استيقظت وفي أذني إيقاع أغنية ما لا أستطيع تذكر كلماتها، لكن صوت الكمان الواضح بين إيقاعاتها حالم وغاضب في آن واحد. كلمات صديقاتي علي الشات تنخر في بقايا عقلي الذي انفجر في الحلم، لا أتذكر حلمي أيضًا لكني أتذكر أن خلايا مخي انفجرت! هل كنت أنا أم فتاة أخري تشبهني؟! ما أعرفه أنه لا يمكن لأحد أن يري موته في حلم، وأننا نستيقظ قبل لحظة الموت، فلا نري بأعيننا المفتوحة علي عالم الأحلام لحظة سقوط من دور مرتفع مثلا، وبالتأكيد لن أشهد لحظة انفجار مخي! لعلها معلومة غير صحيحة لكن المؤكد أنه قبل نومي استلمتني صديقتاي علي الشات، وكانتا تتحدثان عن العريس الجديد، وما الذي جعلهما يتصورانه عريسا! حاولت إقناعهما أننا تعارفنا منذ فترة قريبة ولم أحدد مشاعري تجاهه بعد. لكنهما أصرا علي كوني أهرب رغم اقترابي من سن الأربعين وفهمت من إحداهما أنهما عرابات لقائي به؛ كان مدبرا إذن! الأهم هل أنا بالفعل أهرب؟ لا أعرف فمخي الذي انفجر بالأمس لا يعطيني فرصة لجمع تفاصيل مكتملة، أجمع صورته كأنها قطع بازل، شعر يشوبه بياض مستحب، ملامح جدية تليق برجل ناضج، يخاطب فتاة لم تعرف ملامحها سنوات عمرها بعد، فتاة تهوي السير في الطرقات بلا هدي، بينما لا يستطيع هو التحرك خطوة بدون سيارته! تأخذني من صورته خلية من خلايا مخي المنفجر تحوي صورة بطاقتي! أحاول اقتلاع رأسي الثقيل من علي المخدة. المخدة تجذبها من جديد، كلاريناز أم أنه دواء آخر للحساسية ما تعاطيته بالأمس؟ لا أتذكر بالطبع! رغم كل شيء سوف أجاهد لأبطل تأثير مغناطيس المخدة وأسرع إلي قسم الشرطة. أعتقد أن مج نسكافيه قد يعيد لي بعضا من ذاكرتي، ضاعت بطاقتي بالأمس وهاجمتني الحساسية اللعينة، ربما الأوقع أنه هاجمتني الحساسية اللعينة فامتلأت جيوبي الانفية بإفرازاتها وضغطت علي كل حواسي إلي حد جعلني أنسي ما تلمسه يدي حتي ضاعت بطاقتي! هذا هو الترتيب الأكثر منطقية ويبدو أن خلايا مخي بدأت في استعادة مواقعها السابقة شيئا فشيئا. رن موبايلي وكان العريس "كما تعتقده صديقتاي" يؤكد علي موعدنا استطعت أن أقاطع استرساله في الحديث لأخبره بضرورة ذهابي للقسم وعمل محضر واستخراج بدل فاقد. أخبرني انه سينتظرني علي ناصية الشارع المؤدي لقسم الشرطة، شكرته ولو أنني كنت أريد التمشية قليلا إلي المكان الذي سنتقابل فيه بوسط البلد، لم أقاوم رفقا برأسي الذي عاد إلي الرغبة في الانفجار مع إصرار الرجل علي صب معارفه علي رأسي، أخبرت صديقتيّ انني أكره هؤلاء الذين يتحدثون بثقة العارف بأمر الله، فسألتني إحداهن: (أنتي عايزه أيه بالضبط؟! ) لا أعرف! أنا فقط أعرف ما لا أريده لكني لا أعرف ما أريده، (بس لو تبطلي كلام كبير، حاضر هبطل كلام كبير). أهرب منه بحجة اللحاق بالقسم قبل انصراف الموظفين، وكذلك حتي نتقابل قبل موعد حظر التجول. أغلقت الموبايل ووقفت أمام الدولاب بعينين نصف مغلقتين. قالت لي صديقتي أن أهتم قليلا بارتداء ما يناسب سني (بلاش لبس العيال دا والنبي، حاضر)، لكني في النهاية أسحب الجينز وتي شيرت مكوي، لا أستطيع الوقوف لفترة طويلة يبدو أن النسكافيه لم يؤد الغرض، وأدوية الحساسية تواصل النفير في أذني، ومازلت