خالد زيادة احد الأشكال الأدبية التي شهدتها اللغة العربية في العقود القليلة الأخيرة، تتمثل بكتابة السيرة الذاتية، التي يخوض فيها سياسيون ورجال أعمال وعسكريون وبطبيعة الحال أصحاب القلم من رجال الفكر والأدب والصحافة. والسيرة الذاتية، كما يعكس اسمها، تعبر عن أشيا عديدة غير الخوض في نوع أدبي. اذ انها تعكس في المجال اللغوي العربي نزعة تمييز التجارب الخاصة، كما انها التعبير عن تبلور الفردية. واذ لاحظ أحد المستشرقين ان الأدب العربي الكلاسيكي يكاد يخلو من كتابة السيرة الذاتية، فإن الأدب العربي الحديث، الذي يعكس المؤثرات الفكرية العالمية، كما يعكس التطورات الاجتماعية التي شهدها عالمنا العربي، اتاح تبلور الفردية بنسب متفاوتة. إلا أن كتابة السيرة الذاتية عادة ما تبحث عن مبررات، فأولئك الذين لعبوا أدوارا في الشأن العام أو القادة والرؤساء والسياسيون يجدون في تجاربهم ما يبرر امتشاق القلم لكتابة سيرة تعبر عن تناغم بين العام والخاص. وبهذا المعني فإن السيرة تقترب والحال من كتابة التاريخ من منظور شاهد علي أحداثه. إلا أن فرحان صالح في كفر شوبا قصة حب وسيرة مكان، يتواري دون أن يغيب، خلف ذريعة كتابة سيرة البلدة الجنوبية التي ولد فيها وسط عائلته المديدة. واسم كفر شوبا وحده يكفي ان يقدم المبرر لكتابة سيرة يكون البطل فيها بلدة شهدت أحداثا جساما منذ أربعة عقود ولايزال اسمها يتكرر لموقعها بين حدود لبنان وسوريا وفلسطين. ومع ذلك فإن ما يكتبه فرحان يتطرق إلي سنوات وعيه الأولي في بلدته تلك، العائلة، الوالد بالدرجة الأولي، ثم الأهل وسكان القرية: "كانت حياة سكان القرية، وحياة العائلة فيها مرآة لحياة الطبيعة، تتجدد حياة الناس بتجدد الطبيعة والعكس بالعكس..." ليس ثمة قواعد لكتابة السيرة، مكان أو شخص أو غير ذلك. لذا فإن فرحان لايتحدث كثيرا عن نفسه في كتابه عن كفر شوبا، بل يبدأ بالكلام عن بيئة البلدة مستفيدا من علم الاجتماع لرصد أحوال البيئة الريفية اللبنانية وعاداتها، واستقبالها للمدرسة الوحيدة حين كان لايزال تلميذا استقبلته وتأثره بأساتذتها المختلفي الطباع الذين تركوا اثرا في تكوينه. لكن فرحان كان عليه أن يغادر كفر شوبا الي العاصمة بيروت وهو بعد في الثانية عشرة من العمر، لمتابعة الدراسة ثم العمل. فعادة ما كان الريف يضيق بأهله وشبانه، إلا أن فرحان حمل قريته معه وغادرها دون أن تغادره. وكان عليه أن يشق طريقه في مدينة كانت في الستينات من القرن العشرين تستقبل كل جديد من العالم المعاصر. لكن قساوة الحياة لم تسمح لفرحان بأن يغرف من بيروت القاسية علي امثاله فيضطر الي العمل بعد ان يتوقف عن الدراسة ويجد نفسه في خضم الأحزاب والحركات السياسية وخصوصا بعد عام 76 فيعود ليلتقي بكفر شوبا التي ستصبح مشرحا للأحداث والوقائع. وكان حظ فرحان صالح ان يعمل في مجال الكتاب مديرا لمكتبة دار الطليعة في منطقة الطريق الجديدة علي مقربة من جامعة بيروت العربية، وقريبا في مخيمات الفلسطينيين مجاورا لاحداث السبعينات متعرفا الي قادة الفصائل ورواد الفكر في تلك الآونة، فكان عمله في مجال الكتاب بمثابة مدرسة له عوضته عما افتقده من الدراسة النظامية والاكاديمية. هذه السيرة التي يتزاوج فيها الاجتماعي والتاريخي مع المكان الجغرافي الطبيعي، تبدو كأنها صدي للبيئة والوقائع السياسية، بحيث يتواري الفرد خلف العائلة والمدرسة والحزب. هكذا يري فرحان صالح نفسه، انه نتيجة بيئة واحداث لايد له فيها، وهو صادق في ذلك، إلا أن ما يقوله في سطور هذه السيرة يعكس ايضا الثقافة الشائعة التي تقول اننا أبناء الظروف التي تصنعنا. إلا ان ذلك كله ينبئنا بأن الفردية لم تجد المدي الرحب للتعبير عن ذاتها، أي ان ثقافتنا المشغولة دائما بالقضايا الكبري لاتجد متسعا لسير الأفراد. ألم يقل لنا فرحان ان والده ابصر النور مع بداية الحرب العالمية الاولي، وان كاتبنا ولد في خضم الحرب العربية الاسرائيلية، الا يضمر ذلك كله الاعتذار عن الاستفاضة في الحديث عن الذات، كأن الذات لاتبرر نفسها الا بالانتساب الي الوقائع التي تتجاوزها. كل ذلك في اطار من المتعة والتشويق. ففرحان كتب ما كتبه بدافع الحب والحنين. فهذه قصة حب، كما يقول في العنوان، وارتباط بالأرض والحنين الي الذكريات المليئة بالمعاناة التي عبر عنها الكاتب خير تعبير. * استاذ جامعي يشغل حاليا منصب سفير لبنان في جمهورية مصر العربية والمندوب لدي جامعة الدول العربية والسيرة هذه كفر شوبا قصة حب سيرة حياته ستصدر قريبا عن المجلس الأعلي للثقافة.