البورصة المصرية تخسر 28 مليار جنيه في ختام تعاملات الأربعاء    رئيس «اقتصادية القناة»: نمتلك تجربة ملهمة تبرهن على مدى مساهمة جاهزية البنية التحتية في مناخ الاستثمار    إزالة 19 حالة تعد على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة في المنيا    هبوط المؤشر الرئيسى للبورصة بنسبة 1.02% بختام تعاملات جلسة الأربعاء    إستدعاء جنود الاحتياط في إسرائيل لتنفيذ خطة «احتلال غزة»    «دوري مو».. محمد صلاح يدفع جماهير ليفربول لطلب عاجل بشأن البريميرليج    الأوقاف:681 ندوة علمية للتأكيد على ضرورة صون الجوارح عما يغضب الله    بعد وفاة الطفل حمزة.. هل النودلز تؤدي إلى الوفاة؟ (خبيرة تغذية تجيب)    انتظام امتحانات الدور الثاني بالغربية الأزهرية ورئيس المنطقة يطمئن على لجان السنطة    وزير الإسكان يتفقد مشروعات تنفيذ شبكات المرافق بمنطقة جنيفة بمدينة الشروق    علي جمعة يكشف عن 3 محاور لمسؤولية الفرد الشرعية في المجتمع    ما حكم إخبار بما في الخاطب من عيوب؟    مصادر مصرية: اتصالات مكثفة لحث إسرائيل على التعامل بصورة إيجابية مع مقترح التهدئة بغزة    نيابة عن الرئيس السيسي.. رئيس الوزراء يلقي كلمه مصر في مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الأفريقية «تيكاد9»    يديعوت أحرونوت: إصابة 3 جنود إسرائيليين في الهجوم على موقع عسكري جنوب غزة    الشروط والأوراق للتقدم لمنحة الطلاب الوافدين بالأزهر للعام الدراسي 2026    أهالى بيلا ينتظرون جثمان والد محمد الشناوى حارس الأهلى لأداء صلاة الجنازة.. فيديو    كلية التمريض بجامعة قناة السويس تعلن فتح باب التسجيل لبرامج الدراسات العليا    إصابة 16 شخصا إثر حادث تصادم بين سيارتين ميكروباص بطريق سفاجا - قنا    حالة الطقس في الإمارات.. تقلبات جوية وسحب ركامية وأمطار رعدية    انهيار منزل في شارع مولد النبي بالزقازيق.. وإصابة عدد من المواطنين    القبض على طرفي مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بالسلام    مقتل شاب في مشاجرة بدار السلام بسبب خلافات الجيرة    الليلة.. إيهاب توفيق يلتقي جمهوره في حفل غنائي بمهرجان القلعة    انطلاق مهرجان يعقوب الشاروني لمسرح الطفل    عمر طاهر على شاشة التليفزيون المصري قريبا    التضامن: التدخل السريع يتعامل مع حالات مسنين بلا مأوى في محافظات القاهرة والجيزة والغربية والدقهلية    "كلنا بندعيلك من قلوبنا".. ريهام عبدالحكيم توجه رسالة دعم لأنغام    بعد نجاح «قرار شخصي».. حمزة نمرة يستعد لطرح ألبوم ثاني في 2025    اليوم.. قصور الثقافة تفتتح معرض «وفاء النيل» بمركز الهناجر    وزير التعليم ل أعضاء البرلمان الياباني: حريصون على فتح آفاق أوسع للتعاون المشترك لتبادل الخبرات وبناء القدرات    تغيير اسم مطار برج العرب إلى مطار الإسكندرية الدولي    " التعليم" تعلن مواعيد المقابلات الشخصية بمدارس التكنولوجيا التطبيقية    كيف يكون بر الوالدين بعد وفاتهما؟.. الإفتاء تجيب    تحرك عاجل من "سلامة الغذاء" بشأن شكوى مواطن من مطعم بالبحيرة    العقارب تلدغ طفلين في أعمار حرجة بالفرافرة وسط موجة حر قاسية    وكيل الصحة بالوادي الجديد: استمرار رفع درجة الاستعداد والالتزام بالإجراءات الطبية القياسية لخدمة المرضى    جامعة الإسكندرية شريك