طالبني الكثيرون، في سياقات مختلفة، بإلقاء الضوء الكاشف علي حقيقة الدور الذي لعبته قناة التنوير الثقافية، والأسباب الحقيقية لإغلاقها، وكنت - ومازلت - لا أتحمس حماساً كبيراً لهذا الحديث، لأنني ممن يحبون النظر إلي المستقبل ومقتضياته، وكيفيات التغيير وأدواته.. لا التلبث عند الماضي، والبكاء علي اللبن المسكوب.. ولعل رأي البعض في الاعتبار بالماضي من أجل المستقبل، هو ما حفزني - ويحفزني - أحيانا إلي التوقف عند جانب أو آخر من جوانب (قصة قناة التنوير) لما أراه من فائدة تتغيا اصلاح الحاضر من أجل تطوير المستقبل.. ومن ثم، فحديثي هنا عن التنوير، يتقصد بالدرجة الأولي.. الكشف من خلال التجربة العملية عن أبعاد تلك العلاقة الشائكة الملتهبة، والتي تتحرك دائما علي سطح صفيح ساخن بين الثقافة والإعلام من ناحية، والسلطات الدكتاتورية القائمة.. هذا هو الهدف الأساسي، وليس حكاية قناة التنوير، التي سيأتي وقتها كاملا في سياق آخر وظرف مختلف! العلاقة بين الثقافة والإعلام من ناحية، وبين الأنظمة الدكتاتورية من ناحية أخري - كما هو معروف علي مدي التاريخ - علاقة آثمة باستمرار.. يتحول فيها الإعلام إلي جهاز للدعاية الفجة للنظام الفاسد، وتتحول فيها الثقافة إلي دغدغة رخيصة له، وإلا تم نفيها ومصادرتها وإطلاق مسدس جوبليز بالفعل، وليس الاكتفاء بوضع اليد علي ال مسدس عند الاستماع إلي كلمة »ثقافة«!.. وأسباب ذلك معروفة أفاض فيها الكتاب والمفكرون وأهل الثقافة والإعلام ولا حاجة بنا إلي تكرارها في هذا السياق المحكوم.. فالأنظمة الدكتاتورية تكره حرية الرأي والتعبير، أو الخلاف والاختلاف معها ناهيك عن نقدها وكشف عوارها للناس، وشجب ممارساتها وسياساتها الخارجية والداخلية التي تتسم بالانحطاط والعمالة والانصياع للقوي الخارجية المهيمنة كثمن لبقائها المشبوه في سلطة لا تستحقها، ولذلك فهي لا تقبل من الإعلام إلا أن يكون بوقا لها يلهج بحمدها، ويطنطن بفعالها ليل نهار، مهما كان سوء هذه الفعال، وهي لا تفهم من الثقافة أيضا إلا أن تكرس - بشكل أو أشكال أخري - لنفس التوجهات السيئة والسياسات الخائنة والمنبطحة، وللأسف، تقع مجموعات لا بأس بها من الكتاب والمفكرين والقائمين بأمر الإعلام عادة، تحت سطوة هذا الإرهاب السلطوي الديماجوجي المغلف بالقفازات القذرة الناعمة ويذهب المعز وسيفه.. وإلا! المهم، توليت في مثل هذه الظروف انشاء قناة التنوير ورئاستها لمدة عشر سنوات تقريبا (1998 - 2008) ظللت ألعب خلالها لعبة القط والفأر مع السلطات المسئولة في التليفزيون، والقيادات المتتابعة لقطاع المتخصصة دفاعا عن بقاء القناة واستمرارها في أداء دورها التنويري الحق، واستقطابها الشجاع لكل التيارات والقوي والأفكار لتعبر بملء حريتها عن أفكارها واجتهاداتها وتصوراتها لحاضر الوطن ومستقبله وحلول مشكلاته، لا تفرق في ذلك بين مسلمين ومسيحيين، ولا يمين ويسار، ولا اخوان وشيوعيين.. بل لكل صاحب