خلال الأسابيع الماضية شُغلت في يومياتي التي أنشرُها بجريدة "الأخبار" صباح كلِّ أربعاء بقضيّة تتصلُ بذاكرة مصر، قُدِّر لي أن أكون طرفاً فيها. بدأ ذلك عندما روي الأستاذ هيكل في حلقاته "تجربة حياة" التفاصيل الخاصة بإغراق الغوّاصة الإسرائيلية "داكار" والتي اختفت في مياه البحر الأبيض عام ثمانية وستين، وكانت قادمة من ميناء بورتثماوث الإنجليزي متّجهة إلي حيفا بعد تجديدها، لكنّها لم تصل قط إلي يومنا هذا. لاحظت اعتماد الأستاذ علي الوثائق الإسرائيلية والغربيّة، ومن خلالها رأيتُ لأول مرّة صورة قائد الغوّاصة الذي كان من ألمع وأكفأ ضبّاط البحريّة الإسرائيلية. اختفي ومعه تسعة وستّون ضابطاً وجنديّاً ولم يُعثر لهم علي أثر حتي الآن. رغم الكمّ الهائل من الوثائق التي لدي الأستاذ هيكل فإنّه لم يُقدِّم الرواية من وجهة النظر الرسميّة المصريّة، ولهذا أسباب سوف أذكرُها..لكن ما علاقتي بالغوّاصة "داكار" ومن أغرقها؟ الأمر ببساطة أنني أوّل من أعلن عن إغراقها، وكيف تمّ ذلك من خلال معركة بحريّة جرتْ بين السفينة المصريّة الحربيّة "أسيوط" والغوّاصة المجهولة وقتئذ التي اقتحمت مياهنا الإقليمية. جري ذلك في يناير عام ثمانية وستين، ولم تُعلن مصر عن ذلك لأسباب شرحها الأستاذ هيكل. بعد عامين -أثناء عملي كمُراسل حربي لجريدة "الأخبار" في الجّبهة- قمتُ بزيارة لمنطقة البحر في يناير عام سبعين..أثناء تولّي الفريق الشاذلي قيادتها. زرت القاعدة البحريّة والتقيتُ علي متن إحدي القطع البحريّة بضابط برتبة مُقدِّم، لم يَعلقُ اسمُه كاملاً في ذاكرتي، ذلك أنّ ما كان يُنشر عن القوّات المسلّحة كان يلتزم بقواعد مهمّة منها عدم ذكر أسماء القيادات والمقاتلين كاملة، كذلك رتبهم ومواقعهم، وكان حرصي ينبع من داخلي أكثر منه التزامي بتعليمات. كان الرجل الذي حاورته هو القائد المصري الذي أغرق الغوّاصة "داكار". روي لي التفاصيل بدقة. كتبتُ تقريراً أُرسل إلي الرقابة العسكريّة، وعلمتُ أنّه مرّ بمراحل عديدة وصلتْ إلي الفريق أوّل محمد فوزي وزير الحربيّة، وربما تجاوز الأمر ذلك. كان السماح بنشر ما كتبتُ يعني إعلاناً عن إغراق الغوّاصة بأيدي رجال البحريّة المصريّة الأبطال، وفي يناير 1970 نُشر التقرير في الصفحة الثالثة من الأخبار، وأحدث دُويّاً عالمياً، ومنحني الراحل الكبير موسي صبري مكافأة قدرها عشرة جنيهات، وكان ذلك مبلغاً غير قليل بمقاييس العصر. لم ألتق بالقائد البحري حتي الآن، لكن بعد تعليقي علي غياب الوثائق المصريّة من رواية الأستاذ هيكل اتّصل بي القائد، إنه اللواء بحري محمد عبد المجيد عزب، يبلغ من العمر الآن تسعة وسبعين عاماً (من مواليد 1931). فقد ساقه كاملة حينما تعرضّت القاعدة -بعد أيام من لقائنا بها- لغارة إسرائيلية عنيفة، يعيش في الإسكندرية، لقد نشرتُ التفاصيل في الأخبار، ولكن ما يعنيني هنا غياب وثائق حروبنا المعاصرة تماماً عن دار الوثائق القومية، إلي درجة أنّ وثائق حرب عام ثمانية وأربعين لم تُسلَّم إلي دار الوثائق، والاطلاع عليها مستحيل بالنسبة للباحثين المصريين والأجانب. لقد مضي أكثر من ستين عاماً علي حرب ثمانية وأربعين، فكيف لا تُعلنُ الوثائق الخاصة بها؟ كذلك الحروب التالية والتي كان آخرها منذ حوالي أربعة عقود؟ ماذا يعني غياب هذه الوثائق؟ هذا يعني غياب وجهة النظر المصريّة تماماً واختفاءها من التاريخ. سيضطر الباحثون إلي الاعتماد فقط علي المصادر الإسرائيلية والأجنبيّة، وهذا ظلم فادح لمصر ولأبنائها، وتدمير للذاكرة الوطنيّة. مطلوب تفعيل القانون الخاص بالوثائق، والذي يلزم جميع الجهات في الدولة بتسليم وثائقها إلي الدار القومية للوثائق. قضية مهمة تقتضي حسماً. [email protected]