فتّح يا ابن الكلب.. هو أنت أعمي يا بهيم؟ صاح بالولد يشتمه، لكنه في حقيقة الأمر كان يعتذر للرجل الذي اصطدم به وهو يرفع قدمه متخطيا الدرجة الأخيرة للسلم، لا الرجل العجول قال شيئا، ولا الولد الذي لم ينبهه مسبقا لنهاية الدرج المؤدي للطابق الخامس ليأخذ حذره، في الحقيقة كانا قد وصلا لسطح المبني الذي ارتفعت علي إحد جوانبه ثلاثة أكشاك خشبية رمادية كالحة وقميئة في مربع ناقص ضلع، أكشاك مليئة بالأوراق والملفات القديمة في دواليب متربة يعلوها الصدأ، ومكاتب متراصة ومقاعد قديمة متهالكة، كأن فيضان المبني بطوابقه الأربعة الأساسية قد أخذ طريقهللسطح ليتخفف ويستريح بكل هذا الغثاء من البشر والأثاث. أنت عيل قليل الأدب.. وحمار. واصل الشتم، وكأن الولد لم يسمع شيئًا، أو ربما بحكم الاعتياد صار محصنا وفاقدا للاهتمام، قاد أباه الذي يعتمد بكف علي كتفه ويقبض بالأخري عقفة عصاه صوب الأكشاك قائلا له ببرود بال: وصلنا. فلاحقه الأب الكفيف بنفس اللهجة الساخرة: شاطر يا خوي.. فالح زي أمك. وأخذ نفسا عميقا، كأنه عداء وصل لنهاية ماراثون مجهد من خمسة طوابق لمبني إداري قديم، تفوح من جدرانه وشقوقه عفونة خانقة، توقف وجذب كتف الولد، ثم هزَّه وسأله: الورق معك يا حمار؟ توقف الولد ولم يرد ، كانت كفه قابضة علي مظروف أصفر قديم، وهو يمسح فضاء الأكشاك المعتم من نوافذها المشرعة، باحثا عن بني آدم يوحد الله فيها، لم يجد سوي سيدة بدينة، ترتدي ثوبا رماديا، وتميل برأس متعب وأجفان نصف مغمضة علي ساعدين مكتنزتين متصالبتين علي سطح منضدة. ما ترد يا بن الكلب.. فين الورق؟ كان الولد يرتدي قميص كاروهات مفتوح الصدر باتساع علي جسد ممتلئ قليلا، ربما لغياب بعض الأزرار العلوية، أو لأن كف الأب المعتمدة عليه كانت تجذبه دوما لأعلي، وقد ضمر كميه في طيتين، وبنطلون جينز قديم يسقط حتي أصابع قدميه المتسخة، التي تطل من فتحتي شبشب بلاستيك مفلطح. صوت الأب وهو يشتم كان عاليًا ورنانًا وقويا في صمت السقف، بدرجة لافتة للسيدة في عمق الكشك، أدركت من مكانها أنه لا يتناسب مع قوامه النحيف والضعيف الضائع في جلباب أبيض مقطب، وتأملت رأسه المغطي بطاقية قماش بيضاء متسخة الحواف، مائلاً قليلاً للخلف، بزاوية لم تتبين منها عينيه العمياوين أو طاقتي أنفه أو حتي لحيته الخفيفة، فقط .. رأت فمه الكبير الذي يملأ وجهه مفتوحاً كمكبر صوت علي أسنان صفراء ولا يكف عن الشتم. مصمصت شفتيها وتمتمت "سبحان الله"، كانا معا الأب والابن بهذا التباين الواضح ككائن واحد متكامل ومتكافل. مال الولد علي أذن أبيه وهمس فيها، ودس المظروف في كفه، كأن دوره قد انتهي عند هذا الحد ليبدأ الآن دور أبيه، وسحبه عدة خطوات مقتربا من النافذة. ماشي يا بهيم. قال الرجل وهو يلوح بالمظروف ويهزه صائحًا: سلام عليكم. ردت السيدة علي السلام بسلام. لم يعرف الرجل في ظلمة عينيه من صوتها إن كانت السيدة موظفة بالإدارة أم أنها مجرد عاملة بسيطة، وتحرج أن يسألها، لكنه شرح لها مطلبه، سائلا إياها عن الموظف المختص، قالت له: نزل من دقايق. لم تقل له أنه هو الرجل العجول الذي اصطدم به