لا أذكر كلمات الأغنية، فقط موسيقي تصعد من خلف موقع الصداع المقيت لتصبرني علي مصائب الكون اللعين. بين سلالم البيت وسلالم المترو شوارع مرتبكة، اعتادت أن تظل علي زحامها ليلا ونهارا فأتي حظر التجول ليجعلها تعرف الفرق بين الاثنين، ربما ليس في كل المناطق، هناك مناطق في تلك المدينة لا تنطبق عليها أي قوانين، لكن شوارعها الرئيسية علي الأقل لم تعد تواصل الضجيج. الزحام انتقل إلي رأسي منذ الليلة الماضية ولا يريد أن يتركني، أشعر أني أسير في مدينة أشباح رغم زحام النهار، كأني أسير فيها في ليل الحظر. أدندن الموسيقي التي تملأ أذني وغربة تجتاحني. لم ألحظ هذا الغبي الذي يبحلق في إلا حين اقترب مني. ركبت أول عربة واجهتني بعد خروجي من الماكينة ولم يكن هناك وقت للبحث عن عربة السيدات، حتي ألحق المترو قبل أن يتحرك، حمدت الله علي تفادي ضجيج الباعة الجائلين الذين احتلوا عربة السيدات وشجار السيدات حول السياسة وغيرها، لا أرغب في سماع أي من المنتمين، بثقة يحسدون عليها، لأي معسكر. يكفيني ضجيج عربات الجيوب الأنفية الممتلئة عن آخرها، الرجل السمج الذي اقترب مني ينظر إلي تفاصيل جسدي. فكرت في أن الجينز أصبح ضيقًا جدا. حظر التجول تسبب في ازدياد الدهون حول مناطق محددة في جسمي، والتي شيرت قصير، بدأت في لوم نفسي علي ملابسي الضيقة وبشكل تلقائي كنت أحاول إطالة التي شيرت من الخلف أو رفعه من الأمام، انتبهت إلي أفكاري وحركاتي التي زادته جرأة فاقترب أكثر! يظنني مجرد فتاة صغيرة تلوم نفسها ستخاف من إثارة أي مشاكل فيتجرأ! الفكرة أثارتني للغاية فاستدرت بتحدي نحوه فاستمر في نظراته الوقحة (ممكن تبعد شويه لو سمحت، هو أنا جيت جنبك) واضح أن أدوية الحساسية يمكن استخدامها كأكسير للشجاعة (لأ بس أنا ليا مزاج اتبلي عليك) قولتها بنبرة صوت محايدة وأنا أنظر إليه بعينين نصف مغلقتين. ابتعد بسرعة نحو باب المترو ونزل في أول محطة كأنه يهرب من مجنونة، ياله من أكسير للشجاعة! لو لدي بعض من القوة الجسدية لمسكت فيه بالفعل وقدته لأقرب قسم شرطة، أنا بالفعل في اتجاه قسم الشرطة، ابتسم بنشوة منتصر، وتأتي ابتسامتي في وجه شاب يجلس أمامي واضعًا سماعات في أذنه وكان المترو يعبر محطة التحرير مترنحًا وهو يبطيء كأنه يلقي نظرة وداع أخيرة. المحطة مغلقة وهو لن يتوقف عندها. المحطة مظلمة كبيت هجره أهله، وأنا علي كل الأحوال لم أعد أرغب في التوقف عند هذه المحطة الآن، وكذلك المترو، وكذلك الشاب الذي يسمع أغنيتي التي لا أتذكر كلماتها الآن. أنا علي يقين من ذلك، الشاب الذي شعر بقرب انهياري وقف دون أن يطيل النظر إلي داعيا إياي للجلوس مكانه. أجلس ويقف هو منفصلا عن الكون مع أغنيتي، والكمان المنفعل يعلو بنعومة فوق صوت الضجيج المتحكم في رأسي. لا أسمعه بالطبع لكني في احتياج إلي اليقين من أي فكرة تعبر رأسي بين هذا الضجيج المشكوك في أمره! بين سلالم المترو وسلالم القسم شوارع أخري، أكثر ضجيجا، سعيدة لأن بطاقتي مازالت مسجلة في قسم يتبع بيتي القديم، قريبا من وسط المدينة، لكنه علي بعد من التحرير. لن أحتاج ان أزيد ضجيجي حزنًا وكمدًا علي أحلام مراقة هناك، وكوابيس زاحفة في