دراما رمضان هذا العام كان لها ملمح أدبي. كان من المثير للغاية أن يعرف المشاهدين، خاصة المهتمين بالأدب منهم، أن رواية »ذات« لصنع الله إبراهيم سيتم تحويلها إلي مسلسل درامي، هذا هو العمل الأول لصنع الله الذي يتم تحويله لمسلسل. كانت هناك أسئلة كثيرة فيما يخص الشكل الذي ستستقبل به العائلات المصرية رواية الأديب اليساري الصادم. عمل آخر انتظره المشاهدون هو »موجة حارة«، المأخوذ عن رواية أسامة أنور عكاشة »منخفض الهند الموسمي«، وهذه المرة كان السؤال مختلفاً، هل يمكن لمشاهدي عكاشة الاستمتاع برواية كتبها هو وتحولت إلي مسلسل درامي علي يد شخص آخر؟ البطل في الحالتين كانت كاتبة السيناريو »مريم نعوم«، هي التي قامت بتحويل كل من الروايتين إلي أعمال درامية. مريم، التي حصلت من قبل علي جائزة ساويرس علي سيناريو فيلم »واحد صفر«، وتحول بعدها إلي فيلم سينمائي يرصد واقع مصر في الألفينيات، هي ابنة الروائي نبيل نعوم، بما يعني أن الخلفية الأدبية كانت متوافرة عندها وهي تقدم علي تقديم مسلسليها هذا العام. يبدو واضحاً للوهلة الأولي أن مسلسل »ذات« يختلف عن الرواية ، فبينما يميل صنع الله إبراهيم إلي الكتابة المحايدة التقريرية، يميل إلي كتابة آلية ساخرة في جمل قصيرة، وقليلاً ما يتعاطف مع أبطاله، نلمس في المسلسل تعاطفاً واضحاً مع شخصية »ذات« نفسها. يبدو سؤال التعاطف، سواء مع ذات أو مع زوجها عبد المجيد أو أمها، هنا ضرورياً لكي نفهم خلفية كتابة المسلسل. تقول مريم إنها بصفة عامة تتعاطف مع جميع شخصياتها، حتي الشخصيات اللي تبدو علي الشاشة سلبية: »لكن علي سبيل المثال فيما يخص عبد المجيد فقد كنت متعاطفة مع قلة حيلته اللي فرضتها عليه الظروف بشكل أو بآخر، هو شخص قرر ألا يستسلم لفكرة الفساد أو الرشوة، وبالتالي فشل في تحقيق طموحاته البسيطة. وأحيانا أكون متعاطفة معه ضد ذات نفسها، عندما تستسلم هي نفسها للاستهلاكية المفرطة. في الواقع فإن التعاطف عندي موزع بين الشخصيتين. لكن ربما لأن المرأة بصفة عامة في مجتمعنا تواجه أعباء أكثر، فيبدو وكأنني أكثر تعاطفاً معها. بالنسبة لفوزية (أم ذات)، فأتعاطف معها أيضاً أحياناً، خاصة في علاقتها بابنها عندما هاجر ونسيها، وفي الوحدة التي تعاني منها. فعلياً اعتقد أنني ككاتبة متعاطفة مع كل الشخصيات، لكن في النهاية يمكن للمشاهد أن يتعاطف مع شخصيات أكثر من غيرها«. ولكن هل يمكن لهذا التعاطف مع الجميع أن يفقد الكاتب انحيازه من العالم. في فيلمها الأول »واحد صفر«، وفي المسلسل الجديد الذي تقدمه »موجة حارة «، هناك كثير من الشخصيات في أماكن مختلفة، ومصائرهم تتقاطع في لحظات بعينها، وكل خيط مبرر درامياً وإنسانياً تماماً، كأن المؤلف غير موجود، أو كأنه يحكي حكاية العالم بدون أي تورط من جانبه، أو كأن »مريم نعوم« نفسها غير موجودة. ترد علي هذا بالنفي: »بالعكس، أعتقد أنني موجودة، ووجودي هو ما يمكنني من رؤية السلبي والإيجابي في كل شخصية أكتبها. أنا بطبعي شخص لا يميل إلي إصدار الاحكام علي الآخرين، ولا علي الشخصيات التي اكتبها. لكل منا ظروفه ودوافعه ومبرراته، وكذلك للشخصيات الدرامية. وبالتالي أميل إلي الرصد أكثر من إصدار الأحكام. ولا أميل إلي قولبة الشخصيات التي أكتب عنها. ووجودي في العمل يكمن في قدرتي علي رصد أكبر قدر من التفاصيل يحول الشخصيات من