من جديد يثبت لنا القاص عمرو العادلي أن بصمات يوسف إدريس النافذة لم ينحسر ظلها تماماً عن الحركة القصصية فمازال للمدرسة الإدريسية لون تأثير فني يستقطب قطاعاً معتبراً من مبدعي القصة القصيرة بالخصوص، وإن بقي التأثير بطبيعة الحال دائراً في حدود استلهام الأطر الفنية العامة بعد ان تغايرت المراحل والسياقات والمناخ الأدبي عموماً وتعني المدرسة الأدريسية في ضمائرنا ما أسماه الراحل الفذ د. طه حسين (إرسال الطبع سجيته كأن الكاتب قد خلق ليكون قاصاً) أو التسامي إلي ما يشبه جمهورية افلاطون، فما يري الراحل د/ لويس عوض، و إن عبر إدريس عن ذلك بجمهورية فرحات! فالقصة قصيرة تستوي عند إدريس كينونة فنية شديدة الفرادة يتداخل فيها، فيما يري د. علي الراعي، المأساه والملهاه والحكمة والسخافة وما من شك إن إرتباط يوسف إدريس ( 1927-1991) بالقرية بصراعتها الطبقية المشبوبة قد أدلي بأوفي الأنصبة في تشكيل العوالم القصصية عند إدريس فضلاً عن العفوية الآسرة الإستثنائية التي كانت تشكل بها قسمات الشخوص ويضفر بها منحنيات الصراع الدرامي ففي المجموعة القصصية الجديدة (حكاية يوسف إدريس) لعمرو العادلي (سلسلة كتابات جديدة / الهئية المصرية العامة للكتاب ط 1 /2012) تعاود الملامح الإدريسية الظهور وممارسة الفاعلية التأثيرية علي أصعدة المعجم اللغوي وإصطفاء التيمات و نحت الشخوص بأنساقها النفسية الفنية وقعت المجموعة في إحدي عشرة قصة توزعت في قسمين أستقل أحدهما بثماني قصص وأنفرد الأخر بثلاث، بحيث جمع بين قصص القسم الواحد رابط التجانس الإنساني والفني في آن ففي قصة (متحف للمقتنيات) ينطلق الراوي، موظفاً ضمير المتكلم، من مربع الفانتازيا حيث يقص علي مسامعنا أمثولته من عوالم البرزخ بعد أن رحل جسده فيزيقياً عن الحياة حيث شرعت الزوجة والأبن محمود في تحنيط جسمانه تمهيداً لإستيداعه صندوقاً زجاجياً يزدان به بهو الإستقبال إلي جوار الكلب المحنط! فحتي تنزع الأم من قلب الأبن الخوف من الكلاب قسرته ان يحنط معها كلباً ضخماً فمات في قلب الأبن الخوف والنبض الإنساني معاً! وحين تنتهي الزوجة والأبن من تحنيط جثمان الزوج كقطعة ديكورية توضع إلي جوار الكلب وحين يتيهيان لتحنيط غراب نافق يضاف إلي المجموعة الديكورية يدخلنا نحن المتلقين هلع حقيقي من حالة التوحش الإنساني أو ما يعتور المسيرة الإنسانية من مخاطر الآلية والميكنة! وفي قصة حكاية يوسف إدريس يعالج الراوي، فيما يشبه الترجمة الذاتية، فكرة المعاناه الفنية في إقتناص الخاطرة القصصية، حيث يبقي القاص ساهراً حتي خيوط الفجر يناور النص الإدريسي متفاعلاً مع شخوصه وأمكنته وعوالمه، وهي قصة مسرحها الداخل لا الخارج و تعتمد تقنياً علي شق تناصات رحيبة تتراكب بنائياً بصورة تدريجية، وخصوصاً بإزاء شخصية عم أحمد الحانوتي في قصة شيخوخة بدون جنون لإدريس. وهي الشخصية التي يقع إستدعاؤها في تجربة العادلي بحضور فني يحفل بالإدهاش. وحين ينتهي الراوي من مسودة قصته المقترحة نجد إننا بإزاء إبتداء لا إنتهاء حيث نفهم أخيراً طبيعة الطعم الذي ألتقمناه . وفي قصة بئر مسعود أستوحي الراوي من الأفق السكندري مشهداً فلكلورياً مألوفاً حيث يطرح السائحون العملات المعدنية في قلب البئر متمتمين بالأماني العراض ! ومن خلال تأصيل فلكلوري يتداخل مع الخيال الشعبي لحقيقة أسم البئر في إشارة إلي الطفل الذي تاه عن أهله فوقف يصافح صورته المهتزة علي صفحة ماء البئر نحس مقادير ضافية من التعاطف مع ناجي المصري المهمش الذي يخاطر بالقفز في البئر لإصطياد العملات المعدنية التي يطوح بها السائحون ثمناً للبقاء علي قيد الحياة! ومن خلال نغمة شديدة التباسط أو ما يسميه علماء السرديات يمضي الراوي في إزابة الحواجز التي تفصله عن المتلقي بوتيرة متصاعدة لتتحول بعض القصص مع أنساق التصعيد إلي محض مسامرة قد تتخفف من بعض الشروط الفنية الصارمة لكنها لا تترخص أو تتساهل مع شرط الإثارة كما في قصة أمسيات عم فتحي.