الشوارع. يسألني الضابط وأجيب، الضابط الشاب مهذب علي غير العادة! ضجيج آخر من خلف رأسي يواجهه الضابط من وقت لآخر بصراخ وملامحه تتبدل في محاولة لإظهار القوة (بس يا بت لو ضربتيها تاني هاجي أموتك، والله يا باشا ما جيت جنبها هي للي مفجوعة وعايزه ساندوتش!) يرن الهاتف وينشغل قليلا به بينما أحول وجهي أنا ناحية الضجيج. فتاتان داخل تخشيبة محاطة بالقضبان من كل ناحية. الأولي سمراء بسيطة في العشرين من عمرها علي الأكثر، ترتدي جلبابا أسود واسعا وطرحة سوداء وتجلس علي الأرض باكية، والأخري بيضاء بوجهها نمش محبب، وشعرها الأشقر المهوش ملموم خلف أذنيها، إنها الدائرة الجاذبة لكل الأعين! قالت: (انتو بتبصوا كدا ليه؟! ) انتبهت إلي أن عينيها البريئتين المكحلتين بأسود فاحم تنهشنا جميعا بجرأة واتهام فاضح! نظراتها ساخرة ومتحفزة، نظرة جنون مزهوة بتفردها، وحركة رأسها فيها مرح واستهانة بالجميع. لم أكن وحدي من ينظر إليها، كل من في القسم ينظرون نحوها وإن كان من حولي ينظرون في شفقة أو احتقار أو تعجب، بينما كنت أتأمل تفاصيلها بحياد؛ موتيفة فريدة لا مثيل لها في محيطها، غجرية تخلصت من ملابسها في العراء، الفستان الملون المحبوك علي جسدها يليق بطفلة تؤدي دور عاهرة! لا تهتم بما يظهر من جسدها، بل تتعامل معه كأنه غير موجود أو لا يخصها؛ باستهانة تجلس غير مبالية بالمشهد كله. لا تغوي الآخرين بل تحتقر نظراتهم المتلصصة! الأقراط الملونة المتراصة علي زاوية إذنيها، والغوايش التي تتخبط من كثرتها حول معصمها، والقرط اللامع الملتصق بأحد جانبي فتحتي أنفها. لم أر عاهرة مثلها من قبل، حتي في الأفلام، تبدو مختلفة رغم كم الأصباغ الملونة لوجهها، وثقتها في نفسها غير عادية بالنسبه لبنت لم تكمل الخامسة عشر تقف في تخشيبة! وجدتني أقوم من علي الكرسي وأقف مواجهة أياها (للي يبص لك بوصي له ومحدش أحسن من حد!) نظرت إلي في دهشة. لم تكن تتوقع أن يجيبها أحد. كانت فقط تعلن تحديها لهؤلاء "الشرفاء" خارج التخشيبة، لكنها ضحكت برنة جلجلت في أنحاء القسم: (والله أنتي عسل) نهرها الضابط وقال لي: (خليكي معايا والنبي يا أستاذة) كان للضابط ملامح طفل وكان لتلك الطفلة ملامح عاهرة ولم أكن أهذي من تأثير أدوية الحساسية! أنهيت إجراءات المحضر وكان لابد أن أدخل لمكتب آخر لأخذ رقمه. دخلت الممر خلف التخشيبة وتمهلت قليلا ناظرة تجاه الفتاة الشقراء التي استمرت في ضرب الفتاة السمراء الباكية والتي تعبر عن جوعها، والشقراء لا تحتمل ضعفها وتحايلها من أجل ساندوتش! انتبهت لها وهي تبادلني تأملا بتأمل قبل ان تناديني بصوت منخفض، بس بس، معاكي سيجارة، لم أسمعها لكني رأيت إشارتها بإصبعيها ناحية فمها وفهمت وأجبتها بتحريك رأسي يمينا وشمالا، فأنا لست مدخنة، المرة الوحيدة التي حاولت فيها التدخين كدت أموت، وأنا لست مغامرة بطيبعتي، فاستسلمت لحساسيتي المقيتة، ولكن لا أعرف لماذا شعرت بجرم ما ارتكبته، حين بانت علي ملامحها خيبة أمل وانطفأ بريق الشقاوة والمرح في عينيها وعادت إلي لكز الفتاة المسكينة بجوارها التي مازالت تعبر عن جوعها! لو علمت صديقتي بما أفكر فيه لقالت: (يا بنتي بطلي تركزي مع