عند باب السقف، لأنها لم تر الواقعة، فقط سمعت الشتيمة وانتبهت. تحير الرجل قليلا وسأل مستفهما: مش فاهم. ومال بصيوان أذنه نحو مصدر صوتها. باقولك نزل يا عم.. راح يصلي أو يقضي مصلحة. هز المظروف يذكرها بأهمية مطلبه وقال: يعني.. لم يكمل لأنها قاطعته: يعني انتظره.. يمكن يرجع. أكد عليها برجاء مؤمل: يعني ح يرجع. كانت توسد رأسها ساعديها عندما غمغمت: إن شاء الله. حرر كفه من كتف الولد، واستدار منزلقا بجوار الحائط الخشبي، مقرفصا بخيبة أمل كست ملامحه، ومنتظرا رغم أنفه بإحباط هائل، والولد كطائر اعتق من فكي فخ أبيه القويين، انطلق يجري علي السقف سريعا مستمتعا بحريته. راحت أفكار الرجل تروح وتجئ تحت طاقيته البيضاء، أي صلاة الآن سيصلي هذا الموظف، صحيح أنه أحس بحمأة اقتراب الظهيرة، لكن الموعد ليس موعد صلاة، راح يشتم في سره الموظف ومدير الإدارة الذي ترك لموظفيه الحبل علي الغارب. عندما تعب الولد من الجري وهو يصيح "بيب.. بيب" مقلدا سائق عربة، راح يطل من فوق السور القصير للسقف لحركة الشارع أسفله، تأمل عربات التوك توك الكثيرة بلونها الأسود وهي تجري كخنافس صغيرة جائعة تنقض علي الركاب، وتمني في قرارة نفسه أن يقود إحداها في يوم من الأيام، وصك أذنيه صيحات الباعة الجائلين علي الرصيف ، وكومة الزبالة المرتفعة بجوار المبني المقابل، وتلاميذ مدارس هجروا فصولهم وتجمعوا في جماعات صغيرة عند أول شارع الدروس، وتوقفت عيناه فوق زحام قبضات أيد مرفوعة في جماعة أمام محل فول وفلافل للشراء، واقتحمت أنفه بقوة رائحة الطعمية الساخنة في إناء الزيت الأسود، صوصوت عصافير بطنه فلم ينتظر، جري نحو أبيه ومال معتمدا علي ركبتيه، وهمس في أذنه، فدفعه الرجل بيده صائحا: من فين يا بن الكلب يا طفس؟ نظر الولد تلقائيا نحو السيدة محرجا، تبين أنها غافية وغير منتبهة، فمال علي أذن أبيه هامسًا مرة أخري بإلحاح طفولي، فدفعه الأب مرة أخري: وحد منعك ما تفطرشي يا حمار يا بن الحمار؟ فرفع الولد صوته محتجًا: يا لله بقي.. أنا جوعان. دسَّ الرجل يدا مترددة في جيب جلبابه، أخرج بعض العملات المعدنية، راح يتحسسها ليعرف قيمتها، وهو ما زال يتمتم: كلني .. وغمس باللي جابوني يا ابن الحمار. استقرت أصابعه علي قطعة نقدية وأعاد الباقي لجيبه: خد .. وهات لي معك سندويتش.. باين القعدة ح تطول. اختطف الولد قطعة النقود وانفلت مسرعًا نحو السلم. فصاح به يذكره: ما تنساش الطرشي يا بهيم. لم يرد الولد، ولما لم يجد الرجل أمامه أحدا يشتمه، راح يشتم في سِره كل موظفي الحكومة في بر مصر، وتذكر رئيس المدينة كمسئول فشتمه، والمحافظ كمسئول أكبر وشتمه. عندما أكل كل منهما شطيرة الطعمية، كان اليوم قد عبر منتصفه بكثير، ولم يأت الموظف. قال لابنه يقطع الصمت: عاوز أشرب. تطلع الولد بتلقائية في أرجاء الكشك الخشبي، كانت السيدة قد نهضت من غفوتها وحملت مقشة، راحت تكنس بكسل بعض الأوراق المتناثرة علي الأرضية المتربة، فسألها عن ماء للشرب، دون أن ترد، مالتْ تحت أحد المكاتب وناولته عبوة بلاستيكية فارغة، ودلته علي مكان دورة المياه في الدور الرابع، اختطفها