مايضطرب علي سطح الإعلام المصري الآن - خصوصا المرئي والمسموع منه - هو مادفعني دفعا إلي كتابة هذا المقال، لا للتشفي فيمن أفسدوا الإعلام المصري كالفقي والشيخ وأذنابهما. وهما بين أيدي العدالة الأمينة الآن! ولا البكاء علي أطلال الماضي، والتفجح علي اللبن المسكوب والمال المنهوب- لقناعتي الذاتية أن كل هذه المشاعر السلبية. من تشف وتفجح وبكاء وندم لامعني لها - ولافائدة منها - إلا زيادة حجم المشاعر السلبية- والآلام النفسية، داخل العقل والروح بما يتسبب يقينا في جرحهما وإيذائهما - أقصد العقل والروح - داخل الكيان الإنساني الذي قد يستسلم أحيانا - وله العذر - لمثل هذه المشاعر المقيتة السوداء! وإنما مادفعني لهذه الكتابة، ولو السريعة كما قلت، هو المستقبل - بالدرجة الأولي والأهم المستقبل الذي ننشده جميعا لإعلامنا المصري، ولحياتنا المصرية كلها، والذي لابد لنا فيما نحن نرسم ملامحه ، ونحدد قسماته، ونقنن لأبعاده، وننظر لمستوياته.. أن نأخذ العبر في كل ذلك من بعض ماحدث في الماضي من سلبيات صغيرة أوكبيرة أحيانا أومعوقات هينة أو ضخمة في أحيان أخري، وأفكار وقناعات معطلة ومعيقة في كل الأحوال. الخبرة والتجربة وأظن -في هذا السياق- أن الخبرة المباشرة، والتجربة الحية، والمكابدة الدائمة خلال عمر بحاله، لهذا الجهاز الإعلامي الضخم علي أصعدة متعددة.. هو السبيل الأمثل- فيما أري. نحو استخلاص هذه العبر، واستنباط هذه الدروس، علي الأقل من وجهة نظري، وهي وجهة نظر- فيما أظن متواضعا- لها وجاهة ما بحكم كل ذلك.. أهم مالمسته عبر أربعين عاما تقريبا عملت فيهم في هذا الحقل.. هو غياب أي مفهوم من أي نوع »للثقافة« عن عقول القائمين والمتصدرين والقائدين لهذا العمل الإعلامي! حتي عند قصر هذه (الثقافة) علي جوانب العمل الإعلامي المختلفة نفسها. فلا أذكر - علي سبيل المثال - ان القيادات المتعاقبة لقنوات النيل المتخصصة كانت تتمتع بأية أبعاد ثقافية، أؤ معرفية، ناهيك عن فهم لمعني «الثقافة» حتي ولو علي المستوي الإعلامي!. ولا أستثني من هذا الحكم إلا الأستاذ حسن حامد عندما كان رئيسا لقطاع المتخصصة.. أما ماعداه من رؤساء متعاقبين لقطاع المتخصصة، فقد كانوا يتمتعون بافتقاد هائل وغياب كامل لفهم (الثقافة) علي نحو شامل. ووعي كلي، يقدر أهميتها في بناء منظومة إعلامية..متقدمة.. وطبعا كان الاختلاف بين رئيس قطاع وآخر يليه أو يسبقه هو اختلاف فقط في درجة الجهل بأهمية الثقافة وضرورتها! ولأنه كانت هناك، برغم ذلك، وهنا المفارقة، قنوات ثقافية موجودة.. ربما لاستكمال (البوكيه الشكلي) للقنوات المتخصصة، فقدتم حصر وحصار هذه القنوات(الثقافية والتنوير) باستمرار.. حتي قبلت واحدة منهما وهي (الثقافية) أن تسقط في فخ السطحية والدعائية والبهرجة الخارجية، وتقف عند حدود الشكلية الثقافية التي لاتقدم ولا تؤخر.. ومن ثم أعطيت المزيد من الامكانات، وتمت البحبحة لها لتمارس هذا النوع من الثقافة الفارغة، أو من المسائل (المدهونة) ثقافة من بره، ولكنها - عميقا وجوهريا - تساهم في تسطيح الثقافة المصرية وتشويهها وتزييف وعيها، والوقوف عند أبعادها المهرجانية، والاحتفالية، والشكلية.. دون الغوص - عميقا - في قضايا الثقافة المصرية الحقة.. الموقظة والمنبهة. والمركزة علي نقاط القوة في هذه الثقافة، وعلي انبعاث الجوانب الدالة والمؤثرة