تتيح لنا رحلة الشاعر اللبناني الكبير »وديع سعادة« مع الشعر بدواوينها العشرة (ليس للمساء إخوة- المياه المياه- رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات -مقعد راكب غادر الباص -بسبب غيمة علي الأرجح -محاولة وصل ضفتين بصوت -نص الغياب- غبار- رتق الهواء- تركيب آخر لحياة وديع سعادة) أن نتعرف إلي عالم فريد ببنيته الفنية والجمالية، وقد تزاوج فيه السردي بالشعري.. والعادي بالأسطورة.. حافراً في شبكة العلاقات المنسوجة بمهارة داخل النص، التماساً لحقيقتها المستمدة من ديالكيتها الذاتي، وفي انصاتها الي تموجاتها اللامتعينة، بإيقاعها العصي علي الإمساك، والمفضي إلي التيه في الجسد.. فتروغ الكلمات من حمولتها الغائبة لترتدي طابعاً شعرياً. يقول »وديع سعادة«: »أحاول أن أخترع كلمات لاتكون دليل نقيضها. حين تخرج من فمي لاتكون رغبة في القول، بل فعل الرغبة«. لهذا ما فتيء يقول في قصيدته »جمال العابر«: »لا لغة له ولاعادات ولامعلمين ولاتلاميذ عابر فوق اللغة فوق العادات فوق المراتب والأسماء والاقتداء بلا أسم، فوق النداء والمناداة. وفوق الإيماءات، إلا إيماءة العبور. وبلاصوت ، لان الصوت ثقل في الهواء. من هنا، عمد الشاعر إلي منحي مغامر وجريء يتوجه إلي عالم الإنسان الداخلي وهواجسه الجوانية التي تغتذي من رفض المنظور اللاهوتي للعالم، والارتياب من المعطي الحاضر، لإبقاء التساؤل مفتوحاً، والإقامة في الرؤية المحض. ولذا نحن مدعوون إلي إعادة تعريف الرأي، كما العالم المرئي. الأمر الذي جعل لغته متحررة من فائضها اللغوي، ومن هيمنة الهشاشة اليومية، ساعية إلي الوصل والفصل الدلاليين في تبديد البداهة والمطابقة، وإدراك ان الواقع دوماً أبعد مما نظن، وأن كل مقاربة له تتضمن نفياً وتنكراً ليقين ما. يكتب »وديع سعادة« في قصيدته »الصوت«: »بودي إن أكتب رواية عن صوت، خرج ذات يوم من فم وضاع في الفضاء، وصاحبه يجري وراءه عله يعثر عليه. يقال أن الصوت لايموت، يخفت في الهواء رويداً رويداً، لكن لايموت. عند ذاك الذي لايزال فيه بعض حياة هناك ، بودي لو أكتب رواية. وعن هيام صاحبه للقائه مرة أخري. ذات يوم قال شيئاً غريباً وتموج قوله في الفضاء وضاع وضاع هو وراءه طبقة بعد طبقة مرتطماً بهواء وبقايا أصوات ممحوا وراء قوله غير عارف اين صوته ولاعارفاً ماذا قال«. ان قدرة الشاعر معطوفة علي صيرورة صورته الشعرية وبإمكاناتها، تدع المتلقي في فسحة البحث عن ذلك الملاط الخفي الذي يربطه بالحياة، فلايصدق سكونية الحياة الظاهرة، ولاتنطلي عليه بساطتها المراوغة .. بل تظل رمزاً لحياة لاتكف عن الحضور، ومعلماً لصوت لايني يتحول إلي رموز وعلامات، واستثمار للتوتر بين مستويات الإيصال لديه. لذلك ثمة اسم لهذا التعايش بين الإحساس والتفكير عند »وديع سعادة«.. بين الاتصال والانقطاع.. بين المتتابع والمتحايث. هذا الاسم هو »الإيقاع« .. وهو ماعناه »رامبو« في رسالة »البصَّار« بقوله: »أن تفكر شاعرياً يعني أن تعطي شكلاً للهلام.. ان تقول المجهول كما هو«.. يكتب »وديع سعادة« قصيدته« لم يرَ«: »الذي أخذه إلي الطريق وصل قبله والذي أخذه إلي الحافة تأخر عنه يمشي وحده ولايعرف من أخذه ومن رماه اجتاز الطريق واجتاز الحافة ونظر من الطريق ونظر من الهاوية ولم ير أحداً«. هنا يعيش الشاعر لحظة العبور بين »من أخذه إلي الطريق« ومن أخذه إلي الحافة، في حركة لامتناهية تعتمد التقارب - التباعد لعبة بناءة لاختبار وجوهه المتشككة الباحثة عن الانفصال والتجاوز.. مؤكداً ان الهوية والتماثل وهمان يولدهما العود الأبدي.. لذلك غدت الصيرورة هاجساً لإرساء قيم الاختلاف