم أننا مقيدون في سلاسل رمادية في مكان كله شتاءات، و نحن نريد شمسا. لقد خطفنا يا إخوتي ونشقي لنجد لنا مهربا نحو الصورة العتيقة حيث نتواصل من جديد مع أنفسنا و عائلتنا السوداء. نتلو أعمال السحر ... الآن نحن في حاجة إلي عمل سحري حتي ننهض و نعود و نحطم و نخلق. ما عساها تكون الكلمات المقدسة المطلوبة؟ هنا نري مأزق الأمريكي الأسود، فتراثه في بلده الذي لا يعرف في الحقيقة غيره قد ظلمه ظلما بينا. و لكنه علي مستوي آخر يعلم أنه ينتمي إلي بلد و حضارة في استطاعته أن يصعد فيها إلي أعلي مراتب الدولة و أن هامش حريته في التعبير عن نفسه يحسده عليها الكثير من أقرانه في القارة الأم. وهو مأزق نستطيع نحن متحدثي العربية التعاطف معه إلي حد بعيد. فالعلم و نوره و سبل العيش الحديثة و افكار الحرية و المساواة و مفاهيم حرية التعبير جاءت إلي عقر دارنا دون سبي أو اختطاف أو استعباد فعلي في معظم الأحيان، إلا أنها جاءت مسمومة بالاستعمار و الاستغلال و القهر الاقتصادي و الاستعلاء و الغطرسة. كيف نخلص كل هذا الشعر من العجين؟ كيف نفصل الفسيخ عن الشربات؟ هذا سؤال يستحق منا التأمل. وله بدل الجواب ألف ولكن ربما ظل علي رأس تلك الاجابات ضرورة استعادة الثقة في ذاتنا الثقافية من منظورنا نحن لا منظور الآخرين و عدم انتظار أن تأتينا التأكيدات من خارجنا و التأكيد علي القيم التي تعارفت عليها البشرية كسبل للترقي نحو الإنسانية المأمولة دون التشبث الأعمي الأصم بما نسمية "الخصوصية" و دون محاولات جادة لتعريف ماهية تلك الخصوصية تضيف للحضارة و لا تعيدها القهقري. دعونا نتوقف لحظة مع الكيفية التي يتعامل بها الشعراء مع سياسات الواقع المجحفة فنتذكر رائعة أمل دنقل "لا تصالح" التي تبدو للوهلة الأولي تكريساً لفكرة الثأر تتماثل مع ما يدعو إليه أميري بركة. لكن شاعر "لا تصالح" فرض عليه حسه الشعري العبقري اللجوء إلي تراثه اللغوي والأدبي دون مباشرة وعاد بقصيدة قد نؤولها علي أي عدد من الوجوه علي مر الزمن. إننا لا نستطيع لأي سبب كان مقارنة الجمال الذي تركه لنا ييتس حتي في أكثر قصائده نزولا للواقع للتعليق السياسي ولا رقة و شاعرية و عذوبة شيموس هيني في أقصي تعبيراته عن الغضب من الاستعمار ولا أسطورية و رصانة و رهافة حس أمل دنقل حتي وهو يطلب الثأر الدموي بالأشعار التي تتنازل فلا تجد غضاضة في تناول ما يفقد الشعر عالميته أي إنسانيته بلغة لا تتسامي علي الواقع، بل ربما فرضها الواقع الآني و لحظة غضب الشاعر. يبدو إذن أن حب الجمال و الحقيقة وحدهما لا ينتج شعرا جميلا حقيقيا يدوم إنما ما يدوم هو ما يتعارف عليه الانسان بوصفه إنسانا في كل زمان وأي مكان. فالظلم لا لون له و القهر لا دين له و الفقر لا بلد له. ما يتوجب علينا فقط هو الصحوة الدائمة في حراسة جمهورية الضمير التي هي أيضا ليست حكرا علي لون أو لغة أو دين أو عرق أو جنس لكنها تعتمد أول ما تعتمد علي حملة القلم، رمز تحضر الوجدان الإنساني وعلي رأسهم الشعراء. هناك تعليق أخير لابد منه في رأيي حتي لا يكون المرء مجحفاً وهو أن الظرف الواقعي التاريخي الذي يمس هوية الانسان بعطب ما أو ظلم فادح و يبعده عن جذوره و يصبح منتميا لجماعة لا يعتد برؤيتها للعالم يفرض علي الشاعر فرضا، بصفته صوت تلك الجماعة، الانشغال بالحقيقة أحيانا بوصفها "الواقع" فإذا كان الواقع مريراً من السهولة بمكان أن ينزلق الشعر إلي ذات المستوي وبالتالي يصلح ربما إلي حين في تأجيج المشاعر لكنه لا يعيش إلا اللحظة. يصبح مثله مثل الخطابة فيستثير الغرائز الدفاعية ولا يثير الخيال أو التأمل و السؤال فلا يساعدنا علي إعادة النظر في موقف ما سواء كان المتأمل ظالما أو مظلوما. لأن الحق و العدل و الخير و الجمال هي بالفعل أشياء لا تجتزئ. في حالة مثل حالة أميري بركة يمكننا أن نتفهم الدوافع، فالشاعر في هذه الحالة عليه إما أن يندرج تحت لواء لغة وصمته بأبشع الصور ويعتبر تاريخها تاريخه وهو ما ينافي الحقيقة، أو أن يصنع لنفسه تراثا مناوئا. وبما أن الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها تعاني من ضحالة الزمن الذي يسمح بتراكم تراثي أفريقياً كان أو أوروبياً أو أسبانياً، وبما أن تحرر السود فيها من القيود القانونية التي كانت تميزهم علي النهج الجنوب الإفريقي لم يكتمل إلا في الستينيات من القرن الماضي، أي منذ عقود قليلة، قد نجد للشاعر عذرا فهو في نهاية الأمر ينحت لنفسه تراثا. لكن أن نجد ذات الشيء أو ما يشبهه في اللغة العربية في بلد كمصر مثلا، فهو أمر محير بالفعل أو علي الأقل يستحق منا التفكر فربما كانت هناك بالفعل ظروف وجدانية تجمع كل من يقع عليه قهر و ظلم ولا يملك لغة لها تراث يلجأ له فيعضد وجوده ويأخذ منه صوته و يعطيه صوته دون حساسيات نتجت عن القهر الفعلي أو اللفظي أو المعنوي، في أي من أشكاله. سوف نتذكر دائما إيمانو أميري بركة بوصفه أهم من صاغ الهوية الزنجية الأمريكية لتأثيره في حركة الموسيقي الأمريكية عموما من خلال اهتمامه بالجاز والبلوز وفي مسرحياته التي تناولت علاقة السود بالبيض في وطنه وكذلك بوصفه صوتا شجاعا في معارضة سياسات حكومة بلاده وسوف نذكر بالطبع بعض أبياته لكنا ربما ننسي القصيدة التي جعلت صيته ملء سمعنا، ولا نعود نذكرها إلا في فضاء الأكاديميات و أقسامها المتخصصة. وداعا إيمانو أميري بركة، لقد بذلت عمرك كله في البحث عن ذاتك في عيون الآخرين. ليتك بذلت نفسك في البحث عن ذاتك داخل نفسك انت، لو فعلت لكنت تركت لنا شعرا عظيما لا يشيخ ولا يموت.