لا يجب ان يحمل هيكل او يقيم من فريق مضاد له في الافكار والتوجهات والانحيازات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، من خلال كتابات هيكل وحده، انما يجب ان تحمل الظروف الموضوعية لحالة الامة "يقال ان أينشتاين سأل مرة صديقا، ماذا تقول في انفاسك هل هي حارة أم باردة؟ فرد الصديق قائلا انها حارة. فقال أينشتاين ولكنك تنفخ في الحساء حتي يبرد .. ففكر الصديق لحظة وقال، معك حق. ان النفس بارد.. فقال اينشتاين ولكنك تنفخ في يديك لتدفئتها، ففكر الصديق قليللا وتملكته الحيرة .. فقال له اينشتاين .. ان النفس بارد بالنسبة الي الحساء، وحار بالنسبة الي اليدين.. فالمسألة ليست في النفس ولكن في نسبته الي الاشياء.." اعتقد ان هذا يمثل مدخلا هاما عند الحديث او التعرض لشخصية تعد من اكثر الاشخاص في تاريخنا المعاصر كانت ومازالت مثارا للجدل .. للمديح تارة باعتباره الاستاذ بحق .. وللنقد تارة باعتباره شكل احد اركان نظام يوليو الذي مازال قيد التقييم بإخفاقاته ونجاحاته.. فبين هيكل وخصومه سنوات وسياسات وتصريحات وكتابات واحاديث.. من يتعامل معه بأنه مرجع للعروبية والناصرية وركن من اركان نظام مستبد غير ديمقراطي، وبين مريديه الذين يضعونه في مصاف المنزهين عن الاخطاء انبياء التحليل والتكثيف والتعاطي الخلاق مع قضايا امته .. وصاحب القدرة الثاقبة علي قراءة الاحداث واستشراف المستقبل. وبين هذا وذاك وهؤلاء واولئك .. فإن هيكل يحتل بالطبع مكانة وموقعا وحيزا وفضاء مميزا في الثقافة السياسية والحضور الاعلامي والقدرة علي ملء الفراغ سواء السياسي ام الفكري ام الاعلامي في الواقع العربي علي وجه العموم والمصري خاصة. لا يغفل اي باحث في تاريخ الفكر المصري المعاصر، خاصة بعد تأسيس الدولة الحديثة من خلال مشروع محمد علي لادخال مصر عصر العصرية وما مرت به من عثرات واخفاقات، ان المجتمع المصري بشكل عام كان مجتمعا قليل التجربة بالممارسة السياسية الحديثة مثله مثل باقي المجتمعات العربية، ولا يزال يعيش في قسم كبير منه يعتمد في اعادة انتاج لحمته وتضامنه الداخلي الي حد كبير علي هياكل ومؤسسات وقيم قديمة، ترجع الي ما قبل الدولة المدنية الحديثة، أي العمل في اطار تضامن يجمع الافراد من وراء ارتباطاتهم وانتماءاتهم الخاصة. وبالتالي في انتقال الخبرة، وبالتالي في تراكم تجربة سياسية حديثة قائمة علي الديمقراطية بكل ما تشتمل عليه من ممارسات نموذجية وتقاليد وقيادات. فاذا كان هذا حال المجتمع، فمن الضروري ان يفرز قادته (مفكرين سياسيين اعلاميين) من هذه البيئة الملتبسة. من هنا .. يمكن القول ان هيكل باحتلاله هذه المكانة المتميزة، يمثل مديحا او تقريعاً بناء علي تقويم دور هيكل عبر السنين، مع انه قام بتحديث طريقة الاعلام والابحاث في العقود الاخيرة بعد زوال تأثيره علي صاحب السلطان.. حيث كان هو النموذج الحي لصحافي السلطان.. ولم يستطع عبر هذه العقود ان يتبرأ من مسئوليته خلال الفترة الناصرية وحتي عام 1974، عندما ترك او ازيح من صومعته (صحيفة الاهرام) وذلك لتأثيره العميق وحضوره المؤثر سواءً علي النخبة السياسية والثقافية ام علي القطاعات الجماهيرية العريضة . نعم .. لم يبتعد هيكل عن اي نظام الا اذا ابتعد النظام عنه، فرغم هجومه الحاد وموقفه العنيف من الرئيس الراحل انور السادات، الا انه كان من صناع صياغة قراراته ومانح الكثير من شرعيته خلال الاربع سنوات الاولي من حكمه، حتي انقض عليه الرئيس السادات بخروجه من الاهرام ثم رد هيكل الانقضاض بآخر في خريف الغضب. لكن ... كل كلمة تخلو من فضيلة الانصاف، تزروها الرياح ولو حشدوا لها الف كاتب وخطيب، واذاعوها بأعلي الحناجر .. ان من يهاجمون هيكل صياحا او كتابة او بحوثا.. متجاوزين دوره وحضوره وتاثيره تحت ما يسمي مساهمته في تضليل عقول المصريين وانه كان اداة لنظام سياسي قاهر ومستبد ومحاولاته مع النظام الذي عبر عنه وكان اداته الاعلامية، في تطويع الجماهير لاهداف هذا النظام لاضفاء التأثير الشعبي لنظام اجتماعي يخدم النظام السياسي.. الا انه وللانصاف .. فالحكام لا يلجأون الي التضليل الا عندما يبدأ الشعب في الظهور كارادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية .. اما قبل ذلك فلا وجود للتضليل. لا يجب ان يحمل هيكل او يقيم من فريق مضاد له في الافكار والتوجهات والانحيازات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، من خلال كتابات هيكل وحده، انما يجب ان تحمل الظروف الموضوعية لحالة الامة.. فهناك امم فرضت علي نفسها الوصاية بإرادتها نتيجة عجزها عن استخدامها واستثمارها لمواردها الحقيقية بذكاء وارادة وشجاعة خلاقة تستوعب المغاير وتخترق المألوف بغية الوصول الي حالة من الترقي والنهضة بل والاكثر من ذلك فهناك نخب سياسية كبيرة وقامات رفيعة فرضت علي الامة وصايتها وعلي المجتمع ايديولوجيتها وراحت تحتكر القيم.. فهيكل لم يكن خارج هذا السياق.. بل وللانصاف كان اكثر حيوية من النظام الذي انتمي اليه واكثر حصافة من توجهاته واعمق رؤية من خيالاته.. واذكي حركة وحراكا من معظم نخبته. فحقا جسد هيكل مقولة الكواكبي حينما قال: ان الترقي يعني الحركة الحيوية اي حركة الشخوص والمجتمعات، ويقابله بالضرورة الهبوط وهو الحركة الي الموت او الانحلال .. واذا رأينا في امة اي امة - اثار حركة الترقي هي الغالبة علي افرادها حكمنا لها بالحياة، ومتي رأينا عكس ذلك قضينا عليها بالموت.. فمازال هيكل حيا يحاول ان يكون مؤثرا، ويلعب دورا سواء تعليقا علي ما يحدث ومحاولة تفسيره ام استشراف ما سيحدث بحكم خبراته، (حواراته التليفزيونية التي لم تنقطع) ام مشاركا كطرف له حيثية تاريخيه (لقائه مع المعزول محمد مرسي ولقائه مع احد قادة الاخوان محمد علي بشر وعمرو دراج) ... هيكل .. انه عنوان للحياة رغم الامزجة المتباينة...