مجرد شخصيات علي الشاشة، إلي شخصيات نراها فيمن حولنا في الواقع«. مريم هي ابنة الكاتب نبيل نعوم. أي أنها تربت في بيت كانت القراءة فيه من ضمن عاداته الأصيلة، وقد أفادها هذا كثيراً فيما بعد، ولكن الكتابة لم تكن هي الطريق الذي اختارته من البداية. لقد درست الاقتصاد أولا ثم قررت كتابة السيناريو: »التأثير الأكبر لأبي حدث في مرحلة الطفولة، وفيما بعد عندما قررت كتابة السيناريو، كان كل منا أصبح يعيش في بلد مختلف«. هذا يقودنا لسؤال آخر، علي الرغم من نشأتك في بيت يهتم بالأدب والفن، إلا أنه في جميع أعمالك فإن التفاصيل الواقعية الحياتية الموصوفة بدقة هي ما تكون لها السيطرة الأكبر. هذا بسبب طبيعتي الخاصة، طوال الوقت أجلس صامتة ولا أتحدث كثيرا ولكنني أرصد وأراقب وأستوعب الواقع من حولي مثل الإسفنجة. تعتقد مريم أن أباها قد أثر علي تكوينها الداخلي كإنسانة، ولا تدعي أنها تأثرت بطريقة كتابته: »أنا وهو مختلفان تماماً، أنا أعمل علي عوالم آنية وواقعية. أنا شخص صدامي، وأقول كل ما أريد قوله، بينما أبي يقول كل المقولات الصادمة في إطار فانتازي«. عودة إلي » ذات« و»موجة حارة« لم يكن العملان من اختيار مريم نعوم. وإنما كلمتها شركة الإنتاج في الحالتين، وعرضت عليها تحويل العمل الأدبي إلي رواية. أعادت مريم قراءة »ذات« وفي ذهنها كيف يمكن تحويلها لعمل درامي، كما قرأت رواية »منخفض الهند الموسمي«. لم تكن قد قرأت شيئاً من روايتي أسامة أنور عكاشة قبل هذا، وعندما بدأت في العمل، لم تعمل بمنطق »أريد نقل روح أسامة أنور عكاشة للجمهور» وإنما أكثر ما كان يشغلها ألا تخذله في موته: »كل ما فكرت فيه هو أنه إذا كان حياً وشاهد المسلسل لا يري أنني أفسدت عمله. لم أفكر في الحفاظ علي روحه في العمل، لأن روحه موجودة في الرواية التي كتبها بالفعل. أنا بصورة لا إرادية تربيت علي أعماله، وبدون أن أقصد صارت جزءاً من تصوري عن الدراما. أسامة أنور عكاشة واحد من أقدر الناس علي خلق عوالم متشابكة والانتقال من عالم إلي آخر وخلق شخصيات مركبة قادرة علي أن تشعرك بالتعاطف معها، هذا هو ما استطعت الحفاظ عليه«. أما بالنسبة لصنع الله إبراهيم فما تحبه فيه هو كيفية بدءه من التفصيلة الصغيرة حتي الصورة الكاملة، قوته ليست في الحبكة نفسها كما تري وإنما في رصد التفاصيل. ربما يكون هذان الملمحان لدي الكاتبين، القدرة علي خلق عوالم متشابكة والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، يميزانها هي أيضاً، وهذا يجعل عملها أسهل. عندما تعمل مريم علي عمل أدبي، كما تقول، تفكر في البدء كيف ستقوم بتحويله من وسيط مقروء إلي وسيط مرئي، أي المعالجة الدرامية: »المعالجة تصبح هي النص الذي أسير وراءه، وليس العمل الأصلي، بمعني أنني أعيد حكي الرواية من وجهة نظر أخري وهي وجهة نظر المعالجة الدرامية الخاصة بي، لذلك فعملي علي النصوص الأدبية لا يكون ترجمة لها، وإنما إعادة قراءة، ويتدخل في هذا عوامل كثيرة، منها زمن حكي المسلسل، ورسم الشخصيات فيه، والحبكات المضافة إليه وهكذا«. تتحدثين وكأن الموضوع مجرد معالجة تقنية للرواية لكي تصبح مسلسلاً، بينما من الواضح أن لديك رؤية للعمل. كيف أعدتِ قراءة »ذات«؟ فيما يخص المضمون فأنا أطرح في النهاية وجهة نظري أنا، أو بمعني أدق أطرح رؤيتي عن وجهة نظر الشخصيات. أطرح »ذات« من وجهة نظر مريم / امرأة، وبالتالي فمريم تري شخصية ذات من منطقة مختلفة عما رآها منها صنع الله / رجل. هنا يتجلي بوضوح الاختلاف في تناول نفس الشخصية بين كاتب وآخر. »ذات« بالنسبة لي هي نموذج المرأة المصرية في جيل أمهاتنا، التي حولتها الظروف من شابة مدللة إلي امرأة كادحة مكافحة. وانا لا أري المرأة المصرية سلبية علي طول الخط. أراها تختار السلبية أحياناً حتي تسير الحياة، لكن المرأة المصرية قوية وإيجابية، وإلا لم تكن تحملت كل ما مر بها. ذات بالنسبة لي تحولت بالتدريج من وردة نخاف عليها إلي نخلة شامخة وقوية، عليها أن تميل أحياناً مع الريح كي لا تنكسر. بالإضافة لهذا، تري مريم أن صنع الله استخدم شخصية ذات أحيانا كي يتحدث عن الطبقة الوسطي وتحولاتها، أما هي فقد كانت ذات بالنسبة لها هي الهدف النهائية، ومن خلالها يمكننا أن نري ما يحدث للطبقة الوسطي. ذات في المسلسل أيضاً تبدو شديدة الإيجابية أحياناً مقارنة بالرواية؟ الشخصية في الحياة تختلف عن الشخصية في الأدب، وبالإضافة لهذا فأنا أحب دائما اللعب علي فكرة التناقضات داخل الإنسان. البعض يقولون لي أنني جعلتهم يتعاطفون مع شخصية القواد أو المرأة التي تخون زوجها في »موجة حارة«. (تضحك) هذا أنا. أري كل التناقضات في الإنسان وأتفهمها. ولكن صنع الله أيضاً يوصف بأنه كاتب تسجيلي، ورواية »ذات« بالتحديد تحوي الكثير من الصفحات المأخوذة من صحف السبعينيات والثمانينيات. كيف يمكن لمسلسل درامي أن ينقل هذا؟ استعانت مريم بعدة تكنيكات، منها الأخبار المترددة في الراديو والتليفزيون، كما أن عمل شخصية »ذات« كمونتيرة جعلها تشاهد الكثير من الأخبار السياسية وقتها، وهي الأخبار التي شاهدناها نحن أيضاً كمشاهدين بالتبعية. مريم نفسها لم تكن مشغولة بكيفية الصياغة: »الجدل الأكبر بين وبين نفسي كان حول المضمون. بمعني ما الذي سأختاره وما الذي سأتركه من الأحداث الكثيرة التي مرت علينا. لو أطلقت يدي كان من الممكن أن أكتب مسلسلاً من ستين حلقة حتي يستوعب أكبر قدر من التفاصيل«. تقولين »الاحداث اللي مرت علينا« وليس الاحداث الموجودة في الرواية. هل فكرتِ لوهلة انك تقومين بعمل تسجيل وثائقي للثمانينات والتسعينات مواز لتسجيل صنع الله ابراهيم، وليس مأخوذاً عنه؟ طبعاً. كنت مدركة لذلك تماماً منذ كتابة المعالجة، لأنني أخذت قراراً بأن أرصد أهم المحطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في 60 سنة. وبالتالي كان يجب تحديد الأولويات، وكان من الصعب التوقف عند كل التفاصيل. لقد استوحيت روح التوثيق من الرواية، ولكنني لم أستخدم ما بها من توثيق. الرواية معتمدة علي توثيق تفاصيل قد يكون الحصول علي معادل بصري لها أمراً مستحيلاً، بينما أنا فضلت توثيق الأحداث الأهم والأكبر لأنها تتناسب أكثر مع طبيعة المسلسل، ولأنها توصل فكرتي بشكل أكثر سلاسة. وصلت مريم لتفاصيل العقود السابقة عن طريق البحث: »في الحلقات الأولي كان لديّ الوقت، فكنت أقوم بالبحث بنفسي. بعد قليل اكتشفت أن من المستحيل أن أستمر وحدي علي مدار الثلاثين حلقة، فقمت بالاستعانة بباحث متخصص راجع ما قمت به وأكمل البحث في سائر الحلقات، بما تتضمنه كلمة بحث من معان مختلفة، تاريخي وفني واجتماعي، الأحداث السياسية، وتواريخ عرض أو إذاعة الأفلام والأغاني، بالإضافة للبحث الاجتماعي بالطبع«.