اجتهاد ورؤية ورأي، الحق في الحضور والمثول علي شاشة التنوير، لا نطالبه إلا بأن يقدم لرأيه من الحيثيات والبراهين العقلية والتراثبات المنطقية ما يعطي لرأيه القوة والمصداقية والقدرة علي الصمود لاعتراضات الآخرين، التي كنا نشترط أن تمتلك أيضا قوة الحجة، وجلاء الناصية، ونصاعة الفكرة وبراهينها، وبالتالي استطعنا أن ندير أصدق وأجرأ وأوضح الحوارات التي تمت في شأن الوطن وقضاياه الملحة في هذه الفترة، وكان معظمها مما لا ترضي عنه السلطات القائمة ويتناقض مع السياسات والتوجهات المعلنة والسائدة، ويعاكس وطنيا وثقافيا وقوميا وفكريا الموقف الانبطاحي السائد ويضاده علي طول الخط! وأدرك المسئولون ذلك بوضوح، ولكنهم في نفس الوقت، كانوا يستمرئون ما يقال لهم من مديح، باعتبار أن العرب وغيرهم كانوا يعبرون في مناسبات مختلفة عن دهشتهم لوجود مثل هذه القناة المناوئة (برغم انها قناة حكومية) ويبدون سعادتهم بهذه الروح المتسعة (للحكومة) و(للإعلام) الرسمي.. إلخ! هذا من ناحية، ومن ناحية أخري، كانوا لا يتحملون تلك الأوتار الصارخة التي تعزف عليها »التنوير« وتشكل احراجا لهم أمام الرئاسة التي لم تكن تهتم باتساع ولا ديمقراطية ولا تنوير ولا يحزنون إلا علي سبيل الطنطنة الفارغة والادعاء الكاذب والاستهلاك الكلامي، ومن ثم بدأت الحرب - الخفية والمعلنة - علي »التنوير«.. بالتضييق الهائل عليها في كل تفاصيل العمل الضرورية، بدءا من الأوقات المخصصة لارسالها، إلي الامكانات الفنية المتاحة لها، إلي الاعتمادات المخصصة لها أسوة بزميلاتها، إلي الموافقة علي البرامج الجديدة لها، وإلي تحديد فئات هذه البرامج أيضا.. التي لم يكن يمنع الموافق عليه منها إلا أدني الاعتمادات المالية، هذا في الوقت الذي كان يكال لقنوات أخري من الامكانيات والاعتمادات والموافقات وساعات الانتاج والمونتاج وتكلفة البرامج... الخ، ما يجعل المقارنة بين التنوير وغيرها.. غير جائزة ولا ممكنة أصلا، وذلك ببساطة، لأن (القنوات الأخري) في معالجتها للشأن الثقافي.. كانت تمثل هذا النوع من الأداء التليفزيوني الثقافي (البراني) الذي يبتعد باستمرار عن (المشاكل).. ويقف من الثقافة.. يا إما عندما تريده السلطات القائمة بالضبط.. من ثقافة (منزوعة) الدسم إذا جاز التعبير، ثقافة القشور والمظاهر والبهرجات والمهرجانات، والتركيز علي تلك الجوانب المحايدة الفاترة والتي لا معني لها.. ثقافة (معقمة) منزوعة من سياقاتها، ودلالاتها، تحتفل بالشكلي الفارغ، وتبتعد عن الجوهري العميق، تعرض لبعض مظاهر الفن الشعبي مثلا، دون أن تهتم بتأصيله وتجذيره في وجدانات الناس وتاريخ الشعب، تمالي الاتجاهات المتطرفة والمغلقة في الدين، علي حساب الاتجاهات المستنيرة والتقدمية والعقلانية في فهم الدين، تهتم (بالمظاهر) الثقافية - كما هو شأن المرحلة بأكملها - بلا أبعاد.. وبالظواهر بلا أعماق.. وبالكتب بلا مضمون.. وبالفكر كأبنية هيكلية مفرغة.. موجودة في فضاء معلق لا أرض له ولا سماء! وتبتعد عن تلك الكتب والقضايا والأفكار المثيرة للأسئلة، والمقضئة للسلطات، والمقلبة للأمر، والرافضة للقبول المذعن لصيغ الواقع المطروحة وهو ما كانت تفعله »التنوير« وشكّل باستمرار بديلا مزعجا للمسئولين عن الإعلام الرسمي الحكومي الذليل، ومن ثم تتالت محاولات حصار هذا التوجه بكل الطرق، وتعلمنا في التنوير - من ناحيتنا - أن نعمل بأقل الامكانيات وأن نحظي باحترام الحياة الثقافية المستنيرة التي آزرتنا بقوة، وأدركت الفارق بيننا وبين غيرنا باستمرار! لا أريد أن تستغرقني التفاصيل وهي كثيرة وبالغة الدلالة، ولعلنا نعرض لكل ذلك في سياقات أخري، المهم، أن هذه الروح تعاملت مع (مواضعة التنوير) (بجد) كمفهوم عقلاني ونقدي مستنير فعلا، يقدم الصورة كاملة بمصداقية تامة وبلا كذب ولا تجميل ولا تمويه، ويتعامل مع الحقائق بلا مواربة، ولا أقنعة، ولا تزييف، لا يخدع الناس عن أنفسهم وعن وطنهم وعن حياتهم، وعن مآزق اللحظة التاريخية التي يكابدونها علي كل الأصعدة السياسي منها والاجتماعي والثقافي والفكري والاقتصادي والعلمي... إلخ. وهنا أشير، علي سبيل المثال، إلي الحد المرعب - من الجبن والخسة والنفاق المرذول - الذي وصلت إليه إدارة الأمور بهذه الواقعة الطريفة الدالة - بمنطق شر البلية ما يضحك - والتي كانت بطلتها رئيسة لقطاع المتخصصة وقد طلبت مني ذات مرة الاطلاع، قبل بداية شهر يوليو - علي الأغاني الوطنية التي نزمع إذاعتها في هذا الشهر كما نفعل كل عام، وعندما وجدت أن هذه الأغاني في معظمها كانت أغاني (ثورة يوليو) المعروفة - وكان هذا طبيعيا تماما في هذا الشهر علي الأقل - حذفتها كلها.. ووضعت بدلا منها الأغاني المباركية عن »الضربة الجوية« و»فتح باب الحرية«.... الخ.. الخ ! (لم نذعها طبعا) المهم، أن العلاقة بين الثقافة والإعلام من ناحية والسلطة من ناحية أخري عبر هذا النموذج الحي (التنوير).. كانت علاقة بائسة، تحاول فيها السلطة باستمرار أن تخضع (التنوير/ الثقافة) لزيفها وكذبها وتمويهها علي الناس وأبت (التنوير) أن تخضع لهذا الابتزاز السلطوي الجائر، واختارت أن تقوم بدورها حتي تم اغلاقها بالكامل علي أيدي أنس الفقي وأحمد أنيس وأسامة الشيخ، وهذا حديث آخر علي أي حال.. ولتكون هذه هي المرة الأولي - ونرجو أن تكون الأخيرة - في تاريخ الإعلام المصري، التي تفتح فيها قناة تليفزيونية كبيرة، ثبت علي الفضاء الواسع للعالم كله، وليس العالم العربي أو مصر وحدهما، وتستمر لمدة عشر سنوات في لعب دورها التثقيفي والتنويري الحر والأمين والصادق، وتحوز أرضية واسعة ومحترمة عند قطاعات كبيرة وعديدة من الشعبين المصري والعربي، ويتم اغلاقها في النهاية كعنوان متجسد لممالأة الإعلام المنبطح للسلطة السياسية القائمة، وخيانة الرسالة الإعلامية الشريفة، والسير ضد مصالح الناس (بفلوس الناس) ولكن هل كانت عدالة السماء بعيدة عن هؤلاء الخونة جميعا!!