استراتيجي في إنجاح منظومة التأمين الصحي الشامل    ضبط 111 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    الزمالك: منفحتون على التفاوض وحل أزمة أرض النادي في 6 أكتوبر    وزير الدفاع يلتقي مقاتلي المنطقة الشمالية.. ويطالب بالاستعداد القتالي الدائم والتدريب الجاد    20 أغسطس 2025.. أسعار الذهب تتراجع بقيمة 20 جنيها وعيار 21 يسجل 4520 جنيها    إيلون ماسك يتراجع عن خططه السياسية ويدعم "فانس" للرئاسة في 2028    رئيس وزراء أستراليا يرفض اتهامات نظيره الإسرائيلي بأنه ضعيف لاعترافه بالدولة الفلسطينية    محافظ القاهرة يقرر النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بالثانوي العام    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 وعدد الإجازات الرسمية المتبقية في العام    الموعد والقناة الناقلة لمباراة الأهلي والقادسية في كأس السوبر السعودي    أحمد ياسر: كهربا يمر بظروف صعبة في ليبيا... ولا يصلح للعب في الأهلي والزمالك    فانتازي يلا كورة.. انخفاض سعر عمر مرموش    الاحتلال الإسرائيلي يقتل نجم كرة السلة الفلسطينى محمد شعلان أثناء محاولته الحصول على المساعدات    رئيس الوزراء: أدعو الطلاب اليابانيين للدراسة في مصر    "حياة كريمة" تقدم خدماتها الطبية المجانية ل 1200 مواطن بالمنيا    رعاية القلوب    ذات يوم 20 أغسطس 1953.. إذاعة صوت العرب تحرض المغاربة ضد نفى الاحتلال الفرنسى للسلطان محمد الخامس.. و«علال الفاسى» يبكى أثناء تسجيل كورال أطفال نشيد «يا مليك المغرب»    اليوم.. إعادة قرعة دوري الكرة النسائية بعد اعتذار الجونة    حبس سائق أتوبيس بتهمة تعاطي المخدرات والقيادة تحت تأثيرها بالمطرية    اصطفاف قافلة المساعدات الإنسانية ال19 تمهيدًا لدخولها قطاع غزة    وسام أبو علي يكشف رقم قميصه مع كولومبوس كرو الأمريكي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أَصِيلَةٌ يَا أصِيلَةُ

قبل خمس سنوات، وجهت لي الدّعوة لإقامة بعض الأمسيات في المغرب، أكثر بلدان الأرض فتنة وغواية، بدأت بالدّار البيضاء، وانتهت بمدينة سلا الفاتنة، وكانت للأسف الشديد زيارة خاطفة، لم تتجاوز العشرة أياّم، وتساءلت أيامها، بغيظ، كيف يمكن أن ألمّ كلّ تفاصيل المغرب، وأستدرج الأزرق والبنيّ في عشرة أيّام فقط، ولكنني ومنذ اليوم الثاني ، تسللّت فجرا، دون أن أخبر أحدا من أصدقائي، قاصدا بقعة من الضوء، كانت تتراءي لي في حُلمي منذ سنوات طويلة كنداء منبعث من الشمال، وتحديدا عند إلتحام شواطئ المحيط الأطلسي بتلك القلعة الرومانيّة المتينة التي تحمل اسم أصيلة، أو زيليس - كما كان يسمّيها الرّومان في ذاك الوقت البعيد منذ عشرين قرناً، قبل ان يغيّر النورمانديون القادمون من صقليّة اسمها وبعض تفاصيل رسمها.
وإحقاقا للحقّ، لم أكن القيروانيّ الوحيد الذي تدرّب منذ طفولته علي عشق أصيلة، فقد كانت هناك أسباب وجيهة لنتهجّأ إسمها في سرّنا وجهرنا ونحفظ معالمها في وجداننا ونخصص لها أكثر صناديق الذاكرة المُلوّنة لحفظ تفاصيلها وأصدافها البديعة. تعلّمنا ذلك ونحن نستمع مشدوهين إلي حكايات و قصائد أروع مدرّسي اللّغة العربية آنذاك، في بداية الثمانينات، وخاصة من الشاعر المنصف الوهايبي، والشاعر محمدّ الغزي، وبعدهم من الروائي صلاح الدين بوجاه، وجعفر ماجد.
