في نهاية العام 2004، زرت كردستان العراق ضمن وفد صحفي مصري وعدت لأنشر في "أخبار الأدب" ملفاً كاملاً حمل عنوان " الجنة التي شوهها صدام تعيد فتح أبوابها- الحكاية من وجهة نظر الضحية" والهدف منه لم يكن "إثبات شيء أو نفيه.. مجرد محاولة للاكتشاف والمعرفة". وقتها كان الكلام صاخباً عن تقسيم العراق، وانفصال الكرد بدولة خاصة لهم، وهو ما نفاه كل من التقيتهم وقتها مقدمين الحجج المختلفة المستندة علي التاريخ والجغرافيا. الغنيمة الكبري من تلك الرحلة كانت لقائي بالشاعر الكردي الأشهر شيركو بيكس، والذي رحل عن عالمنا هذا الأسبوع في إحدي مستشفيات السويد عن عمر ناهز ال 73 عاماً بعد صراع مع مرض السرطان. أعادني خبر رحيل شيركو إلي تفاصيل تلك الرحلة، إلي المخاطر التي رافقتها، الانتظار علي الحدود السورية العراقية لثمان ساعات قبل السماح لنا بالمرور، الطرق البدائية التي كان علي دليلنا السير فيها لتجنب طريق الموصل المليء بالمسلحين من شتي الفرق.. العبور بعرباتنا علي بحيرة فيش خابور فوق مراكب بدائية وفي حراسة مسلحين، بالطبع لم يكن ذلك شيئاً بالنسبة لمن يقرر الذهاب إلي بغداد وقتها، زيارة أقرب إلي قرار الانتحار. في كردستان العراق كان الاكتشاف الحي والواقعي علي الجرائم التي تم ارتكابها باسم القومية العربية، تهميش ومحاولات إبادة جنس بالكامل لاختلاف لغته وتقاليده وأفكاره.. كنا علي أرض عربية كما يفترض، لكننا كنا أغراباً وسط أزياء ولغة وطبيعة كلها تعاند ما نعرفه ونؤمن به، ولك في حالة كتلك أن تسأل عن كم الأعراق الذين تم دهسهم باسم تلك "القومية" في كل بلد عربي، وعن أن فشل هذه السياسة أتي تحديداً من هذه الرغبة المستعرة في القضاء علي كل مختلف داخلها. وليس ما سبق مجرد تداعي لذكريات صحفية نبشها خبر رحيل الشاعر شيركو بيكس، لكنه نظرة إلي ما فعلته بنا نظرية سياسية محدودة الرؤية والأفق، جعلتنا نجهل ونتجاهل مكون رئيس في الثقافة العربية كان بوسعه اغنائها كثيراً. في هذا الإطار، محاولة الفهم والمعرفة، أتي حواري مع الشاعر شيركو بيكس تحت عنوان "الشعر ليس أقدم من دم الطفل الذي يُراق في قريته". التقيت شيركو في مؤسسة "سردم" الثقافية التي كان يشرف عليها وتولت إصدار كتب ومجلات. دور ثقافي مشبوك بدور سياسي اقترب وابتعد عنه مرات بسبب خلافات في وجهات النظر والرؤي، بسبب إيمانه والتزامه بحرية التعبير وإن تعلقت بقضية تخالف رأيه. والقصة أنه كان لاجئاً سياسياً في السويد في الفترة من أواخر عام 1986 إلي 1991 العام الذي قامت فيه بكردستان انتفاضة شعبية عارمة ضد صدام حسين، سحبت علي إثرها الحكومة العراقية إدارتها من العراق.. في 1992 تم إجراء انتخابات عامة في كردستان فرشحت نفسي كشاعر مستقل علي قائمة الخضر وتم انتخابي من قبل الناس كعضو في أول برلمان في تاريخ كردستان، ومن داخل البرلمان رُشحت كأول وزير لوزارة الثقافة في حكومة كردستان. كنت متردداً في قبول المنصب لأن في قرارة نفسي كنت أخاف من ضياع الشعر داخل هذه الدوامة الوظيفية، ولكن نتيجة لإلحاح من قبل الأصدقاء وافقت علي قبول المنصب. في ذلك الوقت كانت الظروف الاقتصادية رديئة جداً ولم نكن نملك شيئاً يذكر، وبقيت في الوزارة سنة وثلاثة أشهر فقط ولم أكن مطمئناً من الناحية النفسية، ولم أكن معتاداً علي الجلوس علي كرسي وزاري، وبما أنني كنت وزيراً للثقافة كنت مسؤولاً عن حرية النشر والصحافة وعن الخروقات التي تحصل هنا وهناك، وكان أول صدام فعلي مع محافظ أربيل حيث قام بغلق جريدة دون الرجوع إلي القانون وكانت هذه الجريدة لسان حال حزب كردي، وأنا لم أكن أحب توجهات هذه الجريدة علي الإطلاق، ولكن غلق أي جريدة هو عمل غير قانوني وغير ديمقراطي، لذا فإنني اتخذت موقفاً صارماً فإما أن نحترم القانون وإما أن أستقيل من وظيفتي، وفي النهاية استقلت من منصبي (...). السياسة والنضال مكون أساسي من شخصية وإبداع شيركو بيكس، وعلاقته بها لم تكن قراراً من فنان استهوته التجربة، في بيئات مقاومة يصبح فعل الاختيار رفاهية. ومسيرته مع الثورة الكردية ضد صدام حسين طويلة بدأها وهو في الخامسة والعشرين من عمره. سألته يومها عن علاقة المبدع بالثورة: كيف تري هذه التجربة كشاعر؟ أعني أنه وطوال الوقت وإذا كنت مبدعاً وثورياً، يظل المبدع يراقب الثوري ويصدر أحكامه عليه، فكيف تري ذلك؟ اتأمل سؤالي الآن وينتابني الشعور بأنه كان بالفعل سؤال القادم من عالم "الاستقرار" الذي لا يحدث فيه شئ إلي آخر يموج بالصراع.. ربما لهذا لم يلتفت إلي ذلك