دعم حرية المعلومات.. رؤية تنويرية أطلقها الرئيس السيسي لتطوير الإعلام    موعد المولد النبوي الشريف في مصر 2025.. إجازة 3 أيام وأجواء روحانية مميزة    رئيس «الأعلى للإعلام» يوجه بعقد ورشة لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي على أكثر من يوم    20 جنيهاً ارتفاعاً في أسعار الذهب محلياً.. والأوقية تقفز 35 دولاراً خلال أسبوع    "الجلاد ستيل" يضخ 3 مليارات للتوسع في الإنتاج وزيادة حصته التصديرية    موعد صرف معاشات سبتمبر 2025.. اعرف الجدول والأماكن    بين المزايا والتحديات.. كل ما تريد معرفته عن السيارات الكهربائية    نتنياهو: شروط حماس للتوصل إلى اتفاق هي شروط استسلام ولن نقبل بها    زلزال تركيا | تسجيل 3 هزات ارتدادية.. والمواطنون يتوجهون للحدائق    هزة أرضية على بعد 877 كيلو مترا شمال مطروح بقوة 6.2 ريختر    منتخب ناشئات السلة يفوز على الجزائر في افتتاح مشواره بالبطولة العربية    انطلاق مباراة فاركو وإنبي في الدوري    من تغريدة الاتحاد الأوروبي إلى رد الجيش الإسرائيلي.. قصة تضامن صلاح مع "بيليه فلسطين"    داروين يسجل في أول ظهور له مع الهلال.. وتواجد لاعب منتخب مصر    خوسيه ريبيرو يبلغ محمد يوسف رسالة هامة بشأن لاعبي الأهلي    المشدد 7 سنوات لعاطلين تسببا في مقتل شخصين بحادث على الطريق الصحراوي    التضامن الاجتماعي تنفذ 6 قوافل طبية توعوية لخدمة سكان مشروعات السكن البديل    68 غرزة فى وجه الأشقاء.. مشاجرة عنيفة وتمزيق جسد ثلاثة بالبساتين    كل ما تريد معرفته عن ChatGPT-5.. كيف تستفيد منه في عملك؟    «فلاش باك» الحلقة 2 | رسائل من الموتى.. صوت مألوف وزمن مختلف    رنا رئيس تنضم ل أبطال فيلم سفاح التجمع بطولة أحمد الفيشاوي    ليست كل المشاعر تُروى بالكلمات.. 5 أبراج يفضلون لغة التواصل الجسدي    «فاطمة المعدول» الحائزة على تقديرية الأدب: أحلم بإنشاء مركز لإبداع الأطفال    "فلاش باك" يتصدر نسب المشاهدة على منصة Watch It بعد عرض الحلقة الأولى    "ملف اليوم" يكشف روايات الاحتلال المضللة لتبرئة نفسه من جرائم غزة    صاحبه الفرح الأسطوري ومهرها ب60 مليون.. 20 صور ومعلومات عن يمنى خوري    أمين الفتوى يوضح: المال الموهوب من الأب في حياته لا يدخل في الميراث    أمين الفتوى: لا يجوز كتابة كل ما يملك الإنسان لبناته لأنه بذلك يعطل أحكام الميراث    طريقة عمل الحجازية فى البيت بمكونات بسيطة    وزير الصحة يوجه بتسريع الاستجابة لاحتياجات المرضى ومتابعة نظام التقييم الدوري للعاملين    سعر مواد البناء مساء اليوم 10 أغسطس 2025    حجز متهم بإتلاف سيارة لتشاجره مع مالكها بالبساتين    وظائف خالية اليوم الأربعاء.. فرص عمل بمختلف المحافظات    حكم الدردشة مع صحابي بالموبايل في الحمام؟.. أمينة الفتوى تجيب    أين هم الآن «معتصمو رابعة والنهضة» ؟    