د. إىهاب عبد السلام أن نتخلف في مجال البحث العلمي والتقني، وألا يكون لنا ذكر في النهضة الصناعية الكبري التي يشهدها العالم لأسباب مادية وظروف استعمارية معروفة، قد يكون ذلك مفهومًا، أما أن نتخلف في تقديم الشعر لطلاب وتلاميذ مدارسنا عما كنا عليه قبل ثورة يوليو وبعدها فهذا ما يثير الدهشة حقًّا. إن تنشئة ذائقة الأطفال الشعرية، تعني تنشئة جيل يدرك الجمال ويستوعبه ويتأثر به، فَتَمَثُّل النص الشعري يهذب النفس، ويرقق الطبع، ويسمو بالوجدان، وهذا ما كنا عليه. أما الطريقة التي يُقَدَّم بها الشعر لطلاب وتلاميذ مدارسنا اليوم فتجعلهم يكرهون الشعر والشعراء واللغة العربية ذاتها، ولا يتوقف الأمر عند سوء اختيار النصوص، وإنما سوء المنهج الذي يتم تقديمها من خلاله، إذ يتم تفسير معاني الكلمات، وشرح الأبيات، وذكر مواطن الجمال وأسرارها، ثم سيل من الأسئلة حول النص.. وبهذا التحليل والتفتيت لا يبقي من الشاعرية شيء، وكأننا نقدم للتلاميذ نصوصًا من لغة أجنبية. يا خبراء التربية والتعليم، يا أيها القائمون علي إعداد المناهج الدراسية، إنني لا أحيلكم إلي خبرات أجنبية في كيفية تقديم الشعر للأطفال، وإنما أحيلكم إلي ماضينا المشرق، أحيلكم إلي وزارة المعارف المصرية، قبل أن تمتد إليها أيادي حكومات ثورة يوليو وما بعدها بالإفساد والتخريب لأغراض سياسية، أحيلكم إلي كتاب المحفوظات والمسرحيات المقرر علي السنتين الخامسة الابتدائية والأولي الإعدادية عام ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسين، وهو يُعْتَبر ديوانًا رائعًا، اخْتِيرَت قصائده بعناية، وجميعها لشعراء وأدباء ومفكرين معروفين، ومن الرائع أنه يقدم القصائد للتلاميذ كما أبدعها الشعراء، دون شرح ولا تشريح يفقد الشعر معناه، ويفسد مبناه، ويسلبه تأثيره علي النفس، ويجهد ذهن التلميذ بأسئلة رتيبة وعجيبة مثل: لماذا قال الشاعر كذا ولم يقل كذا..؟ هكذا كان الشعر يُقدَّم لأطفالنا في المراحل التعليمية في خمسينيات القرن الماضي وما قبلها؛ عشرات القصائد والمسرحيات الشعرية المناسبة تمامًا لتلاميذ المرحلة المستهدفة، يضمها ديوان لا مجال فيه لأية كتابة بالقلم، لا أسئلة ولا تحليلات ولا شروح لا تفيد الشعر شيئًا، ليجد التلميذ نفسه والقصائد فقط، فتنشأ بينه وبين الشعر ودواوينه علاقة حب من الصغر، ويحتفظ بكتابه بعد انتهاء الدراسة، ويستمتع بإعادة قراءته مرات ومرات؛ ففيه قصائد وأناشيد ومسرحيات شعرية، جميعها ممتع ومحبب للكبار والصغار معًا، ما زلت أحفظ منه قصيدة الضيف الثقيل للهراوي، وفيها: لا تكنْ ضيفًا ثقيلاً *** يكره الناس لقاءَكْ لا تكنْ عبئًا عليهم *** لا تُحَمِّلهم عناءَكْ ليس من ذنب أناسٍ *** أن يكونوا أقرباءكْ فتحل الصبحَ ضيفًا *** واصلا فيهم مساءكْ أنت لا تدري إلي كم *** تُزْعج الخِلَّ إزاءكْ قد تراه مستَمِدًّا *** لك من قوم عشاءكْ قد تراه مستعيرًا *** لك من جار غطاءكْ إن تزر فَلْيَكُ غِبًّا *** ثم لا تُكْثِرْ بقاءكْ قد مضي عصر قديم *** وجديد العصر جاءكْ إن في الفندق مأواك *** وفي السوق غذاءكْ رب من يلقاك رحبًا *** كَسَرَ الزيرَ وراءكْ لا تدعو القصيدة إلي سوء معاملة الضيف، ولكنها تدعو الضيف نفسه ألا يكون ثقيلا، وترسم له صورة مضحكة منبهة إياه أن ما يلقاه من بشاشة ربما لم تكن من القلب، فعليه أن يفطن لذلك، وتبلغ الفكاهة ذروتها في تلك الصورة لكسر الزير وراء الضيف، وليس القُلَّة كما يقول المثل الشعبي، تيمنا بألا يعود إلا إذا عاد الزير سالما، ولكن هيهات. فهل نعود نحن إلي زمن التعليم الجميل..؟