كيف يمكن أن يري الإنسان الفردوس وهو مازال يعيش في هذه الدنيا؟ يقول بعض الناس: الأنبياء والمتصوفة والشعراء فقط هم الذين يستطيعون ذلك. ولأن عبد العزيز موافي شاعرا متصوف، فهو يستطيع رؤية الفردوس، ويستطيع أن ينقل إلينا هذه الرؤية، وهذه الرؤية مكونة عنده من كلمات حساسة، تتزيا برداء الوعي، وتتحمل لا معقولية الظن . يقول في ديوانه ( 25 ميدان التحرير) لكي أري الفردوس لم أعد في حاجة لأن أموت ذاك هو النعيم المرئي يغمرني (علي امتداد البصر) حين يتواضع الجسد أمام البندقية. هذا الفردوس الذي يتجلي للإنسان يأتي حينما يتواضع الجسد أمام البندقية، أي أن الجسد يصبح بابا ينفتح علي الفردوس، دون أن يهتم بالبندقية، أو دون أن تهتم بالموت، والسبب في ذلك أن (الميدان يسهر عليها) ، هذا الميدان الذي اتسع بحجم مصر كلها. فهذا الفتي الذي كان يخشي مكر الله لم يكن واثقا من دخول الجنة.. وحين داهمته رصاصة، فتح عينيه باتساع جرحه/ ليري أن الجنة كانت تقبع في الجهة الأخري من الميدان. هؤلاء الفتية هم الذين فجروا الواقع، ودمروا المعتاد، واخترعوا نبض الفردوس قبل أن يلقاهم الجنود بزيهم الكوكبي، فهؤلاء الفتية هم الذين سافروا خفية إلي جنة الدنيا والآخرة، فنالوا أجمل ما في الدنيا، وحصلوا علي وعد الله الحق في الآخرة، فهؤلاء الأولاد الوسيمون - مثل نهار مشمس الذين أيقنوا أن السعادة المحررة لا تكتمل إلا بالدماء، حين أسبلت أيدي الرفاق عيونهم، لم تلبث كثيرا حتي أشرقت الشمس منها. فالأولاد يملأون مفردات هذا الديوان، بما فيهم الذكور والبنات، لافرق، فسالي الفتاة التي لم ينتظرها عدلها طويلا، بغتة تزوجها الموت ... تلك البنت لم ترتد فستان زفافها (كي تقيم عرسها في كنف : سناء محيدلي ووفاء إدريس)، انبثقت - فجأة ذ من جراحها: مجرد وردة مقطوفة فهذه البنت لا تكف عن النضال حتي تلحق بسابقاتها من البنات الشهيدات مثل سناء محيدلي ووفاء إدريس. فالشاعر استطاع أن يتخلي عن المشاعر السائلة التي انتشرت في أغلب شعرنا الماضي، بل ومازال البعض يسيل مع هذه المشاعر حتي الآن، ولكن عبد العزيز موافي تخلص ببراعة من الميوعة الشعورية، ومن كلاسيكية الأفكار، وبدلها بأفكار فنية تستطيع أن تدخل بنا عوالم حديثة. كما أن اللغة عنده تحمل معناها علي حسب ما يقتضي الحال، اللغة هنا محايدة، ترسم المشهد بكل دقة، كما لو كانت ميزانا واضحا محددا، بدون طرطشات المشاعر، وبدون زعيق أو خفض عن إطار الصورة المنشودة، اللغة هنا هي المشهد ذاته، دون زيادة ولا نقصان. الشاعر في هذا الديوان رسام يرسم بالكلمات، فالقصيدة لوحة مكتملة، ولكنها مكونة من مشاهد ، يستطيع المشهد الواحد أن يعطينا موقفا شعريا بالغ الصدق والدلالة، وكأن هذا المشهد جملة مكتملة المعني، ومجموع هذه المشاهد يتجلي في المعني العام للقصائد، علي انفراد، وللديوان بشكل مجمع. والمفردات التي يرسمها الشاعر هي ما يتجلي له في هذا الميدان، هي مفردات الميدان وقد تحولت إلي كلمات، ثم تحولت إلي مشهد الميدان بكامله، الميدان في ثورته، وفي نهاره وليله، وفي معاركه.