هل يجوز إجبار الزوجة على الإنفاق في منزل الزوجية؟.. أمينة الفتوى تجيب    اتحاد عمال الجيزة يضع خطته للتأهيل والتدريب المهني    «الصحة» تنظم زيارة لمستشار الرئيس الكولومبي لتفقد منشآت طبية    بعد توجيه السيسي بحل مشكله معاشات ماسبيرو.. "المسلماني": نشكر الرئيس    تأجيل محاكمة 29 متهما بالهيكل الإداري للإخوان    بروتوكول تعاون بين البنك الأهلي المصري وشركة "بيرنس كوميونتي"    تسجيل منتجي ومالكي العلامات التجارية حسب «الرقابة على الصادرات والواردات»    محافظ بورسعيد يستقبل الطفلة فرح ويعد بفتح حساب التضامن فى اسرع وقت    شاهد.. لحظة تحرك شاحنات المساعدات من مصر إلى قطاع غزة    الإمارات ترحب بإعلان التوصل إلى اتفاق السلام بين أذربيجان وأرمينيا    العراق يرحب باتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان    تحرير 125 مخالفة عدم الالتزام بغلق المحلات خلال 24 ساعة    بيلد: النصر يتوصل لاتفاق مع كينجسلي كومان.. وعرض جديد لبايرن    لتقصيرهم في العمل.. إحالة عاملين بالمركز التكنولوجي بأبوحماد بالشرقية للتحقيق    ضبط 5488 قضية بمجال الأمن الاقتصادي خلال 24 ساعة    الأزهر يعلن جدول امتحانات الدور الثاني للثانوية الأزهرية 2025 للقسمين العلمي والأدبي    جيش الاحتلال يعلن اعتقال 70 فلسطينيا في الضفة الغربية    فران جارسيا يربح رهان ألونسو ويثبت أقدامه في ريال مدريد    «الصحة» تنظم 146 دورة تدريبية وورشة عمل لتطوير الكوادر التمريضية خلال 2025    مقتل 6 جنود لبنانيين بانفجار ذخائر أثناء محاولة تفكيكها في جنوب لبنان    بيونج يانج تحذو حذو سول في تفكيك مكبرات الصوت على طول الحدود    دعاء صلاة الفجر.. أفضل ما يقال في هذا الوقت المبارك    الهلال السعودي يعلن رسميًا التعاقد مع الأوروجوياني داروين نونيز حتى 2028    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحداثة النقيض وأهم ملامح تجربة (محمود مغربي) الفنيه
نشر في الواقع يوم 18 - 03 - 2012


دراسة: عبد الجواد خفاجي
يبدو أن أعتراض الدكتور سيد البحراوي له بعض الوجاهة عندما سخر من خانة الحداثة أو الحساسية الجديدة التي تصدر الأوامر النقدية بالترقية إليها أو الحرمان منها، فلا أحد يعرف ما هي الدرجة الصحيحة من عدم اليقين أو الشك أو الشعور بالغربة أو الإحباط التي تجعل قصيدة ما حداثية أو تنتمي إلى الحساسية الجديدة في مقرها المركزي بمكتب هذا الناقد أو ذاك.(1)
والوجاهة نابعة أصلا من الفهم والوعي الكامنين في الاعتراض بهذا المصطلح القديم الفارغ نوعًا المسمى "الحداثة" فليس في الحداثة مركزية، حتى لو افترضنا أن الحداثة أصبحت بمثابة العقيدة بالنسبة لهؤلاء(2) فإنه ليس من مهمة الأدب أن يوصل تلك المعتقدات بصورة مباشرة॥ إن الملكية الخاصة متراس الحرية، كما أن مهمة الأدب هي نقل الحقائق اللازمانية، وربما بهذا يمكنه أن يغذي في الجماهير روح التسامح والكرم وبذلك يضمن بقاء ملكيته الخاصة।
ليس غريبًا في سيادة مفاهيم التعصب أن يتحول محطم الأصنام إلى صنم جديد! ، ويبدو أننا يجب أن نعترف دون أن نستسلم بمركزية النقد عندنا رغم أن الحداثة كمفاهيم ضد المركزية بشكل عام، بما فيها مركزية التراث أو حتى مركزية المفاهيم الحداثية.
إن مركزية النقد عندنا ساهمت في انحصار مفهوم الحداثة أو مفاهيمها عند دائرة المركز، أو المراكز الثقافية التي ظلت ومازالت تمارس سطوتها على الأطراف . ومن ثم اصطبغ النتاج الشعري الحداثي بصبغة واحدة ومن ثم ضاقت مساحة "الحداثات" المفترضة لتصبح مجرد "حداثة" متحققة هنا أو هناك. وأرى أن هذه المركزية جزء من هيمنة الخطاب الثقافي للمدينة العربية (المركز) على أطراف الخريطة التابعة لها.