الولد وجري، وما لبث أن عاد بعد دقائق. شرب الرجل وحمد الله، وبلل وجهه ورقبته بالماء، ولم يأت الموظف. عندما سألها للمرة العاشرة، أجابت بآلية كالمرات السابقة: ربنا يسهل. كانت تعرف بداهة أن الموظف لن يأتي، لكنها لم تقل ذلك صراحة، لأنها وجدت في وجود الرجل وابنه معها رفيقين أنيسين تقطع بهما الوقت قبل حلول الانصراف. وجد الولد علبة عصير فارغة، راح يضربها بقدمه كالكرة في الحائط، ثم يجري وراءها، متخيلا نفسه يغازل أولادا مثله في مباراة حامية، غير آبه بحرارة الشمس. وعندما كان الولد يسجل هدفا رائعا في مرمي الخصم، ويصفق فرحًا، كان الأب يشتم رئيس الحكومة شتيمة داعرة بصفته رئيسا لكل موظفي عموم مصر، ويشتم الوزراء كل أحد باسمه، ويشتم كل أعضاء مجلسي الشعب والشوري من الأحزاب والمستقلين من التيارات المدنية والدينية، وتذكر رئيس البلاد.. إنه المسئول الأكبر عن كل هؤلاء، فراح يشتمه بكل أنواع الشتائم القبيحة التي يحفظها قاموسه، وقال لنفسه: إن هذا الموظف الكلب لو عاد الآن، سوف أقبض علي زمارة رقبته، لن أتركه حتي يلفظ أنفاسه وأريح الناس منه.. وكانت كفه آنئذ تتشنج علي المظروف وتخنقه في هذه المعركة الوهمية. وعندما تعب من الشتم والعراك غفا، وتدلي رأسه بين ركبتيه، يهتز برتابة مع أنفاسه المنتظمة المذيلة بشخير خفيف. مر الوقت بعد الظهر بطيئا ومملا متجاوبا مع حرارة الشمس، وطنت ذبابات كثيرة لحوحة في فراغ الأكشاك وحولها، وتعملق الصمت إلا من الأصوات التي تتسلل بين الحين والآخر من أعلي سور السطح، وبدا أن هذا اليوم الوظيفي لن ينتهي، وأن الموظف الذي زوغ مبكرًا لن يأتي في هذا النهار أو غيره. عندما حان موعد الانصراف، تناولت السيدة القفل المعلق علي مسمار ونهضت، من النافذة رأت الرجل المقرفص غافيا تحتها، وقد سقط المظروف الأصفر أمامه، كان يغمغم بحلم لذيذ ويبتسم، الموظف أنهي طلبه، وكان يرفع كفه بمحاذاة حافة طاقيته البيضاء ويحني رأسه المائل للأمام ويقول له: شكرا يا أصيل.. استيقظ علي صوتها تناديه: اصح يا عم.. اصح. كان يفيق من غفوته، عندما قالت له: معلهش يا عم.. ابقي تعالي بدري شويه. تحسس الرجل الأرض والفراغ أمامه بجذع، حتي اصطدمت يده بالمظروف فقبض عليه بقوة، ونهض معتمدًا علي ركبتيه وعصاه، لم يجد لديه رغبة للرد علي السيدة، ومن ثم مال برأسه للخلف ونادي علي ابنه: يا عماد .. يا واد يا عماد.. أنت فين؟ عرفت السيدة وهي تضع القفل في الباب لأول مرة أن الصبي اسمه عماد. كان عماد بعد أن مل من قذف العبوة بقدمه، والجري وراءها، مسجلا عددًا لانهائيًا من الأهداف، قد جلس في أحد الأركان يكورها ويبططها ويصنع منها أشكالا مختلفة. وكانت السيدة تبتسم، وهي ترقبهما وهما يمضيان معا، كف الأب علي كتف الابن وقد توحدا في كائن واحد مجددًا، كائن واحد يجرجر أذيال خيبة الأمل. عندما اجتازا بوابة السطح، لم ينبه الولد أباه لأول درجة في السلم فكاد أن يتعثر بها، فصاح به وقد استعاد صوته القوي يشتمه: فتح يا ابن الكلب.. هو أنت أعمي يا بهيم؟ واتسعت ابتسامة السيدة وهي تمضي خلفهما نازلة لتوقع في دفتر الانصراف.