هل خطر علي بالك من قبل أن يكون للعقول أنواع؟ أو أن يكون لك أكثر من عقل الكتاب الذي أقدمه لك اليوم اسمه »أنواع العقول« بعنوان فرعي: »نحو فهم الوعي«، مؤلفه ليس طبيبا نفسيا، أو عالم نفس، أو أستاذا في الأنثربولوجيا أو في المخ والأعصاب، المؤلف هو »دانييل دينيت« أستاذ الفلسفة حاليا بقسم فلسفة العلوم في جامعة لندن، وكان محاضرا ثم أستاذا مساعدا في الفسلفة جامعة كاليفورنيا، وقد استقبلتُ ما كتبه فرحا وهو يقول عن نفسه في مقدمته: »أنا فيلسوف ولست عالما«، أهمية هذه الجملة عندي جعلتني أقرأه علي أنه فيلسوف أكثر منه أستاذا في الفلسفة (هناك فرق!!)، وقد فرحت أنه ليس عالما (بالمعني الذي نفاه غالبا)، وإلا كان اختنق بمنهج أعتقد أنه كان سيحول بينه وبين أن يثرينا بكل ما أثرانا به هكذا: في آخر سطور الكتاب عاد المؤلف يقول: «.. ولما كان هذا الكتاب لفيلسوف، فإنه ينتهي، لا بالإجابات، وإنما ينتهي بنُسخ معدلة من الأسئلة نفسها، وهي علي نوع أفضل». تعالوا نري معا تواضع استعمالنا شعبيا ودينيا وعلميا لكلمة «عقل»: في الحديث العادي فيما بيننا نسمع هذا الحوار: «هوا حد شاف ربنا؟ قالّك لأ، ... قال أمال ربنا عرفوه ازاي؟ قالك بالعقل»، الحس الشعبي لا يقصد العقل الممنطق السببي الخطي، لكنه في الأغلب يقصد البديهة اليقظة، والوعي النقي، وهو يتجاوز الحواس الخمس (لا أحد شاف ربنا)، إلي ما بعدها من إدراك حي يتجلي في فطرة الأطفال وإيمان العجائز. إن عقلنا الحديث المغرور أعجز من أن يثبت وجود الله إلا بمنطق مسطح. ليس معني هذا أن عقلنا البدائي هو الأقدر علي إثباته، لكن الذي يستوعب وجود الله سبحانه بالمعني الحقيقي الحاضر في الداخل والخارج وفي كل »ذرة مكان« و»لحظة آن« هي كل »أنواع« عقولنا معا، في لحظة لها أثر باق، قابلة للتجلي بيقين منير، بلا حاجة إلي إثبات عقلي بالمعني الشائع، وإنما بالإدراك الأعمق الذي يتناغم مع الوعي الكوني فنتوجه إلي وجهه تعالي نعرفه فلا نعرفه لنعرفه: »ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء«. تسطيح آخر يتم بحسن نية، وترديد عفوي يؤكده المسلم الطيب الكسول فرحا مرددا »إن الإسلام هو دين العقل«، وهات يا استشهاد بالآيات التي وردت فيها كلمة العقل، ويعقلون، ويتفكرون، يرددها بعيدا عن سياقها أحيانا، ومستندا إلي تفسيرها المعجمي المكتوب أحيانا أخري، وكأنه بذلك قد اطمأن إلي أن دينه هو الدين الحق لأنه دين العقل(!!)، لو علم هذا الطيب المستسهل أن المسألة لم تعد بهذه البساطة، وأن ما يسمي عقلا حتي من منطلق الاستعمال المسمي العلم أو المنطق قد تراجع إلي مكانة شديدة التواضع، إذن لعدل كثيرا عن هذا الحماس، الذي أعتقد أنه هو هو الذي يدفع فريقا آخر إلي ممارسة وترويج تلك البدعة التي يسمونها »التفسير العلمي للقرآن«، وهم منجذبون بسحر لمعة العقل العلمي المعلوماتي المعجمي، وهو أصغر وأعجز من نبض الإدراك وحدس اليقين وإعجاز القرآن الكريم. فما هو العقل يا عمنا الفيلسوف؟ بملاحظة العنوان الفرعي، واحترام كل ما أورد الكتاب من روعة برامج البقاء عبر تاريخ الحياة، تصبح العقول هي: منظومات وبرامج الوعي القادر علي التكيف والتكافل للبقاء والتطور، والله سبحانه هو الذي خلق كل سلالة مستويات العقول المتلاحقة المتكاثفة المتبادلة، ونحن نحتاج إلي تنشيطها جميعا معا إبداعا في محاولة التوجه للتعرف علي من »وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ«، »وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ«.