ورغم أنني زرت أصيلة في غير موسم الحجّ إليها، حيث كان مهرجانها الثقافي قد انتهت فعالياته منذ اسبوع، ولكنني عدت منها وأنا أترنّح من نشوة الهيام بها، ثمّة شيء فيها، يشبه روح القيروان. علي أنّ القيروان عجوز وقور ومتجهّمة في وجه الغرباء الذين يرتادون الاماكن المسكونة مرّة واحدة، ولا يمكن أن تشي باسرارها ببساطة، في حين بدت لي أصيلة، شابّة غجريّة فاتنة، مفتوحة الذراعين وعلي وجهها وشم حميميّ وفي نسيج جدرانها ومداخل أزقّتها مرح الصبا وجذوة الشباب رغم تاريخها العريق وشهادة ميلادها التي لا يُمكن تزوير تواريخها الرسميّة الصارمة. وعدد أزواجها الرسميين وخطّابها العابرين، منذ الأمازيغ، مرورا بالنورمانديين والفينيقيين والقرطاجيين والرومانيين والصقليين والبرتغاليين والإسبانيين وحتي عودتها إلي البيت العلويّ علي يد السلطان مولاي إسماعيل سنة 1691.
هيّ توأم روح القيروان العجوز بالتأكيد، ولكن، أيّ سحر وأيّ فتنة وأيّ غواية. ما رأيت، فاق كلّ تصوّر وكلّ ما سمعت عنها. أزقّة نظيفة وكأنّك تجوب أروقة معرض أوروبيّ، دروب ملفوفة ضيّقة كصدر حمامة، علي جناحيها بيوت متراصّة في تنسيق بديع، ونوافذ خضراء وزرقاء وفيروزيّة، تترشّف أشعّة الشّمس الذهبيّة بخدر يغريك أن تتمسّح بها وتعقد بأطرافها منديلا للتبرّك إجلالا وخشوعا....جداريات عملاقة علي امتداد الحيطان، برسوم لفنانين تشكيليين كبار من مختلف المدارس والأجيال. وتحتها، وفي كلّ مكان تقريبا أخواص للنباتات والزهور المدهشة.
تدخلها عبر أبواب ثلاث: باب القصبة، وباب البحر، وباب الحومر. وحيثما وجّهت شطر وجهك فستسحرك جذاذات الألوان السحريّة...أرصفة من الطين المحروق والأواني والزرابي والأكلمة الكتّان والنّحاس. وفي سرّتها، تبسط ساحة القمرة التي تُقام بها سهرات الهواء الطلق خلال ايّام المهرجان الثقافي الدّولي الذي تحوّل إلي عرس ثقافي عالميّ يتمني كلّ مبدع فوق الأرض زيارته والحجّ إليه. وفي العمق، تقابلك ساحة الطيقان التي تسلّمك قبل أن تفيق من سكرك إلي بُريج القريقية حيث تنتهي بك إلي كوّة المحيط اللانهائي. حيث لا يرتدّ إليك بصرك إلا حين يعود إلي بياض مقام سيدي أحمد المنصور الشهير.
وكما الممغنط، تعود إلي قصر الثقافة، أو قصرالريسوني كما يسميه الشيوخ والكبار من السّكان القدامي. وهو أحد أهمّ معالم المدينة، شيء كالسحر. نقوش بديعة من روح وعمق فنون الخطّ والموزاييك العربي. وقد زادت شهرته وأهميته منذ ثلاثة عقود ونصف، وتحديدا منذ سنة 1978، حين قام أحد أهمّ أبناء هذه المدينة العريقة، وهو السفيرووزير الثقافة السابق، محمّد بن عيسي، بالإعلان عن إنطلاق فعاليات مهرجان أصيلة الثقافي، بإمكانيات محتشمة للغاية، وفي ضروف سياسيّة وإجتماعية وإقتصادية صعبة، ليصبح بعد سنوات قليلة أحد أهمّ المهرجانات الثقافية في العالم العربي، وينتشر صيته في أقصي الأرض، شمالها وجنوبها. مواصلا نشاطه دون توقّف ومسجّلا عاما بعد عام مكانته كمنارة وكعبة يحجّ إليها المبدعون من كلّ أصقاع الأرض. ممّا حوّل هذه القلعة المنسيّة، إلي مدينة عامرة، تعجّ بالسيّاح والفنانين والكتّاب والسينمائيين والرسامين والباحثين عن المنابع المُلهمة...إضافة إلي المكانة التي أصبحت تستحّقها وعن جدارة، كأحد أهمّ الفضاءات التي تحضن شُعلة السلام والابداع ومرفدا للتواصل مع الإنسانيّة عبر الإيمان بنبل رسالة الفنّ وتأثيره.