وعلاقات التنوع بين المفاهيم والبشر، وعن الزمان والمكان، وضد كل سلطة نصية وتراث دائم وأفلاطونية محدثة. غير ان التكثيف هنا لايرد إلي المعني في ذاته، بل إلي جملة العناصر التي تكونه كمعني شعري مثل الموسيقي والإيقاع واللغة والصورة حتي ليبدو الشعر وهو يمتح من شغف جمالي مثقل بالحياة، وبنداءات الحلم. وقد سبق للناقد التفكيكي »بول دي مان« ان تساءل عن السبب الذي جعل شعر »ريلكه« يحظي باهتمام كبير في الغرب، علي الرغم من صعوبته وشدة تعقده، وكثرة الشعراء في القرن العشرين، فتوصل إلي نتيجة مفادها أن الكثيرين قد قرأوه كما لو كان يخاطب أشد المناطق عزلة في نفوسهم، ملقياً أضواءه علي أعماق قلما توقعوا وجودها، أو متيحاً لهم أن ما أحسه حيال شعر »وديع سعادة« في همسه ووميض صوره وجماليات انزياحها وطيفية لغته، فنكون أحسن إصغاء، وأقل يقيناً.. مفضياً إلينا كما في قصيدة »الصرخة«: »بودي أن أكتب رواية عن صرخة خرجت من فم شخص وهو يموت، وهامت في الفضاء ثم عادت تبحث عنه صرخة تريد الرجوع إلي الفم الذي خرجت منه إلي رحمها، نبعها الجاف. بودي أن أكتب عن صرخة تعود إلي صاحبها الميت وتعرف ماذا كان يريد أن يقول. بودي أن أعرف ماذا يقول ميت لصرخته وماذا تقول الصرخة للفضاء«. متطلعاً دوماً إلي »الخطوة التالية« عبر إعادة النظر في الوجود بما هو موجود، وخلخلة الثابت منه، فتولد الفوارق، وينشأ الاختلاف، مما يسهم في تفكيك المعني، ونقد مسلماته.. أو بتعبير الفيلسوف الفرنسي »بول ريكور«: »مايعني أن هذه الفكرة لاتستند في وجودها إلي إمكانية بلوغها، وإنما بالتدقيق إلي كونها واجباً للتفكير.. وهو مايستتبع القول بأن مايقابل التاريخ علي الطرف الآخر من التعارض الذي انطلقنا منه ليس هو الحقيقة كفكرة مجردة، وإنما سعيي أنا الشخص إليها«.. علي نحو مانلمسه، مثلاً في قصيدة »أغنية الحافة«: وضع قدمه علي النقطة الأخيرة للحافة وراح يغني لنسمة العدم الأولي التي ستمر علي جسده وللفضاء الذي كان فارغاً وسيمتليء به الآن. وطأ علي النقطة الأخيرة وراح يغني: في الفجر تطلع الشمس وفي المغيب تغيب والسنة فصول أربعة فيا للحياة الجميلة، النهار ضوء ان لم تكن غيوم والليل عتمة فيا للحياة الجميلة، وللناس بيوت والساكنون فيها مهما مشوا لايصلون إلي الباب فيا للبيوت للجميلة. وضع قدمه علي الحافة وغني لمزق ثوبه التي لمح فيها ذات يوم ابتسامة للفجر وثغراً كاملاً للغروب ولحياته التي رآها مثل حريق شب فجأة في نزهة.. وضع قدمه علي النقطة الأخيرة للحافة وراح يغني وبذلك استطاع »وديع سعادة« ان يخلق علاقة متوترة مع لغته.. ماضيو.. وراهنه.. عبر وعي حاد بأن الكائن تحول.. وبإدراك لحركة الزمن.. وهو لايبحث عن طرائده في معني بكر فحسب، بل يبني نصه علي نسيج مرجأ.. علي صمت وفراغ، بحيث يكون لدينا دوماً لايري داخل حقل الرؤية ذاته. لذا هو عدو الذاكرة التي تحيل إلي نموذج سابق وآلية استرجاع ووهم استعادة.. ساعياً إلي بناء قصيدته علي شك ينهض علي غياب.. علي نسيان الوجود أنطولوجياً.. ونسيان المجاز الذي يحكم سطوته علي التصورات أبستمولوجياً.. مقيماً ذاته القلقة المتمردة ضد كل تكريس وإطلاقية وثوقية.. منقباً في الروح عن حرائق وأسئلة معلقة ولحظة تصدع.. فاللحظة كما يقول »نيتشه«: »ليست أصغر جزء من الحاضر، بل إنها تفتح الحاضر أو تصدعه«.. واللحظي هو »مايقوم ضد الزمن الراهن.. انه قرار التاريخ النقدي الذي يهبط مثل المطرقة علي ثقل الماضي وثقل الحاضر«. ألست القائل في قصيدتك »يد أخري«: »الذي كانت له يد بقبضة وأصابع وتريد أن تلتقط كل الأشياء له يد أخري الآن ترفع مزهوة قبضة فراغها«؟