والحقيقية للشخصية الثقافية المصرية في استنادها إلي خصوصيتها الحضارية الفرعونية القبطية الإسلامية المعاصرة، من أجل المساهمة في صياغة وعي بصير وحقيقي بدور مصر الطليعي والطبيعي في أمتها العربية.. ودور الثقافة المصرية العربية في رفد الثقافات العربية المعاصرة.. المقاومة والمناوئة لخطط التمييع والتسطيح،، واستلاب العقل، وانتهاك الروح، وابتذاك الوجدان.. وهو الدور الذي ظلت تضطلع به (قناة التنوير) - بكل امكانياتها الفقيرة- ومن ثم زاد حصارها والتضييق عليها وخنقها بكل الوسائل الممكنة، حتي تم إلغاؤها علي يد هذا الجاهل الاكبر أسامة الشيخ.. وكان هذا الدعاء السافر والواضح لهذه القناة متوارثا كتقليد ثابت وعرف متبع! من كل رؤساء القطاع المتعاقبين حتي أنهم - في عدائهم السافر هذا دائما للتنوير - كانوا يذكرونني باستمرار بمقولة جوبلز وزير الدعاية الهتلري حينما كان يضع يده علي مسدسه عندما يسمع كلمة (ثقافة)!! أبعاد سياسية واستراتيجية وللحقيقة، لانريد أن نحيل الأمر فقط إلي (جهل) هؤلاء الرؤساء للثقافة.. ومن ثم إلي العداء الشخصي بينهم وبينها، علي أساس أن المرء عدو مايجهل وإنما لابد لنا أن نقر أن هذه الضحالة الثقافية لدي هؤلاء الرؤساء والقيادات واكبت عداوة لاشك فيها علي مستوي الاستراتيجية العليا للإعلام والثقافة في البلاد، وعلي مستوي القيادة السياسية أصلا وأساسا! هذه القيادة التي اختارت من البداية، الارتماء المخزي والمهين في أحضان الأمريكيان والصهاينة والتبعية الذليلة والذيلية الكاملة لهما، بما كان يثير دهشة الأعداء قبل الاصدقاء من هذا التخاذل غير المبرر، والانحطاط غير المسبوق، وغير المفهوم، لسلطة ورثت ثورة عبدالناصر العظيم، وبما دفع الأعداء أنفسهم إلي الحديث عن كيف أن هذا الرجل المتهاوي المتخاذل المتواطيء حسني مبارك.. هو بمثابة (كنز) لدولة إسرائيل، ومن ثم، فلم يكن مستغربا بعد سقوطه المدوي أن يكون (الصهاينة) هم أكبر الحزاني المبتئسين علي سقوطه، ولعلهم عاتبوا الأمريكان لسرعة تخليهم عن عميلهم الحقير كما يقال ويشاع! من رئيس جمهورية لرئيس عصابة هذا الموقف البائس، الذي اتخذه مبارك من البداية ضد شعبه، وضد قيم هذا الشعب المصري العربي.. هذه القيم الجوهرية في التحديد الدقيق لأعداء الأمة التاريخيين، وبالتالي ترتيب المرجعيات، وتحديد الرواسخ القيمية والوجودية والمعنوية.. الخ، والتي ترسم - بدقة - سلم القيم لشعب من الشعوب، وتكرس لمنظومة الثوابت التي لاتقبل العبث، والتي يعني التهاون فيها، والترخص في اعتبارها وتثمينها.. انهيار الأرضية القومية والوطنية. وبالتالي انهيار الثقافة التي يستند إليها هذا الشعب في نضاله وحياته ووجوده بل واستمراره، وأظن - وسيثبت لنا البحث التاريخي الدقيق - ان اجتراء مبارك ونظامه الفاسد،( وإعلامه التابع البائس، علي العبث بهذه الثوابت الوطنية، والأعمدة القومية للشخصية المصرية.. هو المسئول - بشكل كبير - عن التهاوي السريع والمدوي لهذا النظام الأبله نفسه! الذي لم يدرك. انه في محاولته لتفريغ الأمة المصرية من محتواها الثقافي، وبعدها النضالي، ولحمتها الوطنية، وثوابتها القومية، وأبعادها الفكرية والتاريخية، وخلخلة تصوراتها الثابتة لمن هوالعدو ولمن هو الصديق- علي سبيل المثال - كان يفرغ في الوقت نفسه. تلك الأرض التي سقف عليها هونفسه (ونظامه طبعا) ويخلخل صلابتها،،ويزعزع تماسكها، بما أدي إلي انهيارها المباشر والسريع عند أول (نفخة).. فأن تتخلي - هكذا ببساطة، وبقصر نظر مدهش (كنظام) - أي نظام - عن الثوابت التي صنعت هويتك، وشكلت اختلافك، وبلورت موقفك الوطني، وحددت أنتماءك القومي، وكونت تاريخك المصري/ العربي.. وباختصار. رسمت ملامحك المصرية والوطنية والقومية.. علي مدي عصور متطاولة في التاريخ وأحقاب موغلة في الزمن.. فأنت هنا، وفي هذه الحالة، وبدون أي شك، تلعب بالنار. التي ستأتي عليك في النهاية.. لأنك فرطت - ببساطة - في كل مايصنع لك حضورا ووجودا وهوية وخصوصية إزاء الآخرين ومن ثم، لم تعد نظاما يحكم وطنا له ملامحه ومنطلقاته وعقائده الوطنية وثوابته القومية ودعاماته النضالية التاريخية وأسسه الثقافية.. الخ، وإنما تحولت - بلا أدني مبالغة- إلي تشكيل عصابي، وإلي جمعية فسدة ومنتفعين، إلي جماعات نهب وسلب.. وإلي مجرد راع فاسد لقطعان من نهازي الفرص لسرقة الوطن لا الانتماء له، وإلي بيع الأرض لا الدفاع عنها، وإلي الاتجار بالثروة القومية لا الغيرة عليها لمصلحة الأمة كلها.. إلي آخر مانسمع ونقرأ كل يوم.. وماخفي كان أعظم!! تسليح الوطن والثقافة ومن ثم كان نظام مبارك (وإعلامه) معاديا عداء صريحا واضحا للثقافة بكل أشكالها ومثلها ودلالاتها ومعناها، وتم تفريغ (الثقافة) في عهده المنحط من مضمونها الحقيقي المقاوم المناضل الناهض الباعث المحرك المشعل للأمة.. إلي مجرد تلك الأبعاد الشكلية المهرجانية الاحتفالية التي تستبدل العمق بالسطح، والبهرجة بالمضمون، والجدوي بالدهانات الخارجية.. الخ، وهو ماكرس لبقاء هذا الوزير - الفنان (الفتان)! للثقافة الممثل والمعبر عن كل ذلك طيلة هذه السنوات (ربع القرن تقريبا) لم تتقدم فيها الثقافة المصرية قيد أنملة، بل تم تحويلها - علي كلامهم - إلي سلعة ومشروع يسعي للربح.. إلي آخر هذه النغمة البائسة التي مافتيء يرددها أهل النظام جميعا في الثقافة والإعلام والاقتصاد.. الخ، وهم يخفون بذلك عمليات النهب غير المعقول والسلب المنظم لمصادر الثروة والقوة عند هذا الشعب المصري الصابر لحساب مطامعهم وجشعهم وخستهم وانحطاطهم الذي تتكشف أبعاده المهولة وصفحاته غير المعقولة يوما بعد يوم!! عملاء ماسبيرو ولم يكن الحال داخل ماسبيرو عن كل ذلك ببعيد، فحينما كنت أعمل في الادارة المركزية لمتابعة برامج الإذاعة والتليفزيون، وكان منوطا بي - لسنين طويلة - متابعة الشأن الثقافي في برامج التليفزيون.. استلفت نظري، باستمرار هذا الضعف البادي للمادة الثقافية في قنوات التليفزيون وبرامجه (كما وكيفا).. فالمادة الثقافية المقدمة في معظم الأحيان (سطحية) و(ضحلة).. مسايرة للتوجيه السياسي/ الاستراتيجي في التعامل مع الثقافة، وتحجيم دورها بل وإضعافه. وأيضا قليلة جدا من ناحية الكم، برنامج هنا.. وآخر هناك ليس إلا! وأذكر من الطرائف التي تروي في هذا السياق، حينما كنت رئيسا لقناة التنوير الثقافية المتخصصة، وكنا مقبلين علي شهر يوليو، واشتهر عن القناة في سنوات سابقة لتولي السيدة تهاني حلاوة رئاسة القطاع! أننا نذيع - بهذه المناسبة - الأغاني الوطنية المعروفة والمشهورة لثورة يوليو طيلة هذا الشهر في إطار الاحتفال بأعياد الثورة، وإذ بالسيدة الحصيفة الذكية الواعية المنتبهة (الحكومية) ترسل لي خطابا رسميا تطلب فيه تحديد الأغاني الوطنية التي تنوي القناة إذاعتها في هذا الشهر، وطبعا أرسلنا لها بما تريد، وإد بها - بلا خجل ولامواربة وهي قريبة السيد زكريا عزمي (وكم أزلت أعناقنا طويلا بهذه القرابة البائسة)! واستغلتها استغلالا ماديا لابد من التحقيق في أبعاده جيدا. وهذا حديث آخر (علي كل حال) تشطب علي كل الأغاني الوطنية الخاصة بثورة يوليو، وتؤشر بعدم إذاعة هذه الأغنيات ومازال عندي صورة من هذا الخطاب الفذ الذي يدل إلي أي حد وصل بنا الكذب والنفاق، وخيانة ضمائرنا، والعبث حتي بتاريخنا وأيامنا وثقافتنا.. وكيف أن كل القيم مهما كانت، هي رهن (بمزاج السيد الرئيس، بل وبفهم القيادات المتسلسلة في كل المواقع في الدولة (لهذا المزاج) لا توجد تعليمات مكتوبة.. نعم، لاتوجد توجيهات محددة.. حقا، ولكن يوجد تراث ثقيل من النفاق والقرع (والابتكار فيهما، من منطلق الحرص علي البقاء في الكراسي.. يجعل الجميع ملكيين أكثر من الملك ويحفزهم إلي الاشتطاط والتخريج والابتكار في تفسير نوازع السيد الرئيس، وفهم (مزاج فخامته) علي رأي الأقوال المصرية الساخرة من هذه الدرجات النفاقية المستعصية، حينما يقولون عن الموظف الصغيرمنافقا للموظف الكبير -مثلا- "أحلام سعادتك أوامر ياباشا"! خلاصة الأمر المهم، ما أريد أن أستخلصه للمستقبل، قبل أن أغادر هذه النقطة، أن التكريس الواجب (للثقافة) في أجهزة الإعلام في القنوات والإذاعات والصحف والمجلات وكافة المؤسسات الوطنية المصرية في الحقيقة، ليس في مجرد التحديد الإستاتيكي لكتلة فكرية دوجماطيقية صماء، أو مواضعة مسمطة ومغلقة ومعزولة نسميها (الثقافة) وإنما الثقافة المقصودة هنا.. هي روح تسري، وهوية تشكل خصوصية، وطابع قومي، ورؤية وطنية، وموقف ينعكس في مجمل مانأخذ وندع من قرارات.. الثقافة اختيارات، وتجابهات، باتجاه الغد والنور والمستقبل، ضد الجهل، وفقر الفكر، والتعصب، وضيق الأفق.. الثقافة مرونة واتساع وحوار وعقلانية ورحابة صدر، وإيمان بالأجيال الجديدة الصاعدة، ومنحها الفرص، وبث الثقة في نفوسها لتولي المسئوليات.. الثقافة.. حضارة مصرية ممتدة من الفراعنة للأقباط للمسلمين للعصر الحديث.. كل هذه الطبقات المعرفية والتاريخية تحضربلا تمايز ولاتفاخر ولا إقلال ولامبالغة.. لصنع الملامح القومية للشخصية المصرية المعاصرة، وهذه الملامح متدامجة، متداخلة متوحدة، متعضونة مع بعضها البعض، لا نستطيع فصلها، ولا استبعاد إحداها، ولا إنكار أجزاء منها لحساب أجزاء أخري.. مستحيل، لأنها- هذه الأبعاد جميعا- انصهرت في بوتقة مصرية واحدة علي مر العصور وكر الدهور، فذاب البعد الفرعوني في البعد القبطي، وكلاهما ذاب في البعد الإسلامي، وكلهم ذابوا في البعد المعاصر للشخصية المصرية.. فلا أستطيع أن أحدد بدقة في تكويني المصري المعاصر.. أين ينتهي الفرعوني فيّ ليبدأ القبطي، وأين ينتهي القبطي ليبدأ الإسلامي، وأين ينتهي كل ذلك ليلوح وجهي المعاصر، وهل العلاقة بين هذه الأبعاد جميعا هي علاقة انتهاء وابتداء حقا، أم علاقة اندماج وانسجام وتداخل وتوحد وتمازج.. صنعت هذه المزيج المتحد الثري والنادر المثال والمتميز جدا لهذه الشخصية المصرية المعاصرة الفذة التي بهرت العالم أخيرا بثورتها ونضجها وتحضرها وعظمتها، والتي جعلت لا أذكر من من زعماء أوروبا يقول معلقا علي الثورة المصرية.. "المصريون كالعادة يصنعون التاريخ"!.