أكتب هذه السطور، التي طلبتها مني الصديقة العزيزة صوفيّة الهمّامي صباح اليوم، وأنا أتطلّع بشوق وغبطة إلي هناك، حيث تُقام الآن فعاليات الدّورة الخامسة والثلاثين، لمهرجان أصيلة الثقافي الدّولي، أتطلّع بإمتنان كبير إلي هناك، إلي مدينة أصيلة، حيث يُعدّ للعرس الثقافي ليكون في أبهي زينته ويظهر في أبهي تجلّيه.
كلّ هذا يحدث هناك، في وقت عصيب تمرّ به الثقافة والفنون العربيّة، بعد أن خرج علينا غلاظ، قساة، من مسام جروح الشّعوب العربيّة المُتورّمة، وتسلّلوا من بين أنينها وصيحات إحتجاجها المشروع، ليُزوّروا الأحاديث ويحرّفوا التأويل، وليعلنوا أنّ الفنون لهو ونزق وترف لا نحتاجه، وليعلنوا الوصاية لاحقا، رافعين شعارات غريبة ومضلّلة و بإسم الله، مبدع الجمال والنوّر، زاعمين أنّ ثلاثة أربعاع الإبداع حرام وفسق وفجور، فأحرقوا المسارح، وهدّموا الأعمدة والتماثيل، وأحرقوا الزوايا والمعابد والمنتديات، وتوعّدوا المبدعين والفنانين بالويل والثبور وعظائم الأمور...
تونس الخضراء تحترق....قلّعوا الشجر الأخضر بفؤوس أعدّوها في ظلمات السجون، منذ عقود....مصر تئنّ من ضرباتهم الموجعة وهراواتهم وخناجرهم وسيوفهم التي يقطعون بها شرايين أحد أعظم الحضارات البشريّة عبر كلّ العصور...ليبيا فزعة، تُخربط في خطوها، فلا هيّ تدبّ صوب اليسار ولا هيّ تنشد جهة اليمين، تدفع بها كتائب مُلتحية من جنود مشعثين، مُغبرين، يتباهون بجلابيبهم الإفغانيّة الموحشة، ويرفعون علي رايتهم السوداء إسم الله، محاطا بسيفين كشوكتي عقرب تقطران سمّا وكراهيّة وحقدا وغّلا....وحاشا الله جلّ جلال نوره وبهائه أن يرضي عمّا يتآمرون عماّ يضمرون.
وهذا العراق المُراق، كبش الفداء الذبيح الذي سلخوا جلدته حيّا في وقت مبكّر ليكون علامة السوء، وتركوه ينزف لا هوّ ميّت ولا هوّ حيّ...مجرّد كتلة بشعة تتلذذ قنوات اخبار الموت بتصويرها في مشاهد ممنوعة علي الاطفال، تشهد علي بشاعة هذا الكائن البشريّ حين يتوه عن الحقّ والفنّ والجمال وسبل المحبّة والتسامح.
وهذه سوريا تولول وتنوح، وتشدّ شعرها وتندب أولادها بين القاتل والمقتول...وهذه دول أخري تبيع عرضها وتقبل الذلّ والإهانة وتحرّش السكاري وزوّار اللّيل من أجل أن لا تهتزّ عجيزة عرشها المشدود بكلاليب من الورق المُقوّي والكرتون....
في هذا الوقت العصيب...العصيب...تفتح أصيلةُ، الأصيلة، ذراعيها للمبدعين، أيتام الله المُحبّين المنفيين اختيارا أو اضطرارا في أوطانهم أو في المنافي البعيدة، وتكفكف دمعتهم وتحضنهم بحِنوّ وتواسيهم.
فشكرا أيّها العزيز محمد بن عيسي
وشكرا يا أصيلة الجمال والمحبّة، أنّك مازلت تحضنين شعلة الإبداع بقوّة ونخوة منذ خمسة وثلاثين سنة، كبر فيها المهرجان، وعاد فخرا للمغرب وللعرب جميعا....
شكرا من اعمق اعماق القلب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.