السلام عليك يا فؤاد، أتخيلك الآن وقد بسطت حياتك أمامك، تمر كريما علي كل ما منحته وكل ما منعوك إياه، تستوقفك التفاصيل الأكثر رهافة من نصلٍ مُوغلٍ في جسد الوقت؛ ليقتطع ذكري يوم عيدٍ، قضيناه في شوارع مدينتي القابضة علي تقاليدها الريفية، صغيران يشهدان جنازة ليلية، يرفع فيها المشيعون مصابيح تنير وجوههم الحزينة، فتلْتهمُ عيناك المشهد بنظرة جامدة، ثم يعلن صوتك الآتي من مكان بعيد عن رغبتك في رؤية المقابر.... نظرتك الجامدة التي سقطت في هوة زمنية مقدارها ثلاثون عاما، ضربتني اليوم في مدينتك المصابة بالعماء؛ ليحملك المشيعون هكذا علي مِحفة ملفوفا في كفن أبيض، لا يُغني من إخفاء فعلة السرطان: أطراف ناحلة وبطن ضخّمه الورم... أي عزاء سألتمسه من حدسك أن نظرتك في ذلك اليوم البعيد لم تكن سوي صرخة مبهمة لروح تنشُدُ للجسد الذي سكَنَته رحيلا في صندوق نعش أخضر متشبثة بحكمة أبناء الريف المؤمنين بالستر كهبة وحيدة ينتظرها الميت. لأن الزمن أزمنة، وأنا لست غيري؛ فلن أحدثك عن نشيجي اللامعني باستدعاء ذلك المشكوك في فنائي أمام طغيان حضوره، الماضي دون ضمانة بشأن إذابة كياني في ضمة جناحيه (1)... الملاك الذي لازمك خمسة وأربعين عاما مكتفيا بتمرير المراكب الورقية في ممرات معتمة، وعدتني ذات مرة بتسليمي خريطة لها بعد انتهائك من وضع مفتاح.. لم يكن سوي دمعتين بينهما قطرة دم... الملاك الذي تحصن جيدا ضد عتاب ذ كعادتك ذ لم تُقْدِمْ عليه، يصعد اليوم إلي السماء بشعور من أُحيل إلي التقاعد، وقد اختلطت لديه بهجة الراحة بحُرقة الندم، دون أن يكلف نفسه عناء النظر في نشيج سأدرك لاحقا صلاحيته كمفتاح لرقعة واسعة من خريطة ممراتك السرية الشاهدة علي رحيلك دون الوفاء بوعدك لي.. أمك التي سبقتك إلي هناك بخمسة أيام، ستستقبلك بالسباب الفاحش جراء سعادة لم تذق مثلها طوال حياة كانت الوفرة فيها لنوم الهاربين من أحزانهم، عوض ما فاتك من الصحبة بدلا من إهدار ما تبقي علي القيامة في تصنع ما عشت فاشلا فيه؛ فأنت في النهاية مصاب بعجز نبوي يحرمك من امتلاك عبوة وقود، تفرغها بالكامل قبل أن تُشْعِلَ عود الثقاب في كومة قرابين تفنن البشر في تكديسها عند عتبة إلهٍ اسمه الغضب... قميصك النظيف الواسع، قميصك المتألم من الانحناء المتعمد لقامتك القصيرة وجذبه للأمام، قميصك اليائس من حدوث معجزة... رأيته معلقا بجوار الباب، لا أحد يجرؤ علي الاقتراب منه، لا أحد يجرؤ علي التنفس في حضرته... سيبقي معلقا هكذا حتي تئول ملكية البيت إلي غرباء، فتبدد شهوة التملك الحس بوطأة تاريخه، ودون الالتفات لبقعة من الحائط احتمت به من عيون مثقلة بالندم والتقصير، سينزلونه؛ ليبدأ مع جسد آخر حياة جديدة، تعلمه المجاهرة بآلامه، والامتنان ليقين أسطوري بلا جدوي آثار دم كذب أو مخالب ذئب حيال الشعور بإدانة حاولنا تفاديها بالنأي وكتم الأنفاس.. دون الحاجة إلي رهافة نصل موغل في جسد الوقت، أصل صيفا في منتصف التسعينات، قضيته بمشاعر مُجمدة ردا علي مؤامرة حاكتها يد القدر عبر مؤسسات عدة، وختمَتها لتجريدي من أي بطولة بمأساة تافهة لسرقة حذائي الوحيد... يومها، هبطت علي - يا فؤاد- بحذاء جديد... وكنبيل يتحاشي الحديث عن عطاياه.. محوت المسافة بين المُحسِن والمُحسَن إليه بمطعم الوجبات السريعة والإغراق في المياه الغازية المثلجة والرؤية الفنية لخيري بشارة ( 2 ) الذي غافلنا واشتغل علي مادة حياتك بقسوة ألمٍ سيلاحقني حتي القبر؛ لحقيقة كونك القلب الدسم لثمار البندق التي سقطنا جميعا عليها بشراهة، ستصير مع السنوات جبالا من الندم الأسود، ما كانت المراود لتفنيها؛ وقد تغافلنا عن مُضيك إلي بيت العائلة المهجور منكفئا علي أحزانك وآلام ورم يسعي بلا رحمة لقطع الطريق علي طعامك وشرابك اللذين طالما تخليت عنهما لأول محتاج يصادفك... الفرعون الذي أدخلته غرفة الإنعاش ( 3 )؛ ليحكي بكلماتك عن انكسار الروح بعد نصرأكتوبر، صادفته في جنازتك.. محني الظهر زري الطلعة. أخبرني كيف قضي الليل في البحث عن المخطوط، وأن ضياعه مثل موتك ينتمي لسلسلة من الخذلان طالما عرضته لها... هو الذي عاش يحلم بحياة علي بخشبة المسرح حيث الإقبال الجماهيري ونسب الأرباح والأضواء الباهرة الحريصة علي عدم الاقتراب من الكواليس خشية التورط في مشهد تتصدره بحلة رسمية وأنت تقضم أظافرك قلقا من التفكير بشأن عرضك الكبير القادم الذي لم يستقم لك إلا في نهايته حين سدد البطل برحيله إلي مكان مهجور صفعة لكل من خذلوه وللحياة والموت المتحركين في حدود وهمية أبصرتُ عبرها الفرعون وقد غادرني؛ ليسقط إلي جوارك في نوم عميق قبل أن يغلقوا عليك القبر ويرحلوا إلي عرض آخر... مقاطع من نص طويل مُهدي لصديقي وابن عمي ( فؤاد محمد حسن ) الذي عاش حرا ومات حرا ( 1 ) مراثي دوينو، راينر مارية ريلكة. ( 2 ) فيلم قشر البندق. ( 3 ) فرعون في غرفة الإنعاش.. عنوان نص مسرحي ألفه فؤاد محمد حسن، ثم تخلي عنه... الإسكندرية