ذكرت في مقالي السابق لقائي مع الدكتور مصطفي ناصف في دعوة الدكتور عبدالقادر القط صباح الجمعة 5/9/7991، وكيف انفردنا عن باقي الحاضرين، وكانت استجابته لهذا الانفراد، اني ذكرته بطه حسين في معرض حديثنا، عن التراث والمعاصرة، فقال: كثير من الناس يظنون طه حسين أحد اعداء التراث العربي، وهو ظن غير صحيح، فقد قرا التراث قراءة العين الفاحصة، والعقل المنصف، فقبل منه ما احتفظ بشرط الصلاحية، ورفض منه ما فقد هذ الشرط. وفي هذا السباق يروي ناصف ان أحد الاشخاص سأل طه حسين -وكان ناصف حاضرا- ما الحدث، أو الموقف الذي اسفت عليه أشد الأسف في مسيرتك العلمية؟ فأجاب: (يوم ان ألقيت عمامتي في البحر) يقصد: تلك المرحلة التي ابتعد فيها عن التراث رافضنا له، يوصف هذا الرفض نوعا من التمرد الذين كان يتميز شخصيته وبخاصة في بداية مسيرته الثقافية. ولعل حبه لتراثه الذي، بدأت معه حياته العلمية في الأزهر، هو الذي جعله في محاضرته عن التعليم الجامعي -وكان لطفي السيد من بين الحاضرين بوصفه مديرا للجامعة انذاك -جعله يبدأ المحاضرة بتحية لطفي السيد، ثم لايتحدث عن التعليم الجامعي في الازهر، كاشفا عن القيمة العلمية التي قدمها علماء الأزهر، وكاشفا عن مؤلفاتهم التي لاتقل عن القيمة العلمية في جامعات العالم. أما السلوك الجامعي لطه حسين، فهوي سلوك الإنسان الذي يحترم علمه، ويحترم علم الاخرين، ويحترم مكانته العلمية والثقافية وللوظيفية، ويحترم مكانه الاخرين. وعلي هدي من هذه العقيدة الثقافية، لم يكن يقبل من أحد ان يزيف مكانته العلمية أو الجامعية في قليل أو كثير، فعندما كان طه حسين مديرا للجامعة، جاءه أحد أعضاء هيئة التدريس وقدم له طلبا في أمر يخصه، ووقع علي الطلب (الاستاذ الدكتور فلان) ولم يكن صاحب الطلب استاذاً، بل استاذاً مساعداً، فعلق علي الطلب تعليقاً موجزاً، يغني عن كل إطناب وتفصيل: (ان هذا احتيال لايليق بالعلماء). اين هذا مما نحن عليه اليوم من فوضي الألقاب العلمية والوطيفية والطبقية، فالالقاب مباحة للجميع، بنتهبونها دون وجه حق، فلا مانع ان يضيف الطامح امام اسمه حرف (الدال) دون سند علمي، واذا شاء وضع امام الدال حرف (الألف) علامة علي بلوغه درجة الأستاذية، اما الألقاب الطبقية، فهمي ملقاة علي الطريق لكل من هب ودب. يريد المجانية،. لانني لا استطيع دفع مصاريف الجامع، فقال له : لك ماتريد، لكن لاتهن نفسك مرة أخري عندما تطلب حاجة لك. وهذه الرواية التي رواها ناصف تتوافق مع الرواية التي روتها الدكتور السيد أبو النجا في كتاب سامي الكيالي (مع طه حسين) إذ يذكر انه زار طه حسين وهو وزير المعارف عام 0591 حيث جاءه سكرتير، يخبره بأن أحمد مصطفي عمرو باشا يريد مقابلته لأمر يتعلق بتلميذ يريد ان يقبل بإحدي المدارس الثانوية، فقال له: وماحاجة مصطفي عمرو إلي مدارس للوزارة؟ ان في وسعه ان يرسله علي نفقته إلي اوروبا، ولم يسمح له بالدخول. وبعد قليل جاءه السكرتير مرة اخري قائلا له: ان عسكريا سودانيا يشكو من ان إحدي المدارس الابتدائية رفضت قبول ابنه فيها ، فقال له: (هاته)، وعرف من العسكري ان ابنه كبير السن، وان مدرسة شبرا رفضته لهذا السبب ، فقال طه حسين: ولماذا لا تدخله مدرسة روض الفرج، فهي تقبل كبار السن فعلق العسكري في سذاجة: (ودنك منين ياجحا): واجيب اجرة الترمواي منين؟ فاطرق طه حسين قليلاً، ثم هاتف ناظر مدرسة شبرا ليطلب منه قبول هذا الطالب. ان هذا الوعي الإنساني كان طبيعة فطرية في طه حسين، وهذا ما مايميز بينه وبين وزراء هذه الأيام، فهم وزراء موظفون، اما هو، فهو وزير مثقف، ولذا كان يحترم الفقير قبل الغني، والمحتاج قبل غير المحتاج، وكان هذا مسلكه مع الغريب والقريب، اذا يذكر ناصف ان ام طه حسين زارته وهو عميد لكلية الآداب، فخرج لاستقبال هذه الريفية البسيطة استقبال العظماء علي باب الكلية، واثناء سير الموكب إلي مكتب العميد، اقترب منها أحد موظفي الكلية، وشكا لها ان الدكتور طه حرمه من الترقيه، وكان هذا الموظف من بلدة الدكتور طه، فقالت الأم: ياشيخ طه: أوصيك (بفلان) خيراً، فقال له طه: لقد لجأت لمن لايرد له طلب، ومن الآن لم يعد لأحد عليك من رفض.