ومن ثم فإن نظرتنا النقدية في النصوص الحداثية يجب أن تكون متجاوزة لهذه المركزية بما يسمح بتجاوب أصداء الحداثات في كل أطراف الخريطة الإبداعية دون أن نقيم اشتراطات معينة للحداثة، إذ أن الإبداع متجاوب بالضرورة مع ملامح مكانه وزمانه بل ومع الخلفية الحضارية والاجتماعية له.
ومن ثم فإن بريقاً من الوهم قد يدفع كثيرًا من مبدعي الأقاليم إلى ركوب حمارهم الحديدي للوصول إلى دائرة المركز بحثاً عن ترقية ما إلى مركز الحداثة.. إن عملاً كهذا لا يعد من الحداثة في شيء.
في جنوب مصر حداثة موازية نقيض، تنبع أساساً من اعترافها بأنها ترتبط بمناطق الطرد وكذلك تعترف بالحكم الصادر ضدها من المركز بالطرد؛ ومن ثم فإنها حداثة الطرد.. لديها اكتفاؤها الذاتي ولا تسعى إلى استيراد المفاهيم والقيم.. كما أنها تأبى أن تتلبس بشكلية ما غير شكليتها في الوقت الذى تعترف فيه بأصالة معدنها.
حداثة توازن بين أصالتها ومعاصرتها دون أن يزعجها أو يقلقها العصر الآلي أو ملامح المدينة المتشابكة. ومن ثم فهي تطرد عن حقولها هاجس الحداثة المركزي، دون أن تنكفئ على ذاتها فليس في الأمر ما يؤسف، لقد مارسنا دورنا الحضاري يوم أن كانت دائرة المركز مقبرة لأمراء طيبة.. صدرنا الحضارة إلى العالم غير نادمين.
إن ما يؤسفنا حقاً أن المركز يستورد حداثته هارباً من ذاته ومن تاريخه ومن واقعه.. هاجراً الأرض التي لم يفلح في خلق توازنه عليها محلقاً في عالم وهمي مشفراً رسالته إلى الأرض الخراب كما يراها يحط فوق منعطفات لا تخصه؛ لينطلق منها إلى آفاق لا تخصنا.
محمود مغربي واحد من المهمومين بصنع حداثة الطرد في الجنوب، يمارس كامل حريته في مجاوزة كل ما لا يخص واقعة ومغايرة كل ألوان الخصوصية فيما عدا خصوصيته هو كمبدع.
في ديوانه "أغنية الولد الفوضوي" يؤكد مبدئيًا على ارتباط مشروعه الإبداعي بالجنوب وبملامح الحقول وبالأرض البراح.. يمارس عفوية الكتابة ويمتلك فطرية استخدام اللغة.. يميل إلى عدم الثرثرة الموقعة في دائرة "اللاشعري" ويميل إلى التكثيف اللفظي، دون أن يخنق نَفَس اللغة.. يستخدم "تيمات" شعرية بسيطة تشف عن دلالة استخدامها، وهى في معظمها إما تيمات تراثية أضفى عليها من خلال التناول صبغة عصرية، وإما تيمات جنوبية تشف عن وعيه بخصوصية التجربة وخصوصية الذات.
ورغم توفر القاموس الرومانسي في أشعاره ورغم مسحه الحزن الشفيفة التي تغلف أشعاره إلا أنه ومن خلال وعيه بدرامية الواقع ومفارقاته.. وأمام اتساع نظرته إلى الحياة وارتباط تجربته بهموم الإنسان الجنوبي خاصة والمصري والعربي بصفة عامة.. من خلال ذلك وأمام هذا تتمنع تجربة محمود مغربي عن التحليق في الأفق الرومانسي الحالم مؤثراً التغلغل في هموم الذات والواقع مداخلاً له وراصداً لشبكة العلاقات وردود الأفعال المتبادلة بين الذات والواقع دون أن يفصل بين الذات والموضوع.
ولنا أن نتوقف في تجربة محمود مغربي عند ثلاثة ملامح أساسية:
أولاً: الوعي باللغة وخصوصية استخدامها
يؤكد محمود مغربي على خصوصيته في استخدام ألفاظ مألوفة تمامًا وبسيطة، ثم يرتفع بها إلى مستوى الإبداع الشعري المدهش، ليثبت بذلك أن ثمة وعي باللغة لديه، وأنه على مستوى هذا التحدي الأساسي الذي يواجه المبدع عامة.