العالم بقي وركزي مع نفسك شوية) الموظف الجالس خلف المكتب الحكومي عجوز متصابي، يبدو أنه المدير بين كل الموظفين الجالسين في المكتب، يتعامل بمنطق الرئيس الذي لا ترد له كلمة، يطلق النكات السمجة ويعاكس الموظفات والمترددات علي المكان، أوقن أنه يفتح درج مكتبه ويقبل الرشاوي ويمكنه أن يستغل فتاة مثل التي في التخشيبة، ربما ينبغي أن يكون خلف القضبان بدلا من تلك الطفلة! أروض المتوحشة التي استيقظت في داخلي بين الضجيج والتي ترغب في ابتلاعه الآن حتي أنهي الإجراءات وانصرف قبل أن أخرج كل ما في بطني علي مكتبه، كيف يمكن أن يملك انسان كل هذا القدر من اللزوجة! كان الصداع قد عاد لوحشيته وأنا أخرج من نفس الممر وأقف خلف نفس التخشيبة لأسمع الشقراء تناديني من جديد: بس بس، نظرت إليها وجدتها جالسة علي أرضية التخشيبة بجوار السمراء التي كفت عن البكاء ونامت. أشارت إلي بقايا سيجارة ملقاة علي الأرض خلف التخشيبة ربما طوحها أحد الضباط أمام عينيها منذ قليل، وانتظرت حتي نسيها الرقباء وسط الزحام، واقتنصتني من بين المارين كي أحركها في اتجاهها، لغة ما وجدت بيننا، ربما تلك فرصتي، أن أفعل شيئا صغيرا من أجل تلك الطفلة كي تستعيد بريقًا خفت في عينيها. أفعل أمرًا تريده قبل أن تواجه مصيرها الذي لا يعلمه أحد، وفي رعونة ليست غريبة علي في هذا اليوم الغريب، وجدتني بدون تحكم من أدوية الحساسية، وبكامل قواي العقلية، وبلا أدني تفكير في الحفاظ علي احترام من حولي، أحرك قدمي في اتجاه بقايا السيجارة لأزحزحها في اتجاهها. كان ضباط القسم جميعا يصرخون، لمنعي من استكمال ما أفعله، وكنت أقف في مكاني، والفتاة التي برقت عيناها في لحظة تنظر في اتجاههم بتحدي، والضابط يقول لي: (يا أستاذه ميصحش لو كنت قربتي منها كانت هبشتك، دي بنت حرام متوحشة!) وأنا علي سلالم القسم كنت أفكر أن الضابط بالفعل أنقذني، وأن الفتاة البريئة بالفعل شرسة وغير طبيعية، كانت موسيقي الأغنية المجهولة تعلو حتي كادت تطغي علي كل الأصوات، وبدأت بعض الجمل تجد طريقها لأذني، وكانت الوجوه التي غادرتها للتو تتبادل العرض مع الموسيقي التصويرية في مخيلتي، قفز تساؤل لذهني: لماذا لا يكون الضابط متسلطًا والفتاة مجرد متهمة تحتاج سيجارة والأخري جائعة وهو يمارس ساديته عليهما؟! كنت أترنح من تأثير الأدوية والأفكار والمزاج المعتل، وكنت أتمسك بوهم انتصار صغير حين تحدثت مع العريس المفترض علي الموبايل وطالبته بشراء علبة سجائر وساندوتشات! ورغم أنه لم يفهم لماذا أريد ما طلبت إلا أنه كرجل يرغب في الظهور بهيئة "الجنتلمان" استجاب وأحضر ما طلبته بالفعل عند سلالم القسم، وفكرت وهو يدخل معي في مغامرة لا تتناسب مع تأنقه، في رد فعل الضابط، وفيما ستقوله صديقتاي علي الشات الليلة في نفس واحد: (طفشتي العريس، شاطرة) لكني كنت سعيدة بصرف كل الأفكار من جمجمتي واتخاذ قرارًا أبسط من أي فكرة وعكسها تتبادل أماكنها في عقولنا! وكنت سعيدة أيضًا بتذكر كلمات أغنية ضجيجي الذي بدأ بالتلاشي (قوم نحرق ها المدينة ونعمر واحده أشرف، قوم ننسي ها الزمان ونحلم بزمن ألطف، ما ذلك بلا شي، ما فيك تخسر شي، أنا مليت من عشرة نفسي).