فمما لا شك أن الإبداع باللغة مغامرة شديدة التركيب والتعقيد وهو نفسه الذى يمنحنا من خلال القدرة على التشكيل باللغة سمة التمايز والتفرد والاختلاف "ويظل بعض ناقصي الخبرة قابعين مندهشين ما بين اللغة العامة المبذولة في المعجم والقاموس والنص الأدبي وعلى ألسنة الناس من ناحية واللغة التي يتفجر بها عمل إبداعي جديدة وكأنها ليست من هذه اللغة المألوفة في شيء، لكن ارتفاع هذه اللغة المألوفة والمبذولة إلى مستوى الإبداع الشعري يظل تحديًا أساسياً يواجه المبدع، وعملية يتداخل فيها الوعي واللاوعي الإنساني، ومخزون الخبرة الحضارية المكتسبة وطبيعة اللغة نفسها"(3) ولأن الفضيلة كما قال الأقدمون ليست في اللفظ ذاته فإن الفضيلة تبقى في الكيفية التي تم بها التوليف بين هذه الألفاظ والعملية الانتقائية التي مارسها الشاعر للإنشاء اللفظي والموقف الشعري الذى مورست فيه هذه التراكيب اللفظية المتعالقة.
ولنرى كيف استطاع محمود مغربي التوليف بين مفردات:"دمعة جفن غيمة رشرش الحديث ساعة فتش الطريق الندى الأبواب نطق نخز كَوَّر السكوت الأفق لاح قتامة".
وهى مفردات في مجملها مألوفة ومبذولة وتجري على السنة العامة والخاصة.. استطاع أن يخلق منها صورة شعرية على النحو التالي:
تلوح في قتامة الأفق
كدمعة في جفن غيمة
ترشرش الحديث ساعة
وساعة تفتش الطريق..
تكور الندى
تستنطق الأبواب
(تنخر السكوت ص7)
وقبل أن نعي الموقف الشعري الذى وُظِّفت فيه هذه الصورة أو حتى الخلفية الشعورية وقبل البحث عن الدلالة في ضوئهما، فإننا ندرك أن ثمة براعة ما على مستوى التوليف والانتقاء في الجمع بين "دمعة،غيمة" وفى الربط بين "ساعة، وساعة" وبين توالي وتوازي"تلوح، تكور، تفتش، تنخر" وكذا" ترشرش، تستنطق "وكذا" تفتش، ترشرش".
هذا الجمع والتوليف والترتيب والتوازي على النحو المطروح يغلف الصورة بنوع خفي جميل هادئ من الموسيقى نابعة من التناسق ومن تساوى المقاطع الصوتية ومن مراعاة النبر والوقف هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ثمة مفارقية مدهشة على مستوى المجاز ناتجة عن إحلال الغيمة محل الكائن الحي الذى يدمع وتسيل من جفنيه الدموع.. إضافة إلى أن الكلمتين أساساً متباعدتان في الواقع، هذا وبصرف النظر عن دلالة الغيمة أو الدمعة وبصرف النظر عن دلالة الجمع بينهما.
وثمة إيحاءات بالصمت والسكون والهدوء، وثمة إيحاءات بحركة أنثوية رشيقة لتحريك هذا السكون وثمة أفعال مضارعة تشي بالحركة والاستمرارية وثمة قفلة نهائية "التاء الساكنة" بما يناسب المشهد الساكت.
أما لو خرجنا بكل ذلك من إطار المكونات الشكلية إلى إطار أبعادها الدلالية داخل السياق الشعري وفى ضوء الصورة الكلية للنص وتأملنا هذه الدلالة في ضوء اللوحة الخلفية الشعورية للنص لأمكننا استشعار الجو الشعري والموقف الفكري والعاطفي، ومن ثم لأمكننا تتبع رؤيته في أعماقها، وبهذا تصبح مثل هذه الصورة المطروحة مجالاً للإفاضة وهكذا تكون الصورة قادرة على ربطنا بما هو أبعد من تمظهرها الفيزيقي. وما هو أجمل من إيقاعها الظاهري، ولتجاوزنا معها حواسنا تماماً وانشغلنا باستكناه الرؤية والمشاعر ولودعنا الخارجي إلى ما هو فضاء داخلي متسع.
أما والصورة السابقة مجتثة من سياق قصيدة "تعتلى الطريق" وهى مهداة إلى روح الشهيدة (سناء محيدلي) الفتاة اللبنانية التي قامت بعملية انتحارية في معسكر الجنود الأمريكان في بيروت عام 1984.. ندرك بداية من العنوان أن الشهداء أحياء عند ربهم وكذا عند الشاعر أيضًا، لا تزال في مخيلته يراها حية تعتلي الطريق.. يراها في صورة كل امرأة عربية تعتلي طريق الكفاح والنضال. وعلى وجه آخر أكثر عمقاً هو يرى أن بطولة سناء محيدلي فوق الموت، وفعلها المضني حرَّك السكوت على قضية لبنان في ذلك الوقت، واستنطق الصمت الذى كان يغلف المكان ويستبيح التواجد الأجنبي المسلح في لبنان.
ومن ثم فإن الخلفية الشعرية للنص ترتبط بشكل ما بخيوط الواقع وبذاكرة الشاعر في آن ...الواقع المعبأ بالتبجحات الأجنبية والموات العربي في المقابل، ومن ثم الضياع والشتات والصمت الغربي إزاء هذا التبجح الصهيوني والإمبريالي في المنطقة.. وذاكرة الشاعر المضخمة بمخزون لا بأس به من تراكمات الأخبار والمشاهد الانهزامية والتراخي العربي وفى المقابل من ذلك البطولات الفردية والتشكيلات العصابية والتمردات التي تحدث هنا وهناك لتكسر حدة الصمت ولو لفترة وجيزة.
ولعل الخلفية هذه هي نفسها المسيطرة على الصورة في قصيدة "تساؤلات في زمن الردة".
كيف لي..
أن أهيئ هذي البلاد لعرس بهي ؟
قالها طفل هذا الجليل..
قلت: كيف التهيؤ
والعرب الأقربون
والعرب الأبعدون
وما بين بين..
سرجوا خيلهم خِلسةً
تاركين المخيم والجرح
تحت الهجير..
بين فكي حصار!"
ص10
وفى موضع آخر:
والسماء تفتح قمصانها
للطيور الجوارح
هذي الطيور تجهز مصطبة للتواريخ
مأدبة للفتوحات
أغنية للسيوف القواطع!
كيف نسرب هذا المدد
والعواصف مستيقظة
تحت رمل الحدود!
كيف ننشل هذا الوطن؟
والرجال قعود!
ص11
وفى قصيدة "بشارة" يغلف وعيُ الشاعر التجربةَ، فيعرض لتاريخ الحجر وكيف كان قدس الأقداس، وصنماً للتعبد، وها هو الآن في يد الأطفال ينفلق، لا ليخرج منه الماء وإنما ليخرج جيشاً وأبابيل للثورة والخلاص، والبشارة.
نخلص إلى أن ذاكرة الشاعر مستوعبة القضايا المعاصرة، والتاريخ، وفى إطار هذا الوعي تتحرك المشاهد الشعرية في قصائده صانعة حركة الصور الجزئية الدالة في عمق التجربة.
وعود إلى الصورة التي حددناها أولا.. حيث يبدأ المشهد الشعري حركته بفعل الرؤية "رأيتها" بصيغة الماضي والمتعلق بالضمير المؤنث "ها" هكذا ودون تهيؤ تبدأ القصيدة: "رأيتها" مما يوحى بأن الشاعر عندما ودع ذاته الباصرة إلى ذاته الشاعرة كان مراقباً متأملاً مسرح الحياة، إلى أن ظهرت "سناء محيدلي" فجأة.. ظهرت له لتبدل غيابها حضوراً فذاً.
وهكذا الشاعر يوفر الكثير على القارئ لشعره، إذا يستغنى عن الكثير من الأحداث والتفصيلات غير المهمة ليدخل به عنوة إلى قلب المشهد الشعري:
رأيتها تمر...
تخاطب الجموع
وتارة تخاطب الطلول والمدى
تلوح في قتامة الأفق
كدمعة في جفن غيمة
ترشرش الحديث ساعةً
وساعةً تفتش الطريق..
ص7
وفى هذا الإطار يتحقق وجود "سناء محيدلي" باعتلاء الطريق داخل المشهد الشعري، بيد أنها وفى حدود الدلالات الكلية للقصيدة موجودة على سبيل المجاز في المخيلة العربية وفيما أحدثته من أصداء متجاوبة حول الحدث. وموجودة ميتافيزيقيا كشهيدة حيَّة في عالمها العلوي الجميل، وموجودة ضمنيًا في صورة المرأة العربية التي تنهج وتعتنق البطولة والفداء. ولنا أن نتأمل كلمة "تعتلي" الطريق.. الاعتلاء كقيمة صعود في المكان تعطي دلالتها في علو الشأن، والطريق يعطي دلالته في مسيرة الحياة ومن ثم فإن ما فعلته دلالتها سناء محيدلي لم يؤد بها إلا إلى علو شأنها في الحياة.
ومن هنا فإن الموت وهو النقيض للحياة يصبح قيمة حياتية عظمى إذا كان على شاكلة موت سناء محيدلي ومن هنا نلمح تمجيد الشاعر للبطولة والفداء.
غير أن سناء محيدلي داخل المشهد الشعري قادمة لتوها في مهمة ليست استثنائية.. هي عائدة لتكمل مسيرتها..لتعيد ما فعلته مرة أخرى.. لتحرك السكوت بشكل ما.
وهكذا يرى الشاعر أن الذى مضى لا يزال حاضرًا ماثلاً، ومن ثم تبدأ ذاكرته رصد الحادثة من جديد وهكذا أيضًا تعجن مخيلته الأزمنة، وهى تُدْخِل الماضي في الحاضر مستبدلة بذلك الواقع المقرف بواقع مغاير جديد.
والمهمة غير الاستثنائية التي عادت سناء محيدلي من أجلها هي إعادة ما فعلته مرة أخرى وفق رؤية الشاعر الجديدة.. وهكذا هو الشاعر يتمنى ويحلم بعودة سناء محيدلي أو بالمعنى:عودة البطولة وحب الشهادة إلى مشهد السكوت العربي، وهكذا يتجسد المشهد من جديد في مخيلة الشاعر في صورة جديدة فما حدث في الواقع من قنبلة ولغم وسيارة واقتحام وتفجير، كل هذا يتحول في واقع داخلي آخر إلى مجرد مخاطبات ووشوشات وتفتيش هامس، واستنطاق للأبواب ونخر للسكوت، كل ذلك بلغة هامسة رقيقة تناسب وطبيعة سناء محيدلي النسائية.
ومن هنا نرى أن أفعال الأنوثة الرقيقة الهامسة الناعمة داخل المشهد الشعري مناسبة تماماً بيد أنها مفارقة للواقع، إن ما قامت به سناء محيدلي من اقتحام وتفجير واستشهاد بطولي لا يدل على نعومة أو رقة.. ومن خلال هذه المفارقية بين الواقع وبين عالم المخيلة يتوالد الاستخدام الشعري للغة وتتوالد الشاعرية التي تجاوز فظاعة الواقع وغرائبيته ومفارقاته وقتامته إلى طقس آخر جميل مصنوع لتوه من أجل سناء محيدلي القادمة في مهمة غير استثنائية
وبهذا يتجاوز الشاعر (قتامة الأفق) إلى بياض "الغيمة" ويهبط بسناء محيدلي إلى الأرض الساكتة كي تفتش الطريق الذى أصبح خالياً من البشر أو بالمعنى الأوسع/البطولات العربية.. وتبدأ سناء محيدلي بتكوير الندى.. هي تتلهى بالحفاظ على الندى كقيمة حياتية وإن كانت مفردة (الندى) توحي بالبرودة واختفاء الحرارة بما يؤكد نظرة الشاعر ورؤيته لواقعه العربي البليد النائم في دفء وهمه تاركاً البرودة تقتحم المكان، أو بالمعنى الأوسع: موت البطولة.. وهكذا تصبح مفردة "الندى" خادمة في موضعها وتصبح لها قيمة دلالية وإيحائية وهَّاجة وهكذا يخدم الشاعر اللغة في الوقت الذى يستخدمها فيه.
وهكذا تتجاوز الكلمات دلالاتها الوضعية أو المعجمية إلى دلالات شعرية خاصة؛ ليصبح الفعل "تستنطق" كبحث عن الصوت بحثًا عن حل للقضية، كما تعطى مفردة "السكوت" دلالتها في الجبن والتراخي والاستسلام.
وهكذا... وإن شئنا أن نكتفي من القصيدة بهذه الجزئية التي حددناها فإننا ونحن في بداية القصيدة ندرك إلى أي مدى تتوالد الدلالات الشعرية وتتسع
وندرك أن ثمة وعي باللغة لدى الشاعر قادر على خلق الانسجام المطلوب بين اللغة من جهة والطقس الداخلي في جوانيات الشاعر من جهة أخرى، وندرك إلى أي مدى تتميز خصوصية الشاعر في استخدام هذه المفردات دون غيرها ليتجاوز بها الشاعر واقعه دون أن يغفله ويجتازه دون أن يبرح
إن الذات الشاعرة التي تسعى في الأساس إلى مجاورة الواقع أو مراوحته بواقع آخر شعري هي نفسها التي تسعى إلى مجاوزة دلالة اللغة الوضعية إلى دلالة خاصة جديدة.. ومن ثم فإن وعي الشاعر بالحياة والكون والواقع هو نفسه وعلى نفس المستوى وعي باللغة وباستخداماتها، وكلما كان الشاعر مجاوزاً على مستوى الواقع واللغة كلما كان متمايزاً وكلما كان شاعرياً بصورة منفردة.
و الذات الشاعرة لا تسعى إلى المجاوزة في الأساس إلا لأن الواقع لم يعد مناسبًا لأن يفكر الشاعر فيه أو يتناوله بالطرق المعتادة؛ فأمام غرائبية الواقع وقرفه وتبجحه تتوالد معاناة الذات ومن ثم تسعى إلى هجر هذا الواقع؛ بحثاً عن عالم مخصوص قد يكون شعرياً وقد يكون مناسباً لأن تمارس فيه الذات التفكير، ومن ثم فالشاعر مفكر بالشعر إذا يخلق قصيدته.
إن قصيدة كهذه لابد أن تأتى درامية على نحو ما لأن الواقع المفارق كان درامياً أمامها، ومن ثم يحق للشاعر أن يمارس لعبة الجمع بين الأضداد والمتناقضات ويلم شعث الأشياء وشتاتها مثلما رأينا بين "دمعة وغيمة" و "الحديث والسكوت" و "الأفق والطريق".. يحول الأشياء إلى كلمات ويؤلف بينها ويحركها وفق معطيات جديدة وناموس مغاير، ورغبة مراوغة، كأن ينخر السكوت ويستنطق الأبواب الساكتة باحثاً عن الحياة مثبتًا للحركة نافياً الموات.
وهكذا تصبح حركية الأشياء دالة في رؤية الشاعر، مثلما قلنا إن وعيه باللغة هو نفسه وعيه بالحياة أو بالمعنى هو يلاحق بين الوعيين إذا ينتج قصيدته
ولا أنفي بعد هذا أنني شريك مساهم في صنع الدلالة لكنما هي شراكة مؤسسة على وعي مشترك بيني وبين الوعي الشعري الكامن في النص.. بيد أن نجاح النص في أنه سمح لي بهذا الشراكة في الأساس، واجتذبني نحوها. بمظهره البسيط وكلماته المألوفة وسحره الخفي وهندسته المنمقة وتعالقاته البسيطة، وأوغل بي خلف كل هذا إلى عمق قد لا نصل إلى آخره.
ثانيا: الرومانسية المراوغة بين النصاعة والغموض:
النص الشعري الحداثي لا يعبأ برصد الواقع على علاته ولا يهتم بوصف ظاهره الفيزيقي كما أنه لا يسجل العلاقات بين الأشياء كما هي وإلا تحول النص الشعري إلى تاريخ، ومن ثم لا يحق لنا وقتها أن نبحث عن شعرية ما كامنة في النص حتى وإن بدت الصفة الأدبية بارزة.. فليس كل ما هو أدب يقال له شعر. والنص الشعري الجيد هو الذى يشف بملامح الواقع إذ ينعكس على مرآة الذات.. وعليه فإن هناك مساحة ما يبدأ عندها انعكاس الواقع على مرآة الذات وهى مساحة ليست مكانية فقط أو زمانية فقط.. إنها مساحة من تاريخ العلاقات بين الذات الشاعرة والواقع. لهذا يأتي الواقع بظلاله وخيالاته في النص، يتجسد